الصحافة العربية في الميزان
أما صحافتنا فبكل صراحة وأسف - ونحن الآن أحوج ما نكون الى الصراحة الممزوجة بالأسف - ما تزال بأمس الحاجة الى تجديد تغذيه ثقافة صحفية متينة ونهضة علمية وفنية شاملة ، حتى تساير هذا العهد الذي خطا فيه الشعب العربي خطوات واسعة نحو الامام في شتى ميادين الوعي القومي والرقي المادي ، حتى غدا لا يرضى لنفسه الصحافة الهزيلة التي لا تشبع نهمه وطموحه ، ولا تنفق ونظرة الامل التي ينظر بها الى مستقبله الحائر مع تيارات الصراع الدائر في العالم الذي أصبح كتلة ملتهبة من التنافس والاطماع ، فضلا عن أنها لا تعطي الصورة الواضحة عن نفسيته وتقدمه ولا تستطيع ان تكون أداة توجيه صالحة ليلقي اليها مقاليد أمره ، فهو اذن غير ملوم اذا مقتها بل فر منها ليروي غليله من صحف أخرى أجنبية قد تحمل اليه السم في الدسم . ولعل عوامل هذا الضعف ومرد ذلك الانصراف يعود للاسباب التالية :
ا - اشتغال غير الاكفاء بالصحافة، اذ ليس هناك قيود تمنع غير المختص دراسياً أو المدرب عملياً من خوض هذا الميدان الخطر الذي يحتاج الى كثير من الدقة والاتزان والنزاهة والثقافة الناضجة حتى اصبح ينطبق عليها اليوم ما قاله مارا محرر جريدة ( صديق الشعب ) في مستهل الثورة الفرنسية : « أضحت مهنة الصحفي أمراً يدعو للسخرية بيننا في هذه الايام . فكل من لاك أبياتاً ركيكة أو سود مقالا غثا في (لاجازيت) ثم حار في اختيار عمل يمتهنه جرب حظه في انشاء احدى الصحف ، وغالباً ما يكون شخصاً فارغ العقل تافه المعلومات لا فكر عنده ولا رأي. وكل همه أن يتجه الى المشارب ليجمع ما يتردد فيها من : أعداء الأمة وشكاوى المواطنين ومتاعب غير المحظوظين ، ويعود ورأسه محشو بكل هذا السقط فیسود به صفحات يدفعها الى المطبعة لتهديها في اليوم التالي للبلهاء من غفلة المشترين . تلك . حقيقة غالبية هؤلاء السادة » • أضف الى ذلك أنه لا يوجد في كثير من ! الدول العربية حتى الآن مدرسة تسد هذا النقص وتعد الصحفيين الممتازين ، كما هو الحال في أوربا وأمريكا والاقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة حيث أخذت طلائع المتخصصين تغزو الميدان الصحفي بمهارة ونجاح وتنحي من طريقها العناصر الضعيفة تدريجياً ، ومن هذه المدارس ما يشترط في المنتسبين اليها أن يكونوا من حملة الشهادات العالية ، وان ينجحوا في المباراة الفرعية التي تقام لاختيار الطلاب الصالحين للصحافة ، وان يرضخوا فيها لنظام عملي شديد، فيتلقون في مدة تختلف طولا وقصراً بحسب مكانة المؤسسة من كونها مدرسة أو معهداً أو كلية أو جامعة ـ برنامجا يتضمن عدا الثقافة العامة والثقافة السياسية التربية البدنية والطرق العملية التي تلزم ممارسة هذا الفن ، بل قد بدأت كثير من معاهد الصحافة في اصدار صحف ومجلات لتدريب الطلبة أثناء الدراسة بشكل عملي .
٢ ـ عدم تنظيم قسمي الادارة والتحرير . فالمصدر هو الذي يتولى أكثر أعمال الصحيفة وأحيانا رئيس التحرير ، فهو المحرر والمترجم والطابع والبائع والمدير والمحاسب . ولا يزال هناك أسر تقوم بذلك كله فالزوج وزوجته وأولادهما أسرة الصحيفة يصفون الحروف ويديرون آلة الطباعة ويقيدون الحسابات الى جانب التحرير والترجمة والتعليق . وقد ينشيء بعض الناس مطبعة في بداية الامر ثم يرى أن يوجد لها مطبوعات بينها جريدة أو مجلة يصدرها ، مع ان كبريات الصحف في العالم أصبحت تنظمها دور كبيرة ذات ادارات واسعة منظمة تشبه الحكومات ، فيها قاعات كبيرة مجهزة بالمناضد التي يجلس عليها المحررون وأمام كل منهم آلة الكتابة والهاتف ، وهناك المئات . من العاملين ينصرف الى الناحية التي تخصص بها فحسب .
فتطور الصحافة وتعدد أعمالها الدقيقة يقتضي توزيع هذه الاعمال على ذوي الاختصاص ليتولى كل منهم ما يحسن ، لان من يحاول وحده عمل كل شيء يفقد الاتقان والنجاح في كل شيء .
