سيد محمود
ديوانه الثاني صدر بعد 18 عاماً على الأول وقصائده تحتفي بالصداقة والذات
بعد صدور ديوانه الثاني "سيرك الحب" عن "دار أوكسجين 2023" فقد الشاعر والإعلامي المغربي عبدالإله الصالحي لقب شاعر الديوان الوحيد، لكنه أكد في المقابل خصوصية تجربته التي كانت تستحق الوصول إلى القارئ وهي على هذه الدرجة من النضج والتفرد.
أصدر الصالحي ديوانه الأول "كلما لمست شيئاً كسرته" عام 2005 عن "دار توبقال" وفاز بجائزة بيت الشعر في المغرب، غير أنه انتظر 18 عاماً قبل أن يخطو خطوته الثانية، مما يؤكد اهتمامه بالقيمة والنوعية أكثر من أي شيء آخر. يؤمن الصالحي أن الشعر لا يتحمل الثرثرة، وتنهض تجربته المقتصدة على شروخ الذات وعثراتها، فالشعر الذي نعثر عليه في ديوانه الجديد هو "حصاد الخسارة" وربما عنوان لها، إذ يصل القارئ الى هذه الحقيقة منذ الصفحات الأولى، وما يعزز هذا الانطباع كون الشاعر يطل من قصائده بلا أقنعة أو حيل بلاغية راغباً في رصد أشكال الخذلان.
ذات مهزومة
يتكئ الشاعر دائماً على نبرة سردية تؤرخ لذات مهزومة ترثي العدم وهي لا تملك سوى الخسارة أو "الشعور بالرعب من الطابور في المطار / وتفاهة الماضي الذي ينهمر كالبصاق".
تتوالد الصور الشعرية في غالبية القصائد من مخيلة سوريالية تتدفق بالرؤى والأحلام والصور الغرائبية المعنية بمختلف أشكال المناجاة، وتنهض معظم القصائد على ما تتيحه الألفة من فضاءات للمغامرة، وأول ما ينتبه القارئ إليه هو أن القصائد كافة مهداة إلى أصدقاء معظمهم من رموز الحقل الأدبي في المغرب وخارجه، مثل محمد بنيس وعبدالرحيم الخضار ومحمد العلمي ونجوان درويش وزياد عبدالله وآخرين، لذلك تأتي القصائد أقرب إلى "بورتريهات" أو صور توجز سيرة الشاعر وتؤطرها.
وتبدو قصائد أخرى بمثابة يوميات تشير إلى الحياة التي يعيشها الشاعر في غربته الباريسية ما بين طبيعة العمل وطبيعة الحياة، ومن هذه السيرة يصنع نسيجاً مطرزاً بعلامات تتكرر في غالبية النصوص، مثل الحانات/ البيرة/ الشوارع / الشواطئ/ العاهرات/ ندل الحانات، وتشير كلها إلى ضيق الحيز الذي يتحرك فيه بحثاً عن الألفة. وربما بفضل هذا الخيارالسير ذاتي يبدد الصالحي المسافة بينه وبين النص، وينحاز الى كتابة قائمة على العصب تشيع فيها نزعات درامية يصعب تفاديها.
شعرية المفارقة
يستثمر الشاعر كثيراً في الكتابة المشهدية التي تميل إلى شعرية "المفارقة "، ويؤسس لقصيدته من شعوره المستمر بالعدم والطابع الهش للحياة اليومية التي يعيشها بخفة تلائم شعور من يعطي ظهره للمشهد ويتعالى عليه، فهي ليست قصائد عن "أحلام الفارس القديم" لكنها هواجس ذات تعيش بـ "قوة الشك" وترغب في "تخليد أمور بسيطة تقع مصادفة ولا تنشغل بما هو خارجها".
تجسد قصيدة "الأبوة" المهداة إلى صديقه خالد الشرادي المثال الأهم للاحتفال بالضعف الإنساني وسعي الشاعر إلى النظر في بعض مظاهره، وبالمثل فإن قصيدة "سيرك الحب" التي أهداها إلى علاء بونجار تبقى واحدة من أجمل المرثيات في الشعر المعاصر، فهي تستخف بالموت وتعطي البطولة كلها لفقيد عادي لم ينجز ما يضعه في مصاف الأبطال: "نعم لن تغفر لك الحياة / أدنى هفوة / أيها البهلوان، حتى لو شبعت حد التخمة ستجوع يا صديقي وتنهار، وستجرب الذل ذات يوم مثل فتى عاشق في مقتبل العشرين". يتحدث الصالحي عمن ذهبوا ويعمل على استعادتهم بالكتابة، ويتأمل حيواتهم التي فاضت إلى حد الغياب بحثا عن "ألق غائب" لكنه بقي مثل غصة في الحلق.
