حرية القول والكتابة اساس الحرية العامة للشعب :
يقول ميرابو خطيب الثورة الفرنسية المشهورة : « ان حرية الصحافة دواء لكل الادواء وان تقييدها لا يعوق في الحقيقة الا الشرفاء » . ما أجمل هذا القول يا ميرابو ! فخلاص الصحافة . من القيود الاستبدادية دليل على رقي الامة وسلامة مجتمعها من العبودية ، وذلك لان حرية الفكر والقول سواء كانت أداة التعبير عنها اللسان هي أم الكتاب أم والصور أو غير ذلك من وجوه أداء الفكر والاحاسيس تعتبر جزءاً من الحرية الشخصية بالمعنى العام ، تلك الحرية التي قامت من أجلها الثورات وانتفاضات الشعوب في شتى نواحي الارض . فحرية القول والفكر هي التي أنت بالحرية السياسية وهي نظام الحكم المعروف بالديموقراطية . فالنظم الحرة لاتعيش الا في ظل حرية القول . والحرية بوجه عام لا يمكن أن تكون مطلقة الى أبعد حدود الاطلاق لانها لو كانت كذلك لترتب عليها فناء بني الانسان وفناء الحرية عينها . لذلك لا تكون حرية الفرد أو الجماعة صحيحة الا اذا كانت تقف عند الحد الذي يبتدىء به الاضرار بالغير . فينبغي لذلك ان تكون مقيدة على هذا الاساس فحسب ليصح الاستمتاع بها بوجه مفيد . وقد صــــور الاسلام حدود الحرية بشكل جميل حسي على لسان الرسول العربي عليه السلام حيث يقول : ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو انا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم تؤذ من فوقنا فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) .
وحرية القول والفكر تتصل بعناصر الحياة المعنوية . فالاديان والاخلاق والسياسة ونظم الحكم والعلوم والفنون ما . تقدمها واضطراد نموها الا ثمرات من ثمراتها تتكامل عن طريق النقد والتوجيه والاكتشاف . وأداة حرية القول نفسها من صحافة واذاعة وسينما وتصوير تتسلط عليها هذه الحرية ايضاً فتقوم اعوجاجها وتهذبها وتصقلها وتظل معها في صراع مستمر . وقد دلت التجارب على ان غل هذه الحرية وتقييدها تحرم بد منه كما تحرم الامة من آراء ومعرفة قد يفيد منها كثير من الافراد في حياتهم .
وقد اعترف كثير من الزعماء السياسيين انهم الذين يبصرونهم بعيوبهم أكثر مما أفادوا من أنصارهم وأصدقائهم الذين قد تدفعهم الزلفى والغايات الخاصة الى طمس الحقائق وتزيين الباطل . ولذا فان الامريكيين والانجليز يذهبون في حرية اعلان الرأي الى أبعد حدود ويرون في ذلك ما يرى جيفرسون من أن حرية الصحافة اذا قيدت فقدت ، وما يرى روييه كولارد في قوله المشهور : ( في ظل الحرية المختنقة ينطفىء الذكاء ) . وفي هذا الصدد کتب بنجامان كونستان عام ١٨١٤ يقول : « ان الحكومات لا تدرك مدى الضرر الذي تلحقه بنفسها حين تقصر حق التعبير والكتابة على أنصارها وحدهم ، اذ لا يعتقد أحد على الاطلاق فيما تؤكده السلطة التي لا تسمح لاحد بأن يعارضها أو يرد عليها ، بل على النقيض من ذلك ان كل ما يقال ضد هذه السلطة هو المؤكد والمصدق » .
