زعيم الصحفيين العالميين
ولذلك لم يجرؤ أحد على شرائها حين أشرفت على الافلاس سنة ١٩٠٨ غير الصحفي الكبير نور تكليف ، وكانت حينذاك لا يزيد توزيعها على (۳۸) ألف نسخة فجعلها توزع (۳۱۸) ألف نسخة. وقد بدأ هذا الرجل الذي رفع مكانة الصحافة الانجليزية الى الأوج عمله الصحفي منـذ نعومة أظفاره ، اذ أصدر وهو في الثالثة عشرة من عمره مجلة مدرسية . ثم اشترك في تحرير مجلة ( يوث ) وكتب في كثير من اشترك في اصدار الكتب الشعبية الرخيصة . ثم أصدر في سنة ١٨٨٧ مجلة ( انسارز ) فكانت مبدأ نجاحه كصاحب مشروع صحفي ، ثم اشترى جريدة ( ايفننج نيوز ) وهي في غاية التقهقر والخسار ، ولكنه حولها الى صحيفة ناجحة ربحت في نهاية العام من شرائه لها أربعة عشر من الجنيهات . ثم اصدر في عام ١٨٩٦ جريدة ( ديلي ميل ) وقــــد حرص فيها على ان تضم قصصاً مصورة مسلسلة ، ومنع نشر الطويلة ، وخلق لها قراء من سائر الطبقات فبلغت الرقم القياسي في التوزيع بالنسبة لسائر الصحف الانجليزية . وقد كان من الطرق المبتكرة التي يتبعها لترويج صحيفته اعلانه عن جوائز ثمينة بين الفينة والفينة لبعض المسابقات التي تثير اهتمام الناس .
وأننا لنعجب كثيراً كيف حقق نور تكليف هذا النجاح المدهش وهو الذي تنبأ له أرباب الصحافة وأساطينها بالفشل ونصحوه بالتخلي عنها . ولكن العزم والدأب والابتكار والثقة بالنفس التي امتاز بها هذا الرجل هي التي دفعته الى مقدمة الصفوف ، حتى حقق للصحفيين الذين اشتغلوا معه ما لم يحققه صاحب جريدة من رفع مرتباتهم وتحديد اوقات عملهم واقامة مستشفيات لهم. وكان عدد محرري جرائده ومجلاته سنة ١٩٢١ أي ما قبل وفاته بعام واحد سبعة آلاف ، ومع ذلك فقد كانت أرباحه السنوية تزيد على مليون جنيه . ان خير دليل على فضل هذا الرجل على الصحافة الانجليزية ما أشار اليه هو بنفسه حين قال : « انظروا الى وانظروا اليها بعدي » .
والذي يجعل هذا الرجل من عظماء الصحافة ليس هو نجاحه فقط في تحسينها وادخال التعديل على طباعتها وتبويبها وسلوكه الطرق التي تقفز بها من الضعف الى الفوز المدهش ، بل بما كان يحمل في ذاته أيضاً من صراحة في النقد وصرامة في معالجة الفساد واستقامة في توجيه الرأي العام . فقد صدف أن هاجم اللورد كتشنر وزير الحربية عام ١٩١٥ في جريدتي التيمس والديلي ميل في يوم واحد وكتب فيهما « ان القنابل التي يستعملها الجيش قنابل فاسدة قتلت الآلاف من رجالنا بعينها القنابل التي استعملت في حرب البوير سنة ١٩٠٠ » . فسخطت عليه الجماهير وقاطع القراء صحفه ، وامتنعت الشركات بالاعلانات ، لان كتشنر كان محبوباً من الجميع ، وظنوا ان في الامر تحاملاً عليه . وهاجمت نور تكليف الصحف جميعها وصبت عليه عبارات اللوم والتقريع . فقالت جريدة ديلي نيوز : لا يعنينا من سيشكل الحكومة الجديدة ولكنه يهمنا ما ستفعله الحكومة الجديدة ازاء لورد نور تکلیف ، فان هذا الرجل ينبغي أن يذهب ، والا فلن تستقر في البلاد حكومة . لقد حان الأوان لنختار بين حكومة مسؤولة وصحافة مستبدة ديكتاتورية .. ان حرية الصحافة شيء عظيم ، ولكن الحرية لا تخلو من المسؤولية ، بل يجب تضم الحرية تقديراً للمسؤولية .
وقد يكون هناك وقت وظرف يدعوان للتضحية بحرية الصحافة لحماية أمن الدولة وسلامتها . ان نور تكليف هو أعدى أعداء الامبراطورية ، ويجب أن تواجهه أولاً لتتفرغ لاعدائها الآخرين المانيا وروسيا وتركيا » وحرم دخولها المكتبات العامة وقاعات المطالعة ، وامتنع عدد من باعة الصحف عن حملها .
وظل اللورد صامتاً لهذه العاصفة كالجبل الشامخ ولم يزد على قوله: يعنيني ان يهبط توزيع التيمس الى نسخة واحدة ، والديلي ميل الى نسختين يومياً .. اني رأيت الحرب أكبر من وزير الحربية ، ورأيته لا يقوى على تحمل مسؤولياتها ، ويعوق التقدم الحربي لبلادي بينما الناس يثقون به ثقة مطلقة فقاومته وهاجمته بعد أن استشرت في ذلك مخلوقاً واحداً هو أمي .. فوافقتني على ما فعلته » وجاءت الحقيقة واضحة للجميع اذ نشأت أزمة وزارية سقطت على أثرها وزارة ( اسکويت ) وشكل لويد جورج وزارته التي أنشأت هيئة أركان حرب تغلبت بريطانيا عن طريقها على خصومها . وحينئذ عرف السياسيون والصحفيون وسائر الناس صدق نظر التيمس ، وان لورد نور تكليف صاحبها هو أقوى رجل في انجلترا على الاطلاق لانه يستطيع أن يرد عشرات من مشروعات الاصلاح الاجتماعي والبرلماني الى ما يبديه من رأي في مقالاته الافتتاحية ، كما يستطيع أيضاً أن يسقط ويقيم الوزارات في سبيل هذا الاصلاح .
فمتى تقدر الصحافة في البلاد العربية عظم الرسالة التي تحملها وتسمو في مقاصدها عن توافه الحياة وتجعل المصلحة العامة للامة فوق كل اعتبار ، وأجل من كل غنيمة زائفة ؟
تعليق