المخبر
في عام ١٨٠٣ ابتكر جون والتر الثاني مدير جريدة ( التيمز ) طريقة في الاعلام اصبحت فيما بعد مصدراً جوهرياً من مصادر الحصول على الانباء ، وتلك هي تعيين مراسلين خاصين للجريدة بالخارج . وقد كتب الصحفي الانجليزي الكبير والناقد المسرحي المشهور مستر هانن سوافر مقالاً ممتعاً في احدى الصحف بعنوان ( أنا مخبر صحفي ) قال فيه : قليلون هم الذين يعرفون شيئاً عن رجال الصحافة رغم انهم يعدون بالآلاف ، ورغم انهم منتشرون في جميع بقاع الارض ، وقد خرجوا من مختلف الطبقات ووصلوا الى مختلف المراكز . وقد كان مستر رمزي مكدونالد واحداً منهم وكذلك هول كين وجون باري وبرنارد شو بل ان نصف كبار المؤلفين المسرحيين بدؤوا حياتهم العملية بالاشتغال في الصحافة . وكذلك كانت نشأة الكثيرين من العالم وكبار رجال السياسة والادب . فمسيو بريان كان صحفياً وكذلك كان موسوليني و كليمنصو وتروتسكي » . ويرى غير هانن ان الصحافة أحسن درجة يصل الانسان اليها ، فهي أعظم من السياسة وارقى من الحكم . وقد نشأ ادجار والاس صحفياً ثم حاول ان يهرب من المهنة فلم يفلح وظل صحفياً في كل شيء الى ان مات ، وكذلك كان الكاتب الكبير فيليب جيبس . ولذا يقول اللورد ملنر : « ان الصحافة أجل حرفة في العالم وربما استثنينا من ذلك منصب الوزارة » . وقد يهتم القارىء ويسمع بمختلف المحررين وكتاب الصحف ، ولكنه لا يهتم ولا يكاد يسمع بصحفي يعمل مناضلا وهو صامت كالجندي المجهول لخدمته وخدمة صحيفته ذلك هو المخبر .
وفي ( فليت ستريت ) شارع الصحافة بلندن مخبرون صحفيون اخصائيون . منهم من يختص بوصف الحوادث المثيرة كالحرائق و الجرائم والمطاردات البوليسية وجبهات الحرب . ومنهم المختصون بغشيان المجتمعات الراقية للكتابة عن اهلها ووصف مظاهر هرجهم . واحتفالاتهم ومنهم المختصون بانباء الالعاب الرياضية وسباق الخيل . ومنهم من يلزم الموانيء ومحطات السكك الحديدية يرقبون المسافرين والعائدين ليظفروا بصيد غريب من الشخصيات البارزة . ومنهم من يختص بغير ذلك مما تحتاج الصحيفة الى كشفه لاشباع نهم بعض او كل القراء . وقد يجازف هؤلاء المخبرون بارواحهم ويتعرضون للاخطار ، فيغشون خطوط النار في الحرب ويشتركون مع البوليس في مطارداته للمجرمين في سبيل الحصول على سبق صحفي . وكثيراً ما تدل الحوادث في امريكا واوربا على ان الصحافة اطول يداً من رجال الأمن ، واقوى كشف الجرائم الخفية والاهتداء لمصدرها ، وامضى سلاحاً في محاربتها لانها تفضحها وتفضح اسبابها ومسببيهـا على رؤوس الاشهاده و « يجب أن يعرف العالم كل شيء عن هذه الجرائم حتى يمكنه كفاحها ومقاومتها ومنع الاسباب التي تؤدي اليها » كما قال جوزيف بوليتزر الصحفي العصامي .
لما أصيب الصحفي الامريكي ادوار مارشال أثناء المعركة الحربية في كوبا سنة ١٨٩٨ فنقل الى المستشفى العسكري ونصحه الاطباء بالتزام الراحة رفض وأصر على أن يكتب لصحيفته أنباء القتال . واضطر أطباؤه في سبيل انقاذه الى بتر ساقه ، ومع مهنته التي فقد . أجلها عضواً ، بل قضى حياته وهو يكتب القصص والمسرحيات . وتعرض خلال حياته لثلاث حوادث تصادم قطارات وحريقين وحادثة غرق سفينة انجليزية كان عليها وقد أصابها طوربيد الماني فأغرقها وتعلق هو ببعض أخشابها التي طفت على وجه الماء . وبعد كل هذا ظل يكتب ويكتب حتى مات على فراشه وهو في الرابعة والستين .
ولا ريب أن أكثر ما يهم المخبر الصحفي هو السبق للخبر قبل أن ينشر على يد غيره . بعث وليم هيرست الذي اشترى واصدر ٤٢ صحيفة في ١٣ مدينة من مدن الولايات المتحدة ، والذي كان هدفه طيلة حياته ايجاد » صحافة براقة مثيرة على حد تعبيره - احد مراسليه الى جبهة حرب امريكا مع الاسبان . ولما أصيب في ساحة القتال سافر اليه ابنان المعركة ، وفوجيء به المراسل يداوي جراحه ويقول له : « آسف لاصابتك ولكن يجب . يا صديقي أ أن نسبق صحف العالم بالانباء. أخبرني ما هي قصتك ، وما شاهدته في المعركة ? لأكتبه على لسانك » .