وربما كان أصح ضابط في أ أمر هذه الحرية هو توفر الامن والسلام للمجموعة وتقديم مصلحتها على مصلحة الفرد . فما يتهدد المجموعة حقيقة لا ظنا يكون محرماً ، وما لا يتهددها يكوان مباحاً على شرط ان لا تتعدى الى ما يشبه حرية العمل الذي يتأكد فيه النيل من الآخرين. وعلى هذا الأساس أصبحت وسائل حرية القول والفكر كالصحف وغيرها هي من وسائل التربية والتعليم ، غير اننا ننكر على الكثير منها جنوحه الى نوع من أنواع الدعاية غرضه خلق رأي عام من غرار واحد يرى بأذن واحدة معتمدة في ذلك على وسائل التأثير التي قررها علم النفس . وفي الدعاية - كما نعلم - الطيب والخبيث مما يقتل في نفوس الافراد المواهب والملكات ويعطل نفوذ الاستقلال الفردي والجماعي . وعلى ذلك يتطلب الأمر من حرية القول ان تكون خالصة من النزعات الخاصة بعيدة عن التأثيرات المغرضة والاتجاهات المشبوهة لتكون حقاً المسددة للخطى والمرشدة للصواب . فان لم تكن كذلك كانت حرية مجرمة لان ( الجريمة - كما يقول كليمنصو – جريمة في كل زمان وكل مكان بصرف النظر عن أداة الجريمة . فكل فعل ضار بالمجتمع جريمة يجب أن يعاقب مرتكبها . فاذا وقعت جريمة صحفية فان مؤلفها يجب أن يعاقب اقترافه الذنب » . ولأن « الحرية ـ كما يقول آن توماس - لا يمكن ان يصحبها انعدام المسؤولية . فانعدام المسؤولية يسمى شهوة لا حرية » .
فللصحافة أن تخوض في الموضوعات المختلفة برفق ، وأن تعتمد في ذلك على الجدل المقنع مبتعدة عن سواه من مظاهر القهر والسب والقذف والاخلال بالآداب العامة وغير ذلك من الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر . وان هذه الجريمة الواسعة . مع بعض المراقبة كفيلة بتنظيم نفسها والتسامي الى الاصلح والانفع . فأقرب طريقة لتحديد مفهوم حرية الصحافة بشكل خاص هي أن تمنح حرية مطلقة مع تحميلها مسؤولية ما ترتكبه تعرضها لطائلة القانون بدون تحيز أو مخالفات من تهاون .
تقول جين آبوت في مقالها الذي نال في سنة ١٩٤٥ جائزة أحسن مقال تلك السنة : انه لا ب في أن كل شخص ذكي لبيب سيقر بأن لا وجود في العالم على الاطلاق للحرية الكاملة . فليس في أحد أن يتصرف على الدوام على هواه ورغبته دون ضابط أو رقيب . والواقع ان حرية فرد ما ، أو دولة ما ، انما تنتهي عندما تبدأ حقوق فرد آخر أو دولة أخرى . وعلى هذا النحو يدرك كل فرد ذكي : ان حرية الصحافة ينبغي بدورها أن تكون نسبية ! الجواب على ذلك السؤال يسير : وهو أن تتوفر الحرية لكل صحيفة بحيث تستطيع أن تنشر كل ما يقوى القائمون بالامر فيها على نشره من الانباء الصادقة ، وأن تضمن في الوقت نفسه حرية نشر الرأيين المتناقضين المختلفين لأية مسألة من المسائل يدور بشأنها الجدل والنقاش ، وأن تنحرر الصحيفة وتقف موقفاً نزيها مستقيماً من أي موضوع يدور حوله الجدل والبحث ثم تتخذ لها موقفاً مستقراً منه توضحه في افتتاحيتها . وحرية الصحافة لا يمكن توفرها الا بالاعتماد على دعامة واحدة وطيدة هي : الصدق . وعلى الرغم من أن التوراة قد ذكرت منذ دهور طويلة قبل ظهور الصحافة الى عالم الوجود العبارة التالية : ( اعرف الصدق يحررك ويطلقك من أسارك « فان المرء ليتلو فيها توجيهاً صالحا لرجال الصحافة في هذه الايام ) .
فالصحفي الذي لا يسعه أن يقدر مثل هذا المفهوم للحرية خليق بالنقابة التي ينتمي اليها ان تنفيه عن حظيرتها كما ينفى المنبوذ الاجرب . وكذلك تفعل بكل صحيفة خائنة مأجورة لا تستحق أن تدس نفسها بين المواطنين الشرفاء . ويجب ألا تنسى النقابة ان تحتفظ لدستورها بهذا سمعتها وسمعة هذه المهنة السامية من أذى المارقين الحق الذي يحمي الاذلاء .
تعليق