اثر الصحافة في التقدم الفكري
لا شك فيه ان الثقافة الفكرية قد وصلت في جدتها وتقدمها حداً جعل من الابتكار العلمي والادبي ما تحسبه لكمال نضجه خلقاً الهيأ لا شيء أروع منه ، ولو بحثت عن الصورة التي تنطبع عليها بجلاء مظاهر هذه الثقافة المختلفة الالوان و المناحي لوجدتها في الصحافة ، فاذا أردت أن تستشف روح أية أمة أو تحكم حكماً تاريخياً على أي عصر فانك لا تستطيع أن تفعل ذلك باطمئنان وثقة الا اذا بحثت عن ت وتوخيت ذلك الحكم. الصحف ، لانها وحدها التي تمثل نفسية الشعب وسياسة الدولة أصدق تمثيل ، وحدها تكشف لك ، وهي التي بوضوح وصراحة كل ما قد ظهر في حينها من مكتشفات ومؤلفات وحوادث وأخبار ، بل ان الصحيفة المستقيمة تقدم لقارئها ما تقدمه الجامعة لطلابها من أنواع الثقافات .
فالصحيفة اليومية ضرورية لرجل القرن العشرين . فهي تفتح عينيه نور الصباح فراشه فتوقظه وتقدم اليه حفنة . من الوقائع والآراء وتتزلف الى نفسه أكثر مما يتزلف افطار الصباح . وهي في كتابتها التي تحرك الخيال وتثير النفس ، وتقص الحوادث ، وتعرض الآراء ، وفي لجوئها كل يوم الى حيل جديدة في الطباعة وفي عرض الصور التي تمنح المتعة بدون أي عناء معشوقة كل فتى عصري ، تسعى دائما الى استهوائه بذلك وبما تقدم اليه من أفكار وقواعد فيها قليل من عسل الادب ومن جوهر الفلسفة وكثير من الحوادث اليومية التي يعيش في حرارتها حتى تأتيه بغيرها من جديد .
أما المجلة التي قد تظهر مرة كل اسبوع أو كل خمسة عشر يوماً ، وأحياناً مرة واحدة كل شهر فهي تجمع بين عناصر الجريدة والكتاب .
وهي كما يدل عليها معنى لفظها الاشتقاقي تسعى دائماً أو تحاول أن تسعى الى استجلاء حقبة من العالم ، ولها على الحوادث اليومية نوع من الرقابة التي ترفع من قيمتها اذ تغربلها ولا تبقي منها الا ما يصلح لان يكون غذاء لتكوين النفوس . فالمجلة الحقيقية التي تشعر بأهمية ما تقوم به يجب أن تحمل أثراً لكل ما يحدث في العالم من أمور هامة ، فتعلق على الكتب وتذكر الحوادث وتحكم على أعمال الرجال وأخلاقهم ، وتقدم علاوة على ما سبق تأليف جديدة حتى تستطيع أن تكون عالماً صغيراً معقولاً ترسم فيه عناصر الوجود وتفصله تبعاً لدرجة عظمها وأهميتها الحقيقية . اذ بذلك فقط تشاطر الكتاب حياته وقيمته لانها تأخذ مظهره حينئذ لا مظهر الجريدة ، فلا تلقى كالصحف اليومية ـ بعد قراءتها ـ في سلة المهملات كما يلقى قشر الموزة بعد تناول لبابها ، بل تحفظ في المكتبة تلبي متى طلبت وتجيب متى سئلت فتذكرنا بما كانت عليه في هذه الفترة الزمنية المحدودة أعمال الناس ومؤلفاتهم وأفكارهم وطرق احساسهم أو تعبيرهم . فللمجلات المكان الوسط بين الكتاب والجريدة ، لان الكتاب ضخم بطيء ، والجريدة موجزة سريعة ؛ والمجلة بين بين . ومهما يكن من شيء فان مجهودات الروح المستمرة النشاط والتفكير الدائر الخلق . بل كل شيء في هذه الحياة يتطلب الصحيفة الناهضة بنوعيها . فهي التي تساير موكب الحضارة في كل نواحيها ، وهي التي تعتبر الرسول الطبيعي لتطور الروح والفكر . وقد قصد جيفرسون أحد رؤساء الولايات المتحدة الامريكية مثل هذه الصحيفة حين قال : « لو خيرت بين حكومة بدون صحافة أو صحافة بدون حكومة فلن أتردد لحظة في اختيار الوضع الثاني ) .
تعليق