٣ - انتشار الراديو الذي أصبح أكبر منافس للصحافة ، حيث يقدم المجموع الشعب أهم الاخبار وأحيانا يعلق عليها ويأتي بما أتت به الجرائد والمجلات ، وقد يسبقها في نشر ذلك على الملأ ، وكذلك التلفزيون الذي يضيف الى هذه المزايا تمكين الجمهور من . الحوادث وجلسات البرلمان أو المحاكم أو الحفلات وغير ذلك . وهذا مما يرغم الصحف على تنويع موادها وصورها والاتيان بمواضيع مقالات لا يعرض لها ذلك المنافس الخطر ، حتى يجد القارىء ما يغريه بشراء هذه الصحيفة أو تلك .
٤ - انصراف كبار الكتاب عن الكتابة في الصحف اما الكسل ، أو لكون اتجاهاتهم العقائدية لا تتمشى مع اتجاهات هذه الصحف وسلوكها وهم الفئة الواعية الحصيفة . فأخذ أصحابها يفسحون المجال للناشئين من طلاب وغيرهم ليلقوا الى الناس بهذر الصبا وسخف القول .
٥ - اتخاذ الصحافة في بعض الدول العربية كوسيلة للارتزاق وكسب النفوذ، ولذا فهي في بلاد التحزب والتنافس على السيادة لا تستقر القلق ، بل تساير دائما الحزب أو الشخص الذي يشتريها بثمن أكبر ولو داست في سبيل ذلك المبادىء الشريفة التي أعلنت عنها ، ومؤهت بواسطتها على الناس . فلا عجب بعد ذلك اذا ثقتهم التي لا يعدلها شيء ، كما انها لهذين السببين أضحت توجه أكثر عنايتها للعناوين الضخمة التي ! لا تمثل الواقع ، ولنشر تفاصيل الجرائم المنكرة والاخبار التي يعتورها المغالطة والمبالغة والتحريف والتفاهة والتحزب والغموض ، فابتعدت بذلك عن رسالتها الاساسية وهي الصدق والتوجيه الرشيد . انها في كذبها أحيانا أشبه بصحيفة ( استانبول ) التي كتبت عندما قتل ملك البرتغال كارلوس الاول وولده « توفي الملك كارلوس وخلفه على العرش ولده ايمانويل ولم يتغير شيء في الاسرة الحاكمة في البرتغال » وذلك لان السلطان عبد الحميد قد منع نشر أنباء الاغتيالات في أي مكان من العالم خوفا على نفسه . وانها في نفاقها أحيانا أشبه بصحيفة ( جورنال دي ديباه ) التي كتبت حينما فر نابليون من جزر ألبا ونزل بجنوده على الساحل الفرنسي ، وظن الباريسيون ان الملك لويس الثامن عشر سيتغلب عليه بقواته ماذا تكون نتيجة المشروع الاعمى الذي يقوم به نابليون اذا استسلمت فرنسا له وتركت نفسها أمام أفاقي كورسيكا ومعه حفنة . اللصوص الاجانب وعصابة من الفارين من ! الخدمة العسكرية . ثم تكتب بعد ان انتصرت جيوش نابليون ودخل باريس بدون مقاومة ، وبعد أن غيرت اسمها الى جريدة الامبراطورية « فرت أسرة البوربون - أسرة لويس الثامن عشر ولا يعرف أحد الطريق الذي سلكته . ان العاصمة تشعر اليوم بالأمن والسعادة والجموع المحتشدة تملأ الطرقات وتغطيها . جموع : تنتظر بفارغ الصبر بطلها الذي رد اليها ) .
وخير لهذه الصحف المائعة لو تحتجب عن الصدور حينما ترى انها لا تستطيع الاحتفاظ بكرامتها في ايام المحن من أن تضلل الشعب وتميت معنويته ، كما فعلت اثنتان واربعون صحيفة فرنسية عندما دخل الجيش الالماني باريس سنة ۱۸۷۱ بعد أن أذاع اصحابها بيانا بينوا فيه انهم يرفضون ان يخضعوا للرقابة الالمانية التي لن تملي عليهم موضوعا يحفظ للفرنسيين هيبتهم وكرامتهم بل ستعمد الى فرض الموضوعات التي تخمد المعنوية العالية .
٦ - ضعف نقابة الصحفيين ، فهي وحدها ــ فيما لو كانت قوية ـ تملك حق اقصاء من يلوث شرف المهنة ، وانقاذ سمعتها من أيدي شذاذ البشرية الذين يتخذونها كأداة للنيل من أعراض الناس وتضليل الشعب وتحطيم نفسيته. وهي وحدها التي تستطيع أن تبني من هذه المهنة الرفيعة أكبر أساس لتدعيم استقلال الوطن وخدمته والسير به الى الامام.