ويحتاج المخبر لأجل تصيد الخبر الى قدر كبير من الدهاء والمبادرة والمثابرة والذكاء وسعة الحيلة ، لا سيما اذا كانت ظروف الوصول اليه صعبة بسبب خطورته ، اذ يضطر حينئذ الى التنقل هنا وهناك باحثاً عن شهود يتحدث ويكتب اسماء وعناوين ليحصل على قصة صادقة معهم مفصلة عما حدث وكيف ؟ ولماذا ؟ . واذا مرت به نقطة غامضة استقصى وبحث عنها حتى يستكمل سلسلة الحقائق غير مخمن ولا متكهن ، واذا انسد أمامه طريق لجأ الى آخر وهكذا حتى يصل الى مراده . ومما يذكر في هذا الصدد ان . اسل جريدة «صان ( الامريكية حصل على نصوص معاهدة برلين من أحد رجال السلك السياسي ، وكان الاثنان يتناولان طعامهما في مطعم واحد دون أن ينبس أحدهما أمام الثاني ببنت شفة ، حتى اذا انتهيا من الوجبة أخذ كل منهما قبعة الآخر ووضعها على رأسه . وفي معزل عن عيون الرقباء كان المراسل يخرج ما في بطن القبعة من أسرار وأحاديث .
وقد يضطر الصحفي لسلوك الطرق التي قد تبدو غير مألوفة بالنسبة الغيره لما فيها من الحاح ومغامرة في سبيل الوصول الى غايته وهـو الحصول على الخبر المثير فهو لا يقبل كلمة ( لا ) على انها الكلمة الاخيرة ، بل يمضي في سبيل هدفه القديسين واستماتة الشهداء عندما أصدرت آن رويال مجلة ( بول براي ) في سنة ١٨٣١ لم يكن هناك ما يبعث على انتشارها ، فصاحبتها فقيرة لا تملك الاستعدادات. الصحفية المادية غير مطبعة متواضعة لم تجد لها مكانا الا في مطبخ الشقة التي تسكنها ، ولا يقوم بعملية الطباعة سوى لقيطين وعامل واحد ورأت آن بعد فشلها في البداية أن تفتش عن وسيلة تلفت نظر الناس الى مجلتها المتواضعة . فظلت أكثر من اسبوعين تنبع أخبار جون ادامز رئيس جمهورية الولايات المتحدة حينئذ، حتى علمت ذات صباح انه في احدى بحيرات الاستحمام المجاورة لقصره ، فقصدته وجلست على ملابسه التي تركها على الشاطيء ثم نادته : سيدي الرئيس : اني أريد حديثاً صحفياً منك لمجلتي . فأذهلت المفاجأة الرئيس في بادىء الامر فاعتذر . وألحت كثيراً فأصر على الرفض ، ولكنه اضطر أخيراً الى الاجابة عن كل ما وجهت اليه من أسئلة ، لان الصحفية الماكرة هددته بأخذ ملابسه وتركه يخرج الى الشارع بملابس الاستحمام . وفي اليوم التالي نشرت الحديث في مجلتها وقصة الحصول عليه ، فأثار ذلك ضجة كبرى رفعت ارقام توزيع المجلة وأكسبتها شهرة عريضة لم تكن بالحسبان .
ووفق صحفي للحصول على معاهدة للصلح ونشرها في جريدة ( الشيكاغو تريبون ) قبل أن تخرج من أيدي المؤتمرين ــ وفي حين كان مجلس الشيوخ الامريكي يلح على الرئيس ولسون في نشرها وهو يمتنع ويعتذر ـ وذلك عن طريق اقناعه مندوب احدى الامم الصغيرة التي كانت تشكو . فداحة شروط الصلح بان نشر ا شأنه أن يساعد على عطف الشعوب على أمته المظلومة . وقد أذهل بعمله هذا رجال السياسة الكبار . وقد فعل شبه جیمس بري صاحب جريدة ( مورننج كرونكل ) اذ أشيع بأنه كان يحصل على تفاصيل ما يجري في البرلمان الانجليزي عن طريق تاجر خمور كان يعمل في الوقت نفسه
بواباً بمجلس العموم .
ورغم ما عرف عن بسمارك السياسي والقائد الالماني العظيم من نبوغ وجبروت وسعة ادراك ، فقد عبر عن مخاوفه من تغلغل الصحافة الی کوامن مجلسه برفعه غطاء المائدة التي اجتمع حولها المتفاوضون في معاهدة مؤتمر برلين . وحين سئل عن سبب ذلك أجاب بقاوله : لأتحقق مما اذا كان دي بلوتير مختبئاً تحت الغطاء ليستطلع أسرارنا . وكان هذا الصحفي الكبير مراسل جريدة ( التيمس اللندنية ) في باريس قد أرسل في اليوم الاول لهذا المجلس بصورة المعاهدة الى صحيفته كاملة قبل أن يوقع عليها المندوبون .
فهل نجد بين مخبري صحفنا ولو نظيراً فرداً لواحد من هؤلاء المراسلين ، ليرد لهفتنا ويشفي غلتنا حينما تحوجنا المآزق الحرجة وتكتنفنا الظروف العصيبة ؟
تعليق