الصحافة الحرة لا تقدم وسيلة لمحاربة الطفيان
هذا ولا ريب ان الصحفي اللبق المخلص لرسالته لا يعدم وسيلة بكافح بها الاستبداد ويذكي عن طريقها المشاعر العامة ، حتى يصل الى غايته وهو المنتصر الشريف ، وحين يتعذر عليه التعبير الصريح عن الرأي العام في ظل النظام الدكتاتوري فانه يقوم به بطرق سرية خفية كثيراً ما تكون أخطر على الحكومة الدكتاتورية من ألد أعدائها وأقوى معارضيها .
لما ضاق الصحفيون بظلم نابليون ، واضطهاده وفرضه رقابة تمنعهم من التعرض له بأي نقد استطاع واحد منهم هو راؤول ريجولت ان يتغلب على كلها بدهائه حيلته ، فاختار أحد المتسولين ومنحه عشرين فرنكا مقابل توقيعه على قرار يقدم لوزارة الداخلية بطلب الترخيص باصدار مجلة اسمها ( الطبيعة ) ، وانزل أحد الفنادق الكبيرة وأحاطه بشيء من التي تليق بصاحب صحيفة . وقبل الطلب لاستيفائه الشروط اللازمة ، وكتب ريجولت في العدد الاول : « قرائي الاعزاء سنقدم لكم ابتداء من . العدد دراسات في التاريخ الطبيعي نستهلها بالحديث عن الصقر الفرنسي خطأ ( ملك الطيور ) . ثم يبدأ المقال بقوله : الصقر طائر خطاف جبان متوحش يعيش على لحوم الحيوانات والطيور الاخرى الضعيفة ويذهب الى أعشاشها لسرقة بيضها ، فقد رأوه كثيراً وهو ينقض على الحملان الوديعة لينزع صوفها ليفرش به وكره . انه أبداً عن أي عمل قاس ليشبع نهمه الذي لا ينتهي . وبعد كل هذا قد نعتبر المشتغلين بالعلوم الطبيعية على حق في تسمية الصقر ملكا ، لان أغلب الملوك الذين هم على شاكلة الصقر يتغذون عادة رعاياهم » ، ولا ينتبه المسؤولون في وزارة الداخلية الى ان المقال الرئيسي في العدد كله نقد وتجريح لنابليون بالذات فيحاولون مصادرة المجلة حتى تكون قد تسربت في الخفاء الى جميع الناس . ومن الطبيعي بعد ذلك ان لا يصدر العدد الثاني من المجلة ، بل تظهر مجلة أخرى جديدة باسم ( الجغرافيا ) أو ( العلم للجميع ) وهكذا مفترس لا يرجع دماء من مجلات كلها على نسق واحد من النقد والتعريض . وعندما تسعى النيابة لتقديم رئيس التحرير الى المحاكمة بتهمة اساءة استعمال التاريخ الطبيعي أثراً ، لانه يكون قد غادر الفندق وعاد لثياب التسول وهام على وجهه في الاسواق .
وقد درجت بعض الصحف العربية في نقدها لمن يبلغها انحرافه عن جادة النزاهة من حكام العرب على طريقة التساؤل بعبارة أصحيح هذا ؟ ثم تروي الخبر كما وصلها وتطلب الاجابة عليه بكتاب مفتوح حتى لا تبلغها يد القانون وتعاقبها بتهمة القذف ومن طريف ما يذكر انه لما أمرت الرقابة الفرنسية بحذف كل ما يكتب تحت الرسوم الكاريكاتورية في مجلة ( لو اليستراسيون ) الفرنسية في سنة ١٨٧٣ لجأت المجلة الى طريقة جميلة قد تغني عن التعليق وزيادة ، وذلك بأن استمرت في نشر الرسوم الكاريكاتورية وغيرها وأعلنت عن مكافأة مالية لكل من يفهم معنى الرسم وما كانت تريد الصحيفة أن تكتبه تحته من تعليق ، وبذلك وصلت الى ما كانت تبغيه من نفوس القراء . هذا بالاضافة الى ما كانت تعمد اليه بعض الصحف من طرق أدبية الطابع عظيمة الاسلوب ، تقدمها الى الناس وهي تحمل في ظاهرها نبوءة أو حلماً أو خرافة مبتكرة أو حواراً بين شخصين متمايزين أو قصة على ألسنة الحيوانات وكلها تحمل في باطنها نقداً مريراً وتوجيها سديداً. وارفع مثل على النمط الاخير ما جاء عن ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة المشهور الذي ينتقد فيه ويسدد بطريقة مبتكرة وأسلوب جميل . فلتتعلم الصحف في البلاد العربية المضطهدة كيف تواجه الظلم في الايام الحالكة وكيف تنفذ الى أغراضها النبيلة من محاسبة وتوجيه للحكام وللمحكومين عن أي طريق حر سليم .
تعليق