الطبيب الآلماني
The German Doctor
تدور أحداث هذا الفيلم الأرجنتيني في العام 1960 ، و تبدأ من قرية في منطقة ( باغاتونيا ) التي تقع في أقصى الجنوب الأرجنتيني الملاصق لتشيلي . و عام 1960 يمثل مرور خمسة عشر عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية ، و هذا الفيلم يتناول شخصية ذات علاقة وثيقة بما جرى في معسكرات الإعتقال النازية خلال تلك الحرب ، و لا يدرك المشاهد حقيقة هذه الشخصية حتى تتصاعد أحداث الفيلم فتصبح شخصيةً ملغزة .
يبدأ المشهد الأول بمجموعةٍ من الأطفال يلعبون لعبة شعبية في قرية من قرى ( باغاتونيا ) النائية ، و ثمة رجلٌ في الخمسين من عمره يراقبُ صبية في الثانية عشرة من عمرها اسمها " ليليت " . تقول " ليليت " : ( في المرة الأولى التي رآني فيها ، اعتقدَ بأنني سأكون نموذجاً مثالياً ، ربما بسبب طولي . في دفتر ملاحظاته كتب : انسجامٌ غامض في مقاييسها غير الكاملة ) و أثناء ذلك يظهر تايتل الفيلم على خلفية صفحات من ملاحظاته المرفقة برسوم تشريحية للجسم البشري و الحيواني . و كلمات " ليليت " هذه ستكون المفتاح الذي نعثر عليه متأخرين للولوج الى عالم هذا الرجل الغامض ، أما دفتر ملاحظاته فيوَثــّـقُ حقيقة أنه كان أخطر رجل ـ على الإطلاق ـ في الحرب العالمية الثانية . و لم يكتفِ الرجل بمراقبة تكوين " ليليت " الجسدي ، بل يطلب من أهلها أن يتبعهم بسيارته ليستدل بهم عبر طريق صحراوي الى مكان يبعد نحو 300 كيلومتر، و يقدم نفسه على أن اسمه " هيلموت غريغور " ، وقد مثل دوره الممثل " أليكس مونديل " ( المولود عام 1972 في برشلونة من أم اسبانية و أب آلماني ) .
يزعمُ ( هيلموت ) أنه ذاهبٌ الى ( بايرلوتشي ) التي تبعد ثلاثين كيلومتراً عن المكان الذي تتوقف فيه عائلة " ليليت " ، ولكنه سرعان ما يعود ليعلن للعائلة أنه سيكون أول نزيل في فندقها الذي سيتم افتتاحه من جديد بعد اسبوعين حين يكتملُ ترميمه ، فيقيم في الفندق بعد أن يدفع للأب مبلغاً هو بدل إيجار غرفة لمدة ستة أشهر ، و يبدو أنها الفترة التي ستستغرقها عملية مخطط لها بعناية و سنعرفها في نهاية الفيلم ، و خلال هذه الفترة يوثق علاقته بسكان البلدة و يعمل في مشروع مختبري ، كونه طبيباً ، ولكنه يراقب جسد " ليليت " التي كانت قد ولدت خديجة ً ( في الشهر السابع ) و يُبدي إهتماماً خاصاً بأمها الحامل بتوأم ، و هذا النوع من الحمل هو لب اختصاصه ، ولكن الأبَ كان في حالة ارتياب منه و في شكٍ من أمره . و ثمة مشهد عابر قد لا يعيره المُشاهدُ اهتماماً ، هو هبوط طائرة برمائية عند منزلٍ على طرف البحيرة ، و على يمين فندق العائلة . هذا الهبوط يجلب انتباه شقيق " ليليت " ، فيسأل قريبته التي تربطه بها علاقة خفية : ( أمازالوا يأتون ؟ ) ، فتجيبه : ( أكثر فأكثر .. يأتون و يذهبون بالطائرات ، و لا يخرجون من المنزل ) ، و هذا التساؤل يجيب عنه المشهد الختامي للفيلم لنعرف من هو " هيلموت غريغور " الغامض .
