المحرر
مما لا شك فيه ان اسمى المواهب في الصحفي هي حاسة ( شم الاخبار ) ، وتقدير الظروف التي يصدر عنها النجاح . ولابد لتنمية هذه الحاسة من عمل مرهق ، وانتباه دقيق لكل صغيرة وكبيرة . والاخبار لا تأتي عفواً بل لمن يعمل لها . فعلى رجل الصحافة أن يجمع صفات السياسي والاديب والعراف والقديس والفيلسوف ورجل المال. وأن يبرز هذه الصفات في مناسباتها كدائرة معارف خاصة أو عامة وضعت لتكون رهن تصرفه في أي لحظة اللحظات . وقد تكمن موهبته وراء شغف الى الخدمة العامة ، أو رغبة في أن يكون للمرء دور الحياة ، أو قد تكون فضولا الى معرفة ما يدور في هذه الدنيا ، ولماذا تدور الحوادث . وقد تكون الصحافة خاسرة أو كاسبة ، كما تكون غاية ، أو وسيلة الى أشرف الغايات ، ولكنها على كل حال فرصة قلما يجود الزمان بمثلها لهؤلاء الذين يعرفون كيف ينتهزونها ، ويصممون في عناد على استغلالها لاقصى الحدود لاتخاذ صفة الوصاية الذاتية على اخوانهم من البشر .
كتب برناردشو يوماً في مجلة ( تايم آند تاید ) فقال : « ان عمل الصحفي في الاصل هو الاخبار ، وليست الفلسفة السياسية . وان الجمهور لا يحتمل تلك الجعجعة الفارغة التي لا تحوي شيئا . كما لا يحتمل سخافة المدعين من الوعاظ : أو هذيان السياسيين . فلا يقرأ الجمهور لبعض الحمقى من هؤلاء شيئاً الا لانه خير من لاشيء . ولكن متى وجد ذلك الشخص الذي يستطيع أن يغذيه بشيء حقيقي فلن تجد عندئذ لنهم الجمهور لقراءته حداً » . فما هو هذا ( الشيء الحقيقي ) الذي يقصده شو ؟ لقد أجاب ويكهام ستيد على هذا السؤال بقوله : هو ما يشعر الناس بأنه حيوي لهم ويؤثر في حياتهم ومعرفتهم. ومعنى ذلك أن المحرر الصحفي الى عنصر الطرافة عنصر صدق الفكرة سواء أكانت هذه الفكرة جديدة أم قديمة . أي ان مهمة التحرير الاولى هي تقديم ذلك الشي الحقيقي للقارىء . ومن هنا كان الاكفاء من المحررين الصحفيين أندر من الذهب أو الماس . وهم بكفاءتهم النادرة هذه قادرون دائماً على أن ينتجوا في الادب . ولكنهم يفضلون على الدوام أن يعملوا في الصحافة على أن يعملوا في الادب » .
وهناك مواضيع شتى يجول فيها قلم المحرر الواسع الثقافة والاطلاع . والصحافة لا تتأخر عن نشر أي شيء فيه فائدة للجمهور ومتعة ، سواء كان أخباراً ، أو قصصاً فكاهية ، أو نقداً عفاً ، أو مقالات في أي ناحية من نواحي العلم أو الفن ، أو أي شأن من شؤون الحياة .
وقليل من الناس من يستطيع اتقان الكتابة والبحث في أي شيء أراد وايفاءه حقه من حسن المعالجة وكمال العرض . والاكتفاء . المحررين جلهم من هؤلاء الذين يعرفون أنفسهم ومواهبهم حق المعرفة فيوجهونها نحو الاختصاص الذي تصلح له . فهناك أشخاص يجيدون الكتابة في الناحية الاجتماعية، وآخرون في السياسة ، وغيرهم في النقد وهكذا . وأمثال هؤلاء تقدر الصحف والقراء مقدرتهم وتحتاجهم مضطرة في كثير من الاحيان . ومن البدهي ان ميل الشخص ونوع ثقافته يقرران النوع الذي ينبغي أن يتخصص فيه . ومن البدهي أيضاً ان مقدرته في معالجة ناحية ما ، وادلائه بالمعلومات الصحيحة عنها دليل على تمكنه فيها وتفوقه . ومتى تخصص المحرر في ناحية من النواحي وجب عليه أن يجتهد في أن يبز فيها كل من سواه حتى يروج سوقه ولا يبقى مغموراً كالرجال العاديين . والصحيفة الناجحة هي التي تعرف كيف تسند العمل المناسب لكل شخص من هؤلاء المحررين المختصين .
فالمقالات الرئيسية يجب أن يختار لتحريرها كاتب واسع المعرفة ، قدير على التعبير عما تهدف اليه الصحيفة من الآراء ووجهات النظر ، أدلته وأسلوب تفهيمه للجمهور . والقسم الادبي ينبغي أن يكون محرره من الادباء أو النقاد الذين يتحدثون على فترات عن الكتب والمقالات في الصحف الدورية ، فيرغبون الناس بقراءتها ان كانت جيدة ، أو يصارحونهم بضعفها ان لم تصب التوفيق ، غير آبهين بأصحابها ما داموا يتكلمون بنزاهة غير مشوبة بأغراض . والناحية المسرحية التي يحبها أكثر القراء جدير بها أن تسند الى ناقد فني يعالج كل رواية فيبين أوجه الضعف فيها وأوجه القوة . والكتابة في قسم من أقسام السياسة الدولية يتطلب أخصائيين في مختلف الشؤون الخارجية يعالجونها بتفكير ناضج وتوفيق محكم ، سواء كان الاختصاص بمسألة دولية خاصة ، أو بدولة من الدول على انفرادها . وأمثال هؤلاء يجيدون الكتابة في ميدان اختصاصهم المحدود ويعجبون الناس وأصحاب الصحف على السواء . وقد يختص المحرر بالشؤون المحلية والحكومية في بلاده وعليه حينئذ أن لا يعتمد على التنبؤ لمعرفة سير الحوادث ، بل عليه أن يعتمد على طرق كثيرة منها ( دوسيه المستقبل ) وهو يضم مجموعة من المعلومات وقصاصات الصحف . ومن هذه الدوسيه يستطيع أن يعرف كل يوم ا الحوادث التي ينتظر أن تقع في المستقبل . ومنها البريد والهاتف وزوار الجريدة والمخبرون المكلفون بتتبع الاخبار • فيراقب التعديلات والانقلابات التي تطرأ على نوع الحكم وأهل الحكم وعسكرية وضرائب ، ومن تغيير الوزارات وتباين السياسات وبذلك يلم بكل ما يقع في منطقته من حوادث وتطورات .
وهناك زاوية النسائيات خصصها كثير الصحف للكلام فيما يهم المرأة التي أصبحت تضارع الرجل في ثقافته واطلاعه ، وتشكل جانباً لا بأس به من جمهور القارئين . فالمحرر الذي يحب الكتابة في شؤون النساء عليه أن يحلل نفسيتهن وطبائعهن ، وأن يعلم عن احوالهن كل ما يستطيع علمه فينشر لهن ما يثير اهتمامهن من طبخ وتربية أطفال و تزيين وأمثال ذلك مما تحبه المرأة وتنعشق الحديث عنه ، وكالابحاث الاجتماعية التي تتصل بها نفسياً واجتماعياً كمسائل الزواج والتطور الجنسي والحياة الزوجية وفن المعاشرة . وعليه أن يعالج ذلك بطريق مبتكر جديد، ورأي ناضج ، ومعرفة بأحدث ما وصلت اليه المدنية والعلم .
وهناك الناحية الهزلية وقد تكون موهبة عند البعض فيسر بها الناس وتذهب اتراحهم وذلك بطريق الفكاهات والملح المصورة او غير المصورة وهي عبارة عن مقطوعات لا تزيد عن الخمسة والعشرين أو الثلاثين كلمة اساسها فكرة مضحكة مستمدة حوادثها من حوادث الحياة اليومية غالباً وبشيء من التحوير والمبالغة والتمثيل تبرز مسلية منعشة ، أو بطريق التعليقات القصيرة والمشاهدات والانتقادات وهي أهم سابقاتها واسهلها صياغة اذ يكفي ان يكتب الخبر بعبارة جدية منقولة من بعض الصحف او الرجال المشهورين ثم يستمر فيها بشكل هزلي بعيد عن التكلف .
وهناك رسائل القراء التي تخصص لها الصحف مكاناً معيناً فيهـا بعنوان ثابت کـ ( رسائل القراء او بريدي الخاص او ما شابه ذلك ) وقد اصبح لهذه العواميد البسيطة في المجلة اهميتها الكبرى عند القراء تطلعهم على ردود فيها حكمة المستشار المختص ، ودراية الناصح الأمين ، ومعرفة المرشد الصادق في كثير من المسائل والمشاكل التي تعترض حياة البشر والتي تتطلب رأي ذي خبرة وتجربة .
وهناك بعض المجلات تكتب في عامود او اكثر حكماً جليلة وخواطر وأمثالا رائعة وطرائف مسلية ، أو تذكر قول عظيم من العظماء ، أو خبرا مثيراً ، او نصيحة او فائدة او اقصوصة لها مغزى دقيق ، وفي هذه النبذ الصغيرة العبرة والخبرة وامتاع النفس . وهناك من يتخصص في التجارة والمالية والاقتصاد . وهناك من يختص في امور الاجتماع والتربية . وهناك من يختص في الامور الروحية والطبية ، الى غير ذلك مما يتعدد بتعداد المعارف والعلوم .
ومهما يكن من شيء فان اول نصائحنا للمحرر انه اذا للكتابة في موضوع فعليه ان يفكر طويلا قبل ان يكتب . وليكتب ما هو ضروري مقتضيات المجاملة لانه ليس الا رجلا يسعى دائما الى خلق قيم عالية . قال قني : « أد" رسالتك وحيداً حراً » . ولذا فليس المهم ان يعرف المحرر مواهبه وحسب ، بل ان ينميها ويحسن استخدامها . فكل عمل وسيلة وغاية . وسيلة الى القيام بعمل آخر ارفع واجل ، وعليه اذا آنس من نفسه ميلا الى عرض فكرة في مقال أو كتاب ان يلقي الى ذلك بكل نفسه . عليه ان يعيش بحرارة سبعة اشهر ليكتب صفحات . واكتساب جمهور القراء يحتاج الى صبر ودراية ، ولا سيما اذا كان في جملته القراء الزملاء . وذلك هو الشرط الاساسي للانتصار . عليه ان يحذر الاتضاع والحقد ويعرض نفسه على الحساب وقد ملئت يده بالاعمال فحسب . وليسأل نفسه كل يوم هل قام بواجبه على أتم وجه وأكمله ؟ هل تقدم ؟ هل أسدى نفعاً لامته ووطنه ? وسيأتي حتماً يوم يستمتع فيه من وراء ذلك بنفوذ يدين به لنفسه دون سواها .
تعليق