النبوغ اشراقة متوهجة لا بد لها من الظهور
اجل ان الكاتب والشاعر العظيم يدل كل منهما على نفسه رغماً عنه ، لان النبوغ اشراقة متوهجة لا بد وان تأخذ محلها من فراغ العالم متى أتيح لها الظهور. والادب والصحافة كلاهما ككل فن من الفنون التي عرفها الانسان وتعلق بها لما لها من السحر في نفسه يعتمدان على الموهبة لا على التكلف وعلى السليقة لا على التلقين . ولولا ذلك لكان في مقدور كل حفظ الشعر واوزانه وقوافيه ان يصبح شاعراً ، وكل من اطلع على كتب الادب قديمها وحديثها ان يصبح كاتباً . ولكل كاتب ولكل شاعر شخصية مميزة هي السمة التي لا يمكن ان تخفى مهما حاول ان يكبتها حينما يريد أن ينتج . لأن انتاجه هذا تعبير عما في نفسه مــن أمــاني وأحاسيس وذكريات مؤلمة أو مفرحة قد يستمدها من شعوره أو لا شعوره . وفي كلا الحالتين يفصح بواسطتها عن جانب من شخصيته المعنوية ، هذه الشخصية التي تتأثر وتتطور مع الظروف فيتأثر معها الانتاج ويتطور . واذا عرفنا ان هذه الشخصية التي يفصح عنها التعبير عن طريق النثر او الشعر تختلف قوة وضعفاً بين انسان وآخر أدركنا السر في تهافت القراء على انتاج هذا وزهدهم في انتاج ذاك من الكتاب أو الشعراء .
فالكاتب أو الشاعر الفطن يفهم بشخصيته النفاذة وبصيرته القوية نفسية الجمهور ويراعي ميوله في كل ما يقدمه له ، سالكة في ذلك كل الطرق التي تؤدي لاجتذابه واستمالته . وهو على هذا الاساس يختار مادته مراعياً فيها حق الزمن والمناسبة والسبق الى كل شيء جديد مثير . مهره بأسلوبه المميز الذي يتلاعب باوتار القلوب كيفما شاء . يقول احد الكتاب الامريكيين ان المس کاتیلن نوریس تعتبر اعظم صحفية وكاتبة في امريكا كلها ، وأن دخلها يزيد على دخل أي كاتب في العالم . فهي محط انظار اصحاب الصحف لان مجرد ظهور غلاف احدى المجلات يزيد في عدد النسخ التي توزعها المجلة مئة الف نسخة مع أنها نشأت فقيرة فاضطرت لكسب معاشها الى ان تشتغل بشتى الحرف ، من ضاربة على الآلة الكاتبة ، الى بائعة في المخازن ، الى مدرسة ، واخيراً الى صحفية ناجحة تكتب الرسائل الممتعة والمقالات القوية التي جذبت اليها انتباه القراء والمصدرين على السواء . وقد تنافست الصحف الفرنسية فيما بينها على مقالات وقصص الكاتب الكبير الكسندر ديماس، بعد أن رأت رواج اي جريدة يكتب فيها . واخذ بعضها يزيد في أجور ديماس على البعض الآخر اغراء له حتى واحدة منها عرضت عليه ان يكتب لها وان تدفع له ثمناً معيناً للسطر لا ينقص ولو لم يكتب فيه سوى كلمة واحدة .
وقد ذكر كليمان فوتيل اشهر كاتب للمقالات في فرنسا في اعترافات له بعد ان مارس الصحافة اربعين عاماً ، ان مدير الجريدة سأله : هل تصلك رسائل من القراء ? وحينما اجابه بان ما يأتيه لا يزيد عن اثنتي عشرة رسالة كل يوم تقريباً طلب اليه المدير ان يعمل على ان يصله رسائل كثيرة كغيره من كتاب المقالات في العالم . وقد لبى كليمان طلبه حينما كتب مقالا يطالب فيه بالغاء طوابع البريد املا في ان تقوي الرسائل المجانية الروابط الانسانية بين المواطنين . وفي اليوم التالي تلقى مئات من الرسائل لأول مرة . وشجعه هذا على المضي في ذلك الاتجاه الحيوي . فكتب يطلب تخصيص ربع القطارات للتجار في لكثرة اسفارهم واهمية عملهم . وانهالت عليه الرسائل اكثر من ذي قبل .
فالتجار يؤيدون الفكرة ، وغيرهم يعارضون بحجة انهم أحق بذلك . وكتب مرة ثالثة يطلب توفير الاضاءة والتهوية في منازل بوابي باريس . وفي هذه المرة تواردت عليه الرسائل المؤيدة كالطوفان . يقول كليمان بعد هذه التجارب وغيرها مما جربه اثناء اشتغاله بالصحافة : « ان من النادر أن يصل الصحفى اكثر من اربعين او خمسين خطاباً تعليقاً على مقاله . وقد لمست هذه التجربة بنفسي بعد أربعين عاماً من العمل الصحفي . والواقع ان المقال الذي يعالج أموراً عادية تتعلق بالحياة اليومية للافراد هو الذي يهم القراء ويدفعهم الى الكتابة لصاحبه ، أما المقال الذي يتناول مسائل عامة فهو لا يثير الجمهور الى الحد الذي يدفعه الى الكتابة للصحفي » •
تعليق