في هذا الفيلم كانت الصورة تنقل الينا الأحداث بفصاحة كاميرا المصور " نيكولاس بوينزو " الذي كانت توجهه المخرجة " لوسيا بوينزو " لجعل التصوير بلقطات عريضة بانورامية ، مريحة لعين المشاهد ، و جميلة و معبرة ، ولكن لم يكن للموسيقى التصويرية التي قدمها " دانيال تراب " حضورٌ فاعل . ولكن الحضور الفاعل في التمثيل كان للصبية " فلورنسيا بادو " التي مثلت دور " ليليت " بأداء عفوي ملفت .
مخرجة الفيلم هي الأرجنتينية " لوسيا بوينزو " المولودة عام 1976 في ( بوينس آيريس ) التي درست الآداب في جامعتها ، ثم التحقت بمدرسة فن السينما ، و هي ابنة المخرج الأرجنتيني المعروف " لويس بوينزو " الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلمه ( قضية رسمية ) كأفضل فيلم أجنبي عام 1985 .
" لوسيا بوينزو " كاتبة أديبة ، قبل أن تكون سينمائية و إن كانت لديها رؤية سينمائية في عملها الأدبي ، و فيلمها هذا ( الطبيب الآلماني ) هو إخراجٌ سينمائي لروايتها ( واكولدا ) التي حولتها الى سيناريو ، ففيلم ، و الفيلم ، الذي هو من انتاج عام 2013 ، كان قد ترشح للأوسكار و السعفة الذهبية و العديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية دولية .
بدأت " لوسيا بوينزو " حياتها العملية عام 2002 ككاتبة سيناريو ، ولكنها تحولت الى الإخراج عام 2007 بفيلمها xxy ، و هي تعتمد التعبير البصري أكثر من الحوار و الثرثرة ، إنها تعتمد الكاميرا للتعبير عن لغة أشد بلاغة ً . وتميل " بوينزو " الى الإقتصاد في الكلام و الحوار في أعمالها ، و هذا ترجمة لكونها ميالة الى الأفلام الصامتة أكثر منها الى الناطقة .
و الآن ، من هو الطبيب الذي ظهر في الفيلم بإسم " هيلموت غريغور " ؟
إنه " جوزيف مينغيل " .
" جوزيف مينغل " ، و يسمى " يوزيف منغيله " ، و يلقب أيضاً بـ ( ملاك الموت ) ، هو آخطر طبيب نازي في الجيش الآلماني أثناء الحرب العالمية الثانية ، مات على يديه نحو 400 ألف شخص . و كان هو المشرف على فرز العناصر البشرية و فرز العنصر الآري منها و من ثم فرز العنصر الجرماني ( الآلماني ) كأنقى عنصر بشري يتمتع بالدم الأزرق النقي الذي لا يتمتع به غير الآلمان .. حسب نظرية النازية .
يأتي هذا تبعاً لدراسته للطب و حصوله على شهادتي دكتوراه في تحليل طبيعة تكوين الفك الأسفل ، و من ثم في تشخيص الشفة الأرنبية العليا لدى الإنسان . و لعله صاحب المشروعُ الأخطر من مشروع " هتلر " في النزعة النازية العنصرية . فإذا كانت نزعة " هتلر " تتعلق بالعنصر القومي الجرماني ، فإن " جوزيف مينغل " عمّق هذا التوجه باتجاه تأكيد عنصر الدم و التكوين العظمي .. لتأكيد سلامة و أحقية الوجود البشري .. حسب المفهوم النازي .
ولد " جوزيف مينغل " عام 1911 لأب ذي مكانة مرموقة في ميدان الصناعات الآلمانية . في العام 1935 حصل على شهادة الدكتوراه في الطب عن رسالته الموسومة ( الاختلافات بين الأعراق في التركيب التشريحي للفك السفلي ) ، و بعد ثلاث سنوات نال شهادة الدكتوراه الثانية عن رسالته ( دراسة عامل الوراثة في الشفة الارنبية ، سقف الحلق والفك ) و هذه العناوين تتطابق مع نزعته النازية و معتقداته العنصرية اللاإنسيانية ، و قد طبق مفردات دراسته الطبية على البشر الذين وقعوا ضحايا بين يديه في معسكر الإعتقال النازي الشهير ( أوشفيتز ) . و هو كان قد انضم ، في العشرين من عمره ، الى منظمة ( ستاهلهلم ) التابعة للمعسكر النازي ، و عندما زحف الجيش الآلماني ـ عام 1942 ـ من الأراضي البولندية و تغلغل في الأراضي الروسية ، أصيب " مينغل " خلال إحدى المعارك ، فتم اعتباره جندياً غير لائق للحرب فرُقي الى رتبة كابتن . وفي العام التالي تمت الموافقة على طلبه الإنضمام الى المعسكر الطبي النازي ، و بعد أشهر أصبح المدير الطبي لمخيم الغجر ، و هو أكبر المخيمات التابعة لمعسكر ( أوشفيتز ) و قد تمت إبادة هذا المخيم إبادة تامة بغاز سام مات بسببه جميع رفاقة ، و من خلال سلوكه و أوامره اكتسب السمعة السيئة ، و أيضاً لقب ( ملاك الموت ) ، فقد كان يستعرض المعتقلين و يقرر مَن يذهب منهم الى العمل و من يذهب الى الموت في غرف الغاز .
