خطيئة الصحفي قد تودي بأمته
قابله هذه المرة في باريس . وكان على أهبة العودة لساحة القتال فقال له : أتذكر يا صديقي قولك : انني عليم ببواطن الامور . ما رأيك اليوم ؟ فأجابه هيديمان والأسى يفعم قلبه : كنت مخطئاً ولم أكن اعرف، مع اني التزمت الحرص طيلة حياتي ولم يسبق لي أن كتبت سطراً واحداً دون أن أكون على يقين من انه الصدق كله . لقد دفعوني الى الخطأ وهم المسؤولون عنه .. قال هذه الكلمات وانصرف الى حيث يعسكر المحاربون في فليري . وهناك في مكان على الجبل استقرت في صدره رصاصة فأراحته من عبء الالم النفسي الذي كان يرهقه نتيجة شعوره بالخطأ الرهيب الذي وقع فيه عن غير قصد ، وكانت له كفارة ذلك الذنب .
بدأت مهمته الصحفية سنة ١٩١٤ حين كان حديث الحرب يدور على السنة الناس ، لا سيما بعد أن تأزم الوضع بسبب مقتل ولي عهد النمسا في احدى بلاد المجر. وتساءل الجميع أتشترك ألمانيا في الحرب أم تميل للسلام ؟ وكان كل شيء يدل على ان الجو السياسي مشحون بالخطر . فأرسلته جريدة ( لوماتان ) الفرنسية الى برلين ، وكان أعظم محرريها بل وأعظم محرري العالم قاطبة من حيث شهرته وسبقه لاكتشاف الاخبار . أرسلته لينقل للقراء صورة الواقع هناك ، كما أرسلت الصحف أكابر مخبريها لموافاتها بحقيقة الوضع . وبقيت قلوب قراء لوماتان متعلقة بمحررها العظيم ، تنتظر أولى برقياته لتزيح عنها ما ورجاء ووجل مطمئنة الى صدق ما سيأتي عن طريقه ، لانه - كما . الفرنسيون ـ كالكماشة اذا أمسك بانسان فلا يفلته الا وقد انتزع منه كل ما لديه من أخبار صادقة بدون تحريف او تغيير .
وراق لمن تبع هيديمان من الصحفيين منافسته في هذه الفرصة ، بعد أن تغلب عليهم جميعاً من قبل حينما سبقهم بنشر أنباء حرب الروس واليابان . وبدأ كل في شق طريقه للحقيقة . واتصل هيديمان بكاميون سفير فرنسا في برلين وكانت تربطه به صداقة قديمة ، كما اتصل بغيره من السفراء الاجانب ، وقد ساعده على ذلك اتقانه عدة لغات الفرنسية والهولندية والانجليزية والالمانية . غير انه لم يحم حول البلاط الامبراطوري، ولم يتحسس وضع وزارة الخارجية الالمانية بل كلمة السفراء التقليدية المخدرة ( كل هذه المشاكل يمكن حلها ) ويتنصت لما كان يردده الشعب الالماني حينئذ ( نحن لا نريد الحرب ) .
ورغم ان هيديمان كان موهوباً وذا ضمير حي وعقل يقظ فقد غاب عنه هذه المرة ان مصلحة الصحفي . مصلحة الدبلوماسي فالاول يعرف كل شيء وأن يفضي به الى الرأي العام وان الدبلوماسي أداة لخدمة الامة ، بينما يرى الدبلوماسي انه ينبغي ان يعرف كل شيء بدون أن يفضي به ، وان الصحفي ليس الا أداة لتحقيق أغراضه هو قبل غيره . كما غاب عنه أيضاً انه لا ارادة نافذة ولا كلمة مسموعة للشعب المغلوب على أمره أمام سطوة الحكم . وهكذا بدأت تتوالى برقيات هيديمان الى جريدته منحرفة شيئاً فشيئاً نحو ما ذهب اليه السفراء الاجانب ، وسفير بلاده على الخصوص ، وما سمعه من أفواه الشعب الالماني . ثم كانت منه القنبلة الحاسمة « ان المانيا لا تريد الحرب » في الوقت الذي كانت صحافة العالم كلها تتحدث عن حرب وشيكة الوقوع . وبدأ الرأي العام الفرنسي ينقسم على هذا الأساس بين مستمسك بتصريح هيديمان الذي جرب من قبل في استقاء الاخبار، وبين مكذب له لان كل شيء يبدو منذراً بالحرب . وعلى كل حال فقد بدت روح ا الفتور تدب في نفوس الشباب فقل اقبالهم على مراكز التعبئة اعتمادا على ما يرد الى جريدة لوماتان . حتى هؤلاء الذين كانوا يشكون قليلا أو كثيراً في برقياته راحوا يستصوبون تدريجياً رأيه .
وبعد فترة من القلق خيمت على فرنسا اندفع الناس الى الحانات ودور اللهو يشربون ويسمرون ابتهاجاً بزوال كابوس الحرب . وعندما كان السفير الفرنسي يبرق الى حكومته مبيناً خطورة الموقف كانت ثقة الدولة ببرقيات هيديمان أشد من ثقتها به . وخشيت الجرائد التي كانت تعارضه في رأيه أن يكون أرسخ من مخبريها قدماً في الوقوف على الحقيقة فانحرفت في اتجاهها نحوه وتأثرت به . وفي فندق الدون ببرلين التقى صحفي فرنسي بهيديمان فأعرب له عن مخاوفه من المانيا واعتقاده بأن الحرب لا محالة واقعة بعد حين فاندفع هذا قائلا لا تخش شيئاً فاني عليم ببواطن الامور .
وفي ٣١ يوليه من السنة نفسها انقطعت برقيات هيديمان ، لانه أسرع ليستقل القطار الاخير من برلين في طريقه الى حدود بلجيكا ليعبرها على قدميه ، وفي يده حقيبة صغيرة وفي نفسه آلام وأحزان . فقد تحركت الجيوش الألمانية قبل أن تعلن رسمياً الحرب . وحينئذ عرف الخطأ الفادح الذي وقع فيه، وأيقن أن نجمه قد هوى الى الحضيض. وفي آخر اغسطس كان مندوباً صغيراً لصحيفة لوماتان يتبع الجيوش الفرنسي الذي دفعه . الفرنسية ليستجوب أسرى الحرب الالمان بعد أن كان كبير مخبري الجريدة . وأخذت ثقته بنفسه تنهار . وتجسمت له مأساة الشعب مع مشيئة القدر لخوض الحرب بدون استعداد . وأحس بأرواح شهداء وطنه تلاحقه في كل مكان ، حتى عجز عن القيام بمهمته كمندوب صحفي . فلم يجد وسيلة يكفر بها عن خطيئته الا أن يتطوع جندياً في الجيش . ومن حدود الجبهة بعث برسالة الى أحد اصدقائه يقول فيها : « قد تظنني مغفلا لأني رفضت العودة الى الصحافة، ولأن هذا الرفض يعرضني للقتل أو للاصابة ... لا ، لست مغفلا واذا سقطت فاني أكون قد أديت واجبي وقدمت أقصى تضحية لبلادي » • فليسمع ذلك هؤلاء المتطفلون على المهنة الذين يبيعون أنفسهم وصحيفتهم وبلادهم للمستعمرين بأبخس الأثمان بدون أن يخشع لهم قلب أو يهتز ضمير .
تعليق