٧ - تغاضي الرقابة الحكومية في بعض الدول العربية عن نشر لمصلحة الامة أو الفرد كالتضليل السياسي أو الدعوة للفسق والفجور أو الطعن بالناس الشرفاء ، ورحمة القضاء بهؤلاء المسيئين في كثير من الاحيان ، فأغلب الصحف مسخرة للدعايات أو الاعلانات المغرضة ، وأكثر الاقلام مستأجرة برشاوى سافرة أو مقنعة لا في سبيل خدمة المصالح العليا للأمة ، بل لاذكاء نار الاحقاد السياسية والخصومات الحزبية أو الدينية التي تودي بالوطن الى البوار .
٨ - كثرة الصحف التي تتنازع البقاء وتقدم في سبيله على تصرفات لا تليق بكرامة الصحافة وأهدافها ومكانتها الاجتماعية . والتصحيفة واحدة مستقيمة حرة خير من أ ألف لا مبدأ لها ولا طموح عندها ، اذ من المسلم به ان الصحيفة لا تتخطى ما تتعرض له من عقبات في سبيل مضاربة غيرها دون أن تتنازل وقارها وعفتها واستقامتها . ثم ان تأسيس المجموعات الصحفية وانضواء عدة صحف يومية تحت ادارة واحدة له فوائد كثيرة منها الاقتصاد في النفقات ، ومنها قوة هيئة التحرير ، والتساوي في الاستفادة . الاعلانات، والتخلص من أضرار المضاربة والتهاتر الكلامي .
۹ - رداءة الطباعة - فحتى هذا الحين لا تزال أكثر مطابعنا من النوع القديم الرخيص الذي يضيع هيبة الكتابة ويحرم بعض الاحرف من نيل حقها في الظهور ، مما يحير القارىء المبتدىء ويتعب أعصاب المثقف المتمرن.
١٠ - ضعف التصوير - فمعظم صور صحافتنا متلفع بالغموض ، بعيد عن قدرة الاستهواء والاستئثار بالنظر لانه محروم من براعة الفنانين المتفوقين في التصوير والحفر والطبع ، اذا استثنينا بعض المؤسسات الصحفية العتيدة في الاقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة كمؤسستي دار الهلال ودار أخبار اليوم .
۱۱ ـ عدم وجود معمل للورق في بلادنا مما يزيد في تكاليف الصحف ويسبب وقوعها في بعض الأزمات المادية لا سيما في أيام الحرب حيث ترتفع أسعار الخامات . ويكاد يكون من الامور المسلمة أن أصدق مقياس لحضارة أية أمة من الامم هو مقدار ما تستهلكه من ورق الصحف » . فكيف تتمكن من مسايرة هذه النظرية ونحن عالة على غيرنا في الحصول على الورق ، مع أن بلادنا بلاد زراعية يمكنها أن تقدم بسخاء النباتات اللازمة لصنعه ؟ وحينئذ تنشط الصحافة نوعاً ما . ويجب أن نعلم بهذه المناسبة ان بعض دور المطابع والصحف الكبرى في أمريكا والسويد تملك مصانع للورق خاصة بها ، كما تملك الغابات اللازمة لامداد هذه المصانع بما تحتاج اليه من الاخشاب .
۱۲ ـ ضعف شعور بعض الصحفيين العرب بمسؤولياتهم تجاه أمتهم ووطنهم . فالمفروض في الصحافة ان تأخذ دور الرقيب الصادق لكل ما يجري في الوطن من خير وشر . بل وينبغي أن تساعد في بناء المجتمع بناء صحيحاً فتعمل على حل مشاكله وتعالج قضاياه بروح المخلص الأمين . فالصحافة في أميركا مثلا يخشاها التجار والمجرمون وكبار السياسيين ، بل والرئيس الأعلى للبلاد أكثر من خشيتهم القضائية . كما أنها تدخل كل ميدان من ميادين الاصلاح ، حتى ميدان كشف الجرائم وهي في ذلك أكثر نفوذا من رجال الأمن أنفسهم ، كما أنها الحرة المدللة في كل مكان . بينما نجد بعض صحفنا العربية (تاجرة) بكل ما في هذه الكلمة من معنى فهي تساوم على المبادىء وتنقلب مع الظروف ولا تعني الا بالجانب المحلي من أزمات البلاد ، وقد تخالف في ذلك الضمير وتجافي الحق ، ونظرة واحدة الى عناوينها في قضية واحدة من قضايا الساعة تدلنا على مبلغ ما فيها من تضليل للشعب ، وتلاعب بمشاعره ، وتهافت على المادة ، ونفاق مع الكبراء ، بل والمستعمرين في كثير من الاحيان . فلا غرابة اذا ما فقد الشعب ثقته بها وأضحى يلتمس تسليته في غيرها من الصحف العربية والاوربية . نحن نقبل أن يكون في البلاد اتجاهان أو ثلاثة للصحف ، فتكون منها الصحف الحكومية والمعارضة والحيادية . أما أن تنبنى كل جريدة الدفاع عن سياسة فئة معينة ، أو شخص معين ، أو دولة أجنبية معينة فهذا بدون ريب امر مريع .
تعليق