العناية بفرع الاعلان
ان الطريقة الوحيدة التي يلجأ اليها للكسب في أي عمل فيه تبايع ، هي ان تجعل اسعار بيع السلعة أعلى من اسعار الكلفة . غير ان هذه القاعدة لا تنطبق على المؤسسة الصحفية ، لأنها لا تعتمد على مبيعاتها من التوزيع لجني الربح ، بل قد تبيع بالخسارة وهي راضية . فأكثر الصحف الحديثة تباع للناس بأقل من كلفتها ، غير ان قليلا من القراء يعلمون بأنها لا تصبر على ذلك وتستمر في الصدور الا لأنها تغطي خسارتها في البيع بما تربحه عن طريق الاعلان . ومما يذكر انه في سنة ١٨٣٦ مثلا كان متوسط الاشتراك السنوي في أي صحيفة فرنسية (۸۰) فرنكا ، فرأى اميل دي جيراردين خفض قيمة الاشتراك في جريدته ( لابريس ) الى النصف ، ابتغاء توسیع انتشارها وزيادة عدد قرائها ، ليحصل بالتالي على اعلانات تغطي قيمتها فرق السعر. وقد نجح في هذه ابتكرها . وزادت بالفعل اعداد التوزيع والاعلانات والايرادات . ولا شك بان المبدأ الذي سار عليه هذا الصحفي مجد في كل زمان ، لان الناس يبحثون دائماً . الارخص ثمناً في كل ما يستهلكون ، كما يبحثون عن الربح في كل شيء . ومما يذكر ايضاً أن جريدة ( هيرالد ) عميدة الصحف التي ظهرت سنة ١٨٣٣ في الولايات المتحدة كانت رخيصة الثمن ، فعمد مؤسسها جيمس جوردن بنيت لتغطية مصروفاته العامة وتأمين الربح الى الاعلانات ونشرها في صحيفته . وبذلك أفلح في ا مورد جديد من الكسب للصحافة غير مورد البيع ، وكانت حتى ذلك الحين لا تدر الا ارباحاً ضئيلة ودخلا محدوداً قد لا يكفي كأجور للمحررين .
ثم حذ حذوهما الآخرون بعد شيء من التردد ، ومن ثم سار الاتجاه نحو استغلال الاعلان بشكل منظم ومنطقي . بل لقد غدا اكثر اصحاب الصحف الدورية يضعون نجاح قسم الاعلان فوق نجاح أي قسم من بقية الاقسام ، حتى وصلت نسبة الاعلان في بعض الصحف الاميركية الناجحة حوالي %٧٥ من مجموع مساحتها ، وغدا اصحاب الاعمال وارباب التجارة يستأجرون مساحات اعلانية محددة في صلب الصحيفة او المجلة باسعار خيالية ، وذلك ليكونوا أحراراً في ملء ما يخصهم من المساحة البيضاء بالنصوص ، او الصور الاعلانية بالشكل الذي يريدون ولمرة أو عدة مرات . ولا أدل على قيمة الاعلان في صحافة الامم الراقية انه لما قامت الحرب العالمية الاخيرة وتحول انتاج المصانع الى مواد حربية تقلص ايراد الاعلان للصحف . فأدى ذلك الى توقيف ٣٥ جريدة يومية عالمية عن الصدور سنة ١٩٤١ ، كما توقفت ۳۸ صحيفة اخرى في العام التالي ، فقد كانت الثروة التي تدرها اعلانات هذه المصانع على الصحف كافية لتغطية مصاريف التحرير والطباعة مع زيادة شيء من الوفر .
وقد اتجهت الصحف الحديثة مؤخراً لانشاء صلات بينها وبين اكبر عدد ممكن من النساء . لان منطق المعلنين هو ان الرجل يكسب النقود ولكن المرأة هي التي تصرفها . وأول مظهر من مظاهر سعيها في ارضاء المرأة هو تخصيص صفحة لها ترضي بها ميولها ، وتعالج فيها بعض شؤونها كالازياء والطهي والعناية بالاطفال وغير ذلك ، معتمدين في هذا على دراسات لنفسية المرأة ورغباتها . ولذا فهم يذكرون محرريهم دائما بأن عليهم ان يكتبوا للنساء كما يكتبون للرجال ، مراعين في ذلك طبيعتهن واذواقهن ومستواهن العقلي . وبهذه الطريقة يتمكنون من حمل الرجال على اشراك نسائهم وبناتهم في قراءة النسخ التي اشتروها . الصحيفة ، أو حمل النساء على شرائها بأنفسهن . ولا يخفى ان النساء يقبلن على قراءة الاعلانات بشغف وفضول أكثر من الرجال ، لانها توفر لهن مؤونة البحث والتنقيب عن السلع التي يردن شراءها مع شرح مزاياها وما يتعلق بها بأيسر الطرق .
وأخيراً قد يخطر على بال البعض - وقد رأى من قيمة المعلنين بالنسبة لوضع الصحيفة المادي ما رأى - ان هؤلاء المعلنين ينبغي أن يكون لهم نفوذ على سياسة الجريدة واتجاهها لصالحهم ، لاسيما وانهم يسدون لها عجزاً قد يصل أحياناً الى حد الضخامة . ولكن هذه الخاطرة ان صحت في حق بعض الضعفاء من مصدري الصحف فهي لا تصح في حق غيرهم ممن أوتوا استقلالاً في الرأي ، وجرأة في القلب ، واعتماداً على النفس والابداع الذي يكفل لكل صحيفة الرخاء والوقار والاستقلال . وقديماً قال مریسزون جود عمدة مدينة سنناتي الاميركية حينذاك في محاضرة له ألقاها في جامعة هارفارد : « ان أصحاب أية جريدة كبرى ، ومندوبي الصحف في بلدية المدينة ومحاكمها الذين يقومون بمهمة استيفاء الاخبار وتقديمها لملايين القراء عليهم أن يكونوا محايدين كل الحياد كأنهم قضاة المحاكم . وأن يرفضوا باباء كل عرض أو مجاملة أو مكافأة قد تؤثر في استقلال رأيهم وتمنعهم من نشر الاخبار للرأي العام على حقيقتها الراهنة » •
تعليق