منطق الزوال
يأتي الشعر في الديوان من العودة لذاكرة مخصبة بركام التفاصيل التي لم تذهب إلى النسيان، وتصنع قصائد يتمدد فيها الخوف وتنتصر فيها الوحدة، فيكتب عبدالإله الصالحي قصائد قصيرة جداً، ما عدا قصيدة مهداة لمحمد بنيس، تظهر ميله إلى الحذف ونفوره من الثرثرة التي تثقل الشعر بما لا يحتاجه، فهو كأنه يشبه نحاتاً يحمل إزميلاً حاداً ويكشط الزوائد عن التماثيل التي ينحتها لبشر خالدين في الذاكرة، ويستطيع في اللحظة المناسبة حملهم إلى الشعر كمستقر أخير.
وبحرفية عالية يهرب الصالحي من كتابة الجملة الأخيرة ومن ثقل الذكرى، فهو يمتلك قدرة فريدة على صناعة "المفارقة التهكمية" التي يستعملها ليس فقط من باب الطرافة، بل كأداة سحرية كيلا تسقط قصيدته في فخاخ الميلودراما أو "البلادة المعتادة" في قصائد تقودها المراثي.
ويحكم الشاعر إيقاع قصيدته ويقاوم عبرها الرتابة بصورها كافة، ويتعامل مع الشاعر مثلما يتعامل سكير مع رقصته الأخيرة، فلا مجال في هذه الكتابة للمعاني الكبيرة لأنها تنشغل بـ "العابر وتمجد الهشاشة وتطارد العدم". وفي أحيان كثيرة يذكّر المنطق الذي يقف خلف قصائد الصالحي بالأسباب ذاتها التي قادت محمد الماغوط ليكتب قصائده عن ليل "باب توما "، أو بما دفع قسطنطين كفافيس إلى تأمل الشموع التي تخفت خلف ستائر غرفة حجرته في فندق بائس، فالمنطق هو مطاردة الزوال.
تذهب قصائد الديوان خلف الصمت ولا تنشغل بالكلام، وتحتفل بالهزيمة أكثر من سعيها وراء الانتصار، إذ تبدو المجموعة الشعرية كلها مدونة للاحتفال بكل ما هو ضعيف وبائس ومنهزم، فما يريده صاحبها هو الاحتفال بعدم الاكتمال واستجلاب لذة الانحراف، لأنه يبغي للشعر أن يبقى مقعداً يرتاح فوقه العجزة من مشقة الطريق. يكتب الصالحي بطموح الراغب في الإمساك بتلك "اللقطة الهاربة" وتمجيد "وجودنا القريب مع ما ينقصنا"، منحازاً إلى ما ينتج من "سوء الفهم".
ديوانه الثاني صدر بعد 18 عاماً على الأول وقصائده تحتفي بالصداقة والذات
بعد صدور ديوانه الثاني "سيرك الحب" عن "دار أوكسجين 2023" فقد الشاعر والإعلامي المغربي عبدالإله الصالحي لقب شاعر الديوان الوحيد، لكنه أكد في المقابل خصوصية تجربته التي كانت تستحق الوصول إلى القارئ وهي على هذه الدرجة من النضج والتفرد.
أصدر الصالحي ديوانه الأول "كلما لمست شيئاً كسرته" عام 2005 عن "دار توبقال" وفاز بجائزة بيت الشعر في المغرب، غير أنه انتظر 18 عاماً قبل أن يخطو خطوته الثانية، مما يؤكد اهتمامه بالقيمة والنوعية أكثر من أي شيء آخر. يؤمن الصالحي أن الشعر لا يتحمل الثرثرة، وتنهض تجربته المقتصدة على شروخ الذات وعثراتها، فالشعر الذي نعثر عليه في ديوانه الجديد هو "حصاد الخسارة" وربما عنوان لها، إذ يصل القارئ الى هذه الحقيقة منذ الصفحات الأولى، وما يعزز هذا الانطباع كون الشاعر يطل من قصائده بلا أقنعة أو حيل بلاغية راغباً في رصد أشكال الخذلان.
ذات مهزومة
يتكئ الشاعر دائماً على نبرة سردية تؤرخ لذات مهزومة ترثي العدم وهي لا تملك سوى الخسارة أو "الشعور بالرعب من الطابور في المطار / وتفاهة الماضي الذي ينهمر كالبصاق".
تتوالد الصور الشعرية في غالبية القصائد من مخيلة سوريالية تتدفق بالرؤى والأحلام والصور الغرائبية المعنية بمختلف أشكال المناجاة، وتنهض معظم القصائد على ما تتيحه الألفة من فضاءات للمغامرة، وأول ما ينتبه القارئ إليه هو أن القصائد كافة مهداة إلى أصدقاء معظمهم من رموز الحقل الأدبي في المغرب وخارجه، مثل محمد بنيس وعبدالرحيم الخضار ومحمد العلمي ونجوان درويش وزياد عبدالله وآخرين، لذلك تأتي القصائد أقرب إلى "بورتريهات" أو صور توجز سيرة الشاعر وتؤطرها.
وتبدو قصائد أخرى بمثابة يوميات تشير إلى الحياة التي يعيشها الشاعر في غربته الباريسية ما بين طبيعة العمل وطبيعة الحياة، ومن هذه السيرة يصنع نسيجاً مطرزاً بعلامات تتكرر في غالبية النصوص، مثل الحانات/ البيرة/ الشوارع / الشواطئ/ العاهرات/ ندل الحانات، وتشير كلها إلى ضيق الحيز الذي يتحرك فيه بحثاً عن الألفة. وربما بفضل هذا الخيارالسير ذاتي يبدد الصالحي المسافة بينه وبين النص، وينحاز الى كتابة قائمة على العصب تشيع فيها نزعات درامية يصعب تفاديها.
شعرية المفارقة
يستثمر الشاعر كثيراً في الكتابة المشهدية التي تميل إلى شعرية "المفارقة "، ويؤسس لقصيدته من شعوره المستمر بالعدم والطابع الهش للحياة اليومية التي يعيشها بخفة تلائم شعور من يعطي ظهره للمشهد ويتعالى عليه، فهي ليست قصائد عن "أحلام الفارس القديم" لكنها هواجس ذات تعيش بـ "قوة الشك" وترغب في "تخليد أمور بسيطة تقع مصادفة ولا تنشغل بما هو خارجها".
تجسد قصيدة "الأبوة" المهداة إلى صديقه خالد الشرادي المثال الأهم للاحتفال بالضعف الإنساني وسعي الشاعر إلى النظر في بعض مظاهره، وبالمثل فإن قصيدة "سيرك الحب" التي أهداها إلى علاء بونجار تبقى واحدة من أجمل المرثيات في الشعر المعاصر، فهي تستخف بالموت وتعطي البطولة كلها لفقيد عادي لم ينجز ما يضعه في مصاف الأبطال: "نعم لن تغفر لك الحياة / أدنى هفوة / أيها البهلوان، حتى لو شبعت حد التخمة ستجوع يا صديقي وتنهار، وستجرب الذل ذات يوم مثل فتى عاشق في مقتبل العشرين". يتحدث الصالحي عمن ذهبوا ويعمل على استعادتهم بالكتابة، ويتأمل حيواتهم التي فاضت إلى حد الغياب بحثا عن "ألق غائب" لكنه بقي مثل غصة في الحلق.
منطق الزوال
يأتي الشعر في الديوان من العودة لذاكرة مخصبة بركام التفاصيل التي لم تذهب إلى النسيان، وتصنع قصائد يتمدد فيها الخوف وتنتصر فيها الوحدة، فيكتب عبدالإله الصالحي قصائد قصيرة جداً، ما عدا قصيدة مهداة لمحمد بنيس، تظهر ميله إلى الحذف ونفوره من الثرثرة التي تثقل الشعر بما لا يحتاجه، فهو كأنه يشبه نحاتاً يحمل إزميلاً حاداً ويكشط الزوائد عن التماثيل التي