و في هذا المعسكر طبق " جوزيف مينغل " تجاربه الطبية ، بخصوص الوراثة ، على المعتقلين . و ركز اهتمامة على التوائم ، هذا الإهتمام توقفت عنده المخرجة في الفيلم عندما علم ( الطبيب الآلماني ) أن والدة " ليليت " حاملٌ بتوأم . و في المعسكر أيضاً ، ركزاهتمامه على دراسة مرض يُسمى ( نوما Noma ) ، و هو مرضٌ غامض يصيب الأطفال الذين يعانون من نقص المناعة و سوء التغذية ، ولكن اهتمام " مينغل " لم يكن ذا هدف علمي ، بل عنصري ، أراد أن يثبت من خلاله أن هذا المرض لا يصيب إلا الأطفال الذين أعراقهم أدنى من العِرق الجرماني .
و من دناءات هذا المجرم التاريخي ، أنه اهتم بعائلة تعمل في سيرك ، سبعةٌ من أفرادها أقزام ، كان يجري عليهم تجارب مريبة و لا أخلاقية ، مثل بتر الأطراف و حقن العيون بمادة كيميائية ، تحت عنوان دراسة الإعاقات الجسدية ، و كان أحياناً يختار بعض الفتيات و يجري عليهن تجارب مانعة للإنجاب و يعرضهن لصعقات كهربائية ، و عادة ما يقوم بقتل ضحايا تجاربه بدم بارد ، إذ كان ينظر اليهم باعتبارهم مجرد ( كائنات ) وُجدت لتخضع للتجارب .. و ليسوا بشراً .
هذا هو ماضي ( الطبيب الآلماني ) " جوزيف مينغل " الذي ظهر في الفيلم بإسم " هيلموت غريغور " ، و بسبب هذا الماضي الوحشي كان أهم الأطباء النازيين المطلوبين بعد انتهاء الحرب العالمية . و كان الحلفاء قد أعلنوا في ( إعلان موسكو ) ، عام 1943 ، عن نيتهم تقديم القادة النازيين ـ الذين تسببوا بكل هذه المآسي ـ الى المحاكمة بعد انتهاء الحرب . و فعلاً ، أقيمت هذه المحاكمة في مدينة ( نورنبرغ ) في مقاطعة ( بافاريا ) الآلمانية . و قد بدأت أولى جلساتها في 20 أكتوبر / تشرين الأول من عام 1945 و انتهت في 1 أكتوبر / تشرين الأول من العام التالي 1946. و كانت المحاكمة قد قُسمت الى مرحلتين ، شملت المرحلة الأولى القادة النازيين المسؤولين عن جرائم الحرب . ولكن قبل أن تبدأ المحاكمة كان عددٌ من هؤلاء القادة قد انتحر ، إخلاصاً لمبادئهم العنصرية النازية و لكونهم قد أدركوا أن العالم ينظر اليهم كمجرمي حرب ، لذلك أقدموا على الإنتحار تجنباً للمصير الحتمي الذي ينتظرهم ، و من هؤلاء : " هاينرش هملر " ، " جوزيف غوبلز " ، " هيرمان غورينغ " ، " مارتن بورمان . و كانت المحكمة قد قضت بأحكام متفاوتة على الذين الذين تمت محاكمتهم ، بين الإعدام و السجن مدى الحياة والسجن لسنوات متفاوته ، فيما حصل بعضهم على البراءة .
فيما شملت المرحلةُ الثانية من المحاكمة الأطباءَ الذين أجروا التجاربَ على البشر ، و كان " جوزيف مينغل " أولَ المطلوبين ، ولكنه الوحيد الذي اختفى و لم تمسكه يد العدالة .
و إذ فر البعض منهم كان الى أماكن مختلفة في دول العالم ، فأنه بعد قيام دولة اسرائيل بعد انتهاء الحرب ، شرع الموساد الإسرائيلي بوضع خطة دقيقة في تعقب هولاء الفارين و تقديمهم للمحاكمة في اسرائيل ، ثأراً لأجدادهم اليهود ضحايا المعسكرات النازية .
و في عام 1960 ، و هي السنة التي تقع فيها أحداث فيلم ( الطبيب الآلماني ) ، عثر الموساد على أحد الضباط النازيين الكبار المطلوبين ، هو " أدولف آيخمان " متخفياً في الأرجنتين ذاتها التي كان " جوزيف مينغل " متخفياً فيها و في الوقت ذاته ، فوضع الموساد خطة مخابراتية نوعية في العالم تم وفقها اقاء القبض على " آيخمان " وخطفه الى اسرائيل و محاكمته و شنقه و حرقه في فرن و من ثم ذر رماده في البحر تشفياً به لجرائمه . و قد ظهر العام الماضي ( 2018 ) فيلمٌ يحمل عنوان ( مهمة نهائية Operation Finale ) من بطولة " بن كنغسلي " و " أوسكار ايساك ) حول عملية خطف " آيخمان " من الأرجنتين و نقله الى إسرائيل .
الوحيد الذي لم يُقبض عليه هو " جوزيف مينغل " ، الذي ظل متخفياً طوال خمسة و ثلاثين عاماً ، متنقلاً بين عدة دول ، حتى مات غرقاً في البرازيل عام 1979 ، إثر نوبة قلبية ، عن 69 عاماً ، و قد تم التأكد من حقيقة شخصيته عن طريقDNA .
فيلم ا( الطبيب الآلماني ) ، فيلم مشغول بهدوء و بدراية سينمائية و حرفية ، و يقدم صورة عن تقدم السينما الأرجنتينية .
رابط الفيلم في التعليق الأول
The German Doctor
تدور أحداث هذا الفيلم الأرجنتيني في العام 1960 ، و تبدأ من قرية في منطقة ( باغاتونيا ) التي تقع في أقصى الجنوب الأرجنتيني الملاصق لتشيلي . و عام 1960 يمثل مرور خمسة عشر عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية ، و هذا الفيلم يتناول شخصية ذات علاقة وثيقة بما جرى في معسكرات الإعتقال النازية خلال تلك الحرب ، و لا يدرك المشاهد حقيقة هذه الشخصية حتى تتصاعد أحداث الفيلم فتصبح شخصيةً ملغزة .
يبدأ المشهد الأول بمجموعةٍ من الأطفال يلعبون لعبة شعبية في قرية من قرى ( باغاتونيا ) النائية ، و ثمة رجلٌ في الخمسين من عمره يراقبُ صبية في الثانية عشرة من عمرها اسمها " ليليت " . تقول " ليليت " : ( في المرة الأولى التي رآني فيها ، اعتقدَ بأنني سأكون نموذجاً مثالياً ، ربما بسبب طولي . في دفتر ملاحظاته كتب : انسجامٌ غامض في مقاييسها غير الكاملة ) و أثناء ذلك يظهر تايتل الفيلم على خلفية صفحات من ملاحظاته المرفقة برسوم تشريحية للجسم البشري و الحيواني . و كلمات " ليليت " هذه ستكون المفتاح الذي نعثر عليه متأخرين للولوج الى عالم هذا الرجل الغامض ، أما دفتر ملاحظاته فيوَثــّـقُ حقيقة أنه كان أخطر رجل ـ على الإطلاق ـ في الحرب العالمية الثانية . و لم يكتفِ الرجل بمراقبة تكوين " ليليت " الجسدي ، بل يطلب من أهلها أن يتبعهم بسيارته ليستدل بهم عبر طريق صحراوي الى مكان يبعد نحو 300 كيلومتر، و يقدم نفسه على أن اسمه " هيلموت غريغور " ، وقد مثل دوره الممثل " أليكس مونديل " ( المولود عام 1972 في برشلونة من أم اسبانية و أب آلماني ) .
يزعمُ ( هيلموت ) أنه ذاهبٌ الى ( بايرلوتشي ) التي تبعد ثلاثين كيلومتراً عن المكان الذي تتوقف فيه عائلة " ليليت " ، ولكنه سرعان ما يعود ليعلن للعائلة أنه سيكون أول نزيل في فندقها الذي سيتم افتتاحه من جديد بعد اسبوعين حين يكتملُ ترميمه ، فيقيم في الفندق بعد أن يدفع للأب مبلغاً هو بدل إيجار غرفة لمدة ستة أشهر ، و يبدو أنها الفترة التي ستستغرقها عملية مخطط لها بعناية و سنعرفها في نهاية الفيلم ، و خلال هذه الفترة يوثق علاقته بسكان البلدة و يعمل في مشروع مختبري ، كونه طبيباً ، ولكنه يراقب جسد " ليليت " التي كانت قد ولدت خديجة ً ( في الشهر السابع ) و يُبدي إهتماماً خاصاً بأمها الحامل بتوأم ، و هذا النوع من الحمل هو لب اختصاصه ، ولكن الأبَ كان في حالة ارتياب منه و في شكٍ من أمره . و ثمة مشهد عابر قد لا يعيره المُشاهدُ اهتماماً ، هو هبوط طائرة برمائية عند منزلٍ على طرف البحيرة ، و على يمين فندق العائلة . هذا الهبوط يجلب انتباه شقيق " ليليت " ، فيسأل قريبته التي تربطه بها علاقة خفية : ( أمازالوا يأتون ؟ ) ، فتجيبه : ( أكثر فأكثر .. يأتون و يذهبون بالطائرات ، و لا يخرجون من المنزل ) ، و هذا التساؤل يجيب عنه المشهد الختامي للفيلم لنعرف من هو " هيلموت غريغور " الغامض .
في هذا الفيلم كانت الصورة تنقل الينا الأحداث بفصاحة كاميرا المصور " نيكولاس بوينزو " الذي كانت توجهه المخرجة " لوسيا بوينزو " لجعل التصوير بلقطات عريضة بانورامية ، مريحة لعين المشاهد ، و جميلة و معبرة ، ولكن لم يكن للموسيقى التصويرية التي قدمها " دانيال تراب " حضورٌ فاعل . ولكن الحضور الفاعل في التمثيل كان للصبية " فلورنسيا بادو " التي مثلت دور " ليليت " بأداء عفوي ملفت .
مخرجة الفيلم هي الأرجنتينية " لوسيا بوينزو " المولودة عام 1976 في ( بوينس آيريس ) التي درست الآداب في جامعتها ، ثم التحقت بمدرسة فن السينما ، و هي ابنة المخرج الأرجنتيني المعروف " لويس بوينزو " الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلمه ( قضية رسمية ) كأفضل فيلم أجنبي عام 1985 .
" لوسيا بوينزو " كاتبة أديبة ، قبل أن تكون سينمائية و إن كانت لديها رؤية سينمائية في عملها الأدبي ، و فيلمها هذا ( الطبيب الآلماني ) هو إخراجٌ سينمائي لروايتها ( واكولدا ) التي حولتها الى سيناريو ، ففيلم ، و الفيلم ، الذي هو من انتاج عام 2013 ، كان قد ترشح للأوسكار و السعفة الذهبية و العديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية دولية .
بدأت " لوسيا بوينزو " حياتها العملية عام 2002 ككاتبة سيناريو ، ولكنها تحولت الى الإخراج عام 2007 بفيلمها xxy ، و هي تعتمد التعبير البصري أكثر من الحوار و الثرثرة ، إنها تعتمد الكاميرا للتعبير عن لغة أشد بلاغة ً . وتميل " بوينزو " الى الإقتصاد في الكلام و الحوار في أعمالها ، و هذا ترجمة لكونها ميالة الى الأفلام الصامتة أكثر منها الى الناطقة .
و الآن ، من هو الطبيب الذي ظهر في الفيلم بإسم " هيلموت غريغور " ؟
إنه " جوزيف مينغيل " .
" جوزيف مينغل " ، و يسمى " يوزيف منغيله " ، و يلقب أيضاً بـ ( ملاك الموت ) ، هو آخطر طبيب نازي في الجيش الآلماني أثناء الحرب العالمية الثانية ، مات على يديه نحو 400 ألف شخص . و كان هو المشرف على فرز العناصر البشرية و فرز العنصر الآري منها و من ثم فرز العنصر الجرماني ( الآلماني ) كأنقى عنصر بشري يتمتع بالدم الأزرق النقي الذي لا يتمتع به غير الآلمان .. حسب نظرية النازية .
يأتي هذا تبعاً لدراسته للطب و حصوله على شهادتي دكتوراه في تحليل طبيعة تكوين الفك الأسفل ، و من ثم في تشخيص الشفة الأرنبية العليا لدى الإنسان . و لعله صاحب المشروعُ الأخطر من مشروع " هتلر " في النزعة النازية العنصرية . فإذا كانت نزعة " هتلر " تتعلق بالعنصر القومي الجرماني ، فإن " جوزيف مينغل " عمّق هذا التوجه باتجاه تأكيد عنصر الدم و التكوين العظمي .. لتأكيد سلامة و أحقية الوجود البشري .. حسب المفهوم النازي .
ولد " جوزيف مينغل " عام 1911 لأب ذي مكانة مرموقة في ميدان الصناعات الآلمانية . في العام 1935 حصل على شهادة الدكتوراه في الطب عن رسالته الموسومة ( الاختلافات بين الأعراق في التركيب التشريحي للفك السفلي ) ، و بعد ثلاث سنوات نال شهادة الدكتوراه الثانية عن رسالته ( دراسة عامل الوراثة في الشفة الارنبية ، سقف الحلق والفك ) و هذه العناوين تتطابق مع نزعته النازية و معتقداته العنصرية اللاإنسيانية ، و قد طبق مفردات دراسته الطبية على البشر الذين وقعوا ضحايا بين يديه في معسكر الإعتقال النازي الشهير ( أوشفيتز ) . و هو كان قد انضم ، في العشرين من عمره ، الى منظمة ( ستاهلهلم ) التابعة للمعسكر النازي ، و عندما زحف الجيش الآلماني ـ عام 1942 ـ من الأراضي البولندية و تغلغل في الأراضي الروسية ، أصيب " مينغل " خلال إحدى المعارك ، فتم اعتباره جندياً غير لائق للحرب فرُقي الى رتبة كابتن . وفي العام التالي تمت الموافقة على طلبه الإنضمام الى المعسكر الطبي النازي ، و بعد أشهر أصبح المدير الطبي لمخيم الغجر ، و هو أكبر المخيمات التابعة لمعسكر ( أوشفيتز ) و قد تمت إبادة هذا المخيم إبادة تامة بغاز سام مات بسببه جميع رفاقة ، و من خلال سلوكه و أوامره اكتسب السمعة السيئة ، و أيضاً لقب ( ملاك الموت ) ، فقد كان يستعرض المعتقلين و يقرر مَن يذهب منهم الى العمل و من يذهب الى الموت في غرف الغاز .
و في هذا المعسكر طبق " جوزيف مينغل " تجاربه الطبية ، بخصوص الوراثة ، على المعتقلين . و ركز اهتمامة على التوائم ، هذا الإهتمام توقفت عنده المخرجة في الفيلم عندما علم ( الطبيب الآلماني ) أن والدة " ليليت " حاملٌ بتوأم . و في المعسكر أيضاً ، ركزاهتمامه على دراسة مرض يُسمى ( نوما Noma ) ، و هو مرضٌ غامض يصيب الأطفال الذين يعانون من نقص المناعة و سوء التغذية ، ولكن اهتمام " مينغل " لم يكن ذا هدف علمي ، بل عنصري ، أراد أن يثبت من خلاله أن هذا المرض لا يصيب إلا الأطفال الذين أعراقهم أدنى من العِرق الجرماني .
و من دناءات هذا المجرم التاريخي ، أنه اهتم بعائلة تعمل في سيرك ، سبعةٌ من أفرادها أقزام ، كان يجري عليهم تجارب مريبة و لا أخلاقية ، مثل بتر الأطراف و حقن العيون بمادة كيميائية ، تحت عنوان دراسة الإعاقات الجسدية ، و كان أحياناً يختار بعض الفتيات و يجري عليهن تجارب مانعة للإنجاب و يعرضهن لصعقات كهربائية ، و عادة ما يقوم بقتل ضحايا تجاربه بدم بارد ، إذ كان ينظر اليهم باعتبارهم مجرد ( كائنات ) وُجدت لتخضع للتجارب .. و ليسوا بشراً .
هذا هو ماضي ( الطبيب الآلماني ) " جوزيف مينغل " الذي ظهر في الفيلم بإسم " هيلموت غريغور " ، و بسبب هذا الماضي الوحشي كان أهم الأطباء النازيين المطلوبين بعد انتهاء الحرب العالمية . و كان الحلفاء قد أعلنوا في ( إعلان موسكو ) ، عام 1943 ، عن نيتهم تقديم القادة النازيين ـ الذين تسببوا بكل هذه المآسي ـ الى المحاكمة بعد انتهاء الحرب . و فعلاً ، أقيمت هذه المحاكمة في مدينة ( نورنبرغ ) في مقاطعة ( بافاريا ) الآلمانية . و قد بدأت أولى جلساتها في 20 أكتوبر / تشرين الأول من عام 1945 و انتهت في 1 أكتوبر / تشرين الأول من العام التالي 1946. و كانت المحاكمة قد قُسمت الى مرحلتين ، شملت المرحلة الأولى القادة النازيين المسؤولين عن جرائم الحرب . ولكن قبل أن تبدأ المحاكمة كان عددٌ من هؤلاء القادة قد انتحر ، إخلاصاً لمبادئهم العنصرية النازية و لكونهم قد أدركوا أن العالم ينظر اليهم كمجرمي حرب ، لذلك أقدموا على الإنتحار تجنباً للمصير الحتمي الذي ينتظرهم ، و من هؤلاء : " هاينرش هملر " ، " جوزيف غوبلز " ، " هيرمان غورينغ " ، " مارتن بورمان . و كانت المحكمة قد قضت بأحكام متفاوتة على الذين الذين تمت محاكمتهم ، بين الإعدام و السجن مدى الحياة والسجن لسنوات متفاوته ، فيما حصل بعضهم على البراءة .
فيما شملت المرحلةُ الثانية من المحاكمة الأطباءَ الذين أجروا التجاربَ على البشر ، و كان " جوزيف مينغل " أولَ المطلوبين ، ولكنه الوحيد الذي اختفى و لم تمسكه يد العدالة .
و إذ فر البعض منهم كان الى أماكن مختلفة في دول العالم ، فأنه بعد قيام دولة اسرائيل بعد انتهاء الحرب ، شرع الموساد الإسرائيلي بوضع خطة دقيقة في تعقب هولاء الفارين و تقديمهم للمحاكمة في اسرائيل ، ثأراً لأجدادهم اليهود ضحايا المعسكرات النازية .
و في عام 1960 ، و هي السنة التي تقع فيها أحداث فيلم ( الطبيب الآلماني ) ، عثر الموساد على أحد الضباط النازيين الكبار المطلوبين ، هو " أدولف آيخمان " متخفياً في الأرجنتين ذاتها التي كان " جوزيف مينغل " متخفياً فيها و في الوقت ذاته ، فوضع الموساد خطة مخابراتية نوعية في العالم تم وفقها اقاء القبض على " آيخمان " وخطفه الى اسرائيل و محاكمته و شنقه و حرقه في فرن و من ثم ذر رماده في البحر تشفياً به لجرائمه . و قد ظهر العام الماضي ( 2018 ) فيلمٌ يحمل عنوان ( مهمة نهائية Operation Finale ) من بطولة " بن كنغسلي " و " أوسكار ايساك ) حول عملية خطف " آيخمان " من الأرجنتين و نقله الى إسرائيل .
الوحيد الذي لم يُقبض عليه هو " جوزيف مينغل " ، الذي ظل متخفياً طوال خمسة و ثلاثين عاماً ، متنقلاً بين عدة دول ، حتى مات غرقاً في البرازيل عام 1979 ، إثر نوبة قلبية ، عن 69 عاماً ، و قد تم التأكد من حقيقة شخصيته عن طريقDNA .
فيلم ا( الطبيب الآلماني ) ، فيلم مشغول بهدوء و بدراية سينمائية و حرفية ، و يقدم صورة عن تقدم السينما الأرجنتينية .
رابط الفيلم في التعليق الأول