الصحف في شركات
تطور وضع الصحافة في هذا العصر الذي طغت فيه المادة على الناحية المعنوية ، حتى أصبحت ذات شركات أشبه بالمؤسسات التجارية يقصد منها استغلال المال لأجل الربح بعد أن تبين انها من أنجح الوسائل في استثمار رؤوس الاموال ، فضلا عن استغلالها في اجتذاب النفوذ السياسي والادبي سواء كانت مستقلة أو حزبية . وقد استحالت صحف اللورد نور تكليف في انجلترا الى شركة تضامن في بادىء الامر ، ثم انتهت الى شركة مساهمة رأسمالها ثلاثة ملايين من الجنيهات . وما كادت تطرح أسهم هذه الشركة في السوق حتى بلغ رأس المال الذي اكتتبت به خمسة وعشرين مليون جنيه وذلك في مدة ربع ساعة فقط ، مما اضطر أصحاب المشروع الى أن يقفلوا باب الاكتتاب على الفور . وبــات الواعون من الامة يوجسون خيفة من هذا الاتجاه الذي قد ينحرف عن الهدف الذي وجدت الصحافة من أجله ، وهو الدفاع عن مبادىء معينة واذاعة الثقافة والانباء بين طبقات الامة . فبالرغم من أن ما تستطيع هذه الشركات الوصول اليه من الاخبار ، واستئجار الاقلام ، وحشد الموهوبين لخدمتها مما قد تعجز عنه جرائد الافراد ، فان هذه الأنباء والمعلومات والآراء التي تجمعها الشركات وتذيعها على نطاق واسع و بطريقة تكاد تكون ميكانيكية ، ليست لها القيمة الادبية الكائنة للآراء التي يذيعها أصحاب الجرائد الفردية، والتي يعبرون بها عما يعتقدونه باخلاص تام .
لهذا السبب امتنع الماجور استور ورفاقه عن ضم جريدة التايمس في احدى الشركات الصحافية ، ولعلمهم بما لها النفوذ في الشعب الانجليزي بأسره ، ولاعتقادهم ان الصحف انما هي مشروعات ادبية وليست مشروعات مالية ، فلا يجوز المتاجرة بها كأنها سلع تباع وتشترى وتنتقل من يد الى يد في سوق المزاد . وما حصل في انجلترا من هذا التحول في الصحافة حصل في امريكا والمانيا أيضاً ، بل في أكثر الدول الراقية ، لأن الصحف الناجحة التي يمتلكها افراد قد اصبحت نادرة جدا ، والنفقات التي تقتضيها تلك الصحف اضحت عظيمة الى يعجز عن ايفائها معه الافراد العاديون ، بل اكابر الاغنياء فيهم ، ويهون هذا الامر لدى الشركات ، اذ تستطيع مع توفر رأس المال الضخم شراء دار بدل استئجارها ، واستملاك خطوط تليفونية ، وتلغرافات ، ووكالات للانباء ، وسيارات للنقل ، ومطابع اوتوماتيكية ، ومصانع للورق ، وغابات لتوريد مادة الورق الخام ، ومكتبات للبيع ، وغير ذلك مما يترتب عليه السرعة في العمل ، وسهولة الانتاج ، ورخص التكاليف، وكثرة التوزيع ، واتساع مورد الاعلانات ، وقد تطبع مثل هذه الصحيفة أكثر من مرة في اليوم الواحد في بعض المناسبات التي يتلهف الجمهور على تتبع نتائجها ، كسباق الخيل ومباريات المصارعة والملاكمة ، وسباق القوارب ، وانباء الحرب وانباء الصلح ، وانباء الحرائق والزلازل والفيضانات ، فيذكر الجديد من الانباء ساعة فساعة بالاضافة الى ما عرفه الجمهور من الطبعة الأولى .
ولعل أقوى هذه الشركات وأدقها تنظيماً وأوفرها مادة الدور الالمانية الثلاث للصحافة : أولشتاين ، وموس ، وشيرل . وصحفها بين الفخامة وصغر الحجم كثيرة الانتشار كثيرة التنوع والتخصص، يكتب فيها امهر العلماء ، ويساهم فيها امهر الفنانين ، وقد زاد انتشار بعض صحفها عن المليوني نسخة وقد بنى اصحاب هذه الشركة وهم اخوة أربعة داراً فريدة من نوعها ، بما تضم من أنواع المطابع . وقد قسموا العمل بينهم ، فتولى احدهم ادارة التحرير والآخر ادارة القسم الفني والثالث ادارة القسم الاداري ، والرابع ادارة الشؤون القضائية وظلوا يعملون يداً واحدة حتى أدركوا النجاح المرموق .
تعليق