تبادل التاثير بين الصحافة والجمهور
وكما تهدف رسالة الصحافة الى توجيه الرأي العام وتزويده بأنفع العلوم والفنون ، فتبين له مواقع النقص وترشده الى طريق الاصلاح ، وتعمل على رفع مستواه الفكري والخلقي حتى تكون منه الجماعة الصالحة التي تتطلع للمجد وتشعر باستحقاقها للحياة ، نراها هي أيضاً تتأثر به الى حد بعيد . فيرغمها على تلبية رغائبه ، ويصرفها عن الميول الخاصة أو الحزبية، ويهددها بالانصراف عنها ان استمرت في تقديمها له ما لا يستسيغ . فتضطر الى مجاراته مقهورة أمام مقاومته اذا لم تنجح في اقناعه واكتساب ميوله بشتى الوسائل ، وما هذا النضال الا نوع من الصراع الطبيعي الذي له دخل في تكييف الصحيفة ، والذي أشبه بالصراع الذي سبق أن لاحظناه بين الصحافة والحكومات .
واذن فالعلاقة الفقهية بين مصدر الصحيفة وقرائها من ناحية وبينها وبين الحكومة من ناحية أخرى أمر طبيعي . وقد أشار اليه جوستاف لوبون في كتابه روح الاجتماع بقوله : ( وأما الجرائد فبعد ان كانت تقود الرأي العام كالحكومات ، اضطرت الى التسليم أمام سلطان الجماعات . نعم للجرائد أثر شديد في الناس لكن ذلك سببه أنها صارت مرآة لآرائهم ومتغيرة بتغير أفكارهم المستمر . لقد أصبحت الجرائد رسل أخبار فلم تعد قادرة على نشر رأي أو تقرير مذهب ، بل هي : خلف أهواء الجماعات مكرهة على ذلك بحكم المسابقة والتزاحم والا خسرت قراءها ) وأغلقت أبوابها لانقطاع مادتهم عنها . أما اذا ظلت في مثل هذه الحالة تصدر رغم الخسائر فمعنى ذلك أن هناك سراديب خفية خطرة تمولها ضد مصلحة الشعب . فعلى مديري الصحف ورؤساء تحريرها ومحرريها جميعاً مسؤوليات تجاه جمهورهم تسوغ لهم وحدها ما يتمتعون به من امتيازات في المجتمع . فينبغي ان لا يجعلوا مهنتهم التي خلقت لحمل مشعل الحق والنور الى الامة ، ميدانا للتنازع على منصب خلاب ، ومجالا للتهاتر في الامور التافهة التي تولد الانشقاق وتصدع الصفوف ، وعليهم أن يتمشوا في نقدهم المبادىء والسياسات مع روح النزاهة والتجرد ، فلا يجرحون الاشخاص أو يلحقون بهم يعرضهم مع ! الصحيفة التي يكتبون فيها الى عقوبات الحكومة وضياع ثقة الناس بهم . عليهم ان يعرضوا جميع مواد صحيفتهم بصورة سهلة مستساغة تقصد الشعور قبل العقل حتى تنتج أطيب الثمرات ، ويتحقق فيها وجود العنصر النفسي الذي يهتم دواماً بأمر الجمهور ويجتهد لسد حاجاته ورغباته . والصحفيون الذين يوفقون لذلك ولا ينشرون دوماً الا ما يمليه الواجب والضمير يساوون وزنهم ذهباً كما قال ويكهام ستيد .
والحق ان ما يقرره الجمهور بالنسبة للصحف هو حاسم وقاطع ، فهو في اقباله على جريدة ما ، واهماله شأن أخرى يقرر بشكل واضح أي الجريدتين كتب لها النجاح وأيهما كتب لها الفشل . وكما اننا نطالب دائماً بحرية الصحافة . القيود ود التي تفرضها القوانين ، فكذلك ينبغي أن نسعى لتحقيق حرية القارىء . وذلك بالتحرر من الجهل ، والتحرر من التعصب المقيت لان وجود هاتين الآفتين يطمس الحق عليه مهما كان وضوحه وجلاؤه . كما ينبغي علينا ان نعرفه شيئاً من شؤون الصحافة حتى يلتمس لها العذر ان أخطأت ، ويساعدها ان احتاجت الى معونة . ووسيلة ذلك تثقيفه بثقافة صحفية كاملة عن طريق المقالات أو الكتب التي تعالج موضوع الصحافة كما في كتابنا هذا . وحينئذ يعلم الجمهور ان الصحافة لا تستطيع ان تعرض الصدق الكامل عليه الا بمعونته هو وتقديمه لها ما يعثر عليه من اخبار وما يقع عليه من حوادث طائعاً مختاراً بدافع المصلحة العامة فحسب . ثم ليكن هو صمام الامن فيما يتعلق بها بعد ذلك ، ليكون له أثره الفعال في توجيهها وتسديد خطاها للصالح العام بدون أن تخدعه الدعاية أو يغره التزويق ، اذ من الواضح ان الاغراض هي اساس التفكير . فاذا كانت أهداف الصحيفة سيئة صار تفكير القائمين عليها شريراً ، وأضحى مندوبوها ومحرروها خطراً على المجتمع . فمن واجب الشعب أن يتفحص كل ما يقرأ بعين نافذة فيحلل القرائن والادلة التي يقدمها من يريد اقناعه بوجهة نظره ه ، ويتفحص بدقة الاخبار والافكار التي تعرض عليه حتى يفرق بين مقال حرر على أساس الاخبار المجردة ، ومقال بطريقة مشحونة بالعواطف لغاية من الغايات . فيؤيد المحررين والناشرين الذين يخلصون له ويمحضونه الصدق ، وينصرف عن الانانيين المستغلين الذين خانوه وتنكروا لمبادئهم ومبادئه .
فان قصر في ذلك فهو المسؤول وحده ، وهو المتهاون في حق نفسه وأمته وحينئذ لا يلومن الا نفسه كما يقول سنكلير لويس : ما دمنا نعيش بلا قلوب و بلا ضمير وبلا عقول . فبالله لماذا نحزن عندما نكتشف انه ليس عندنا صحافة نظيفة ! » .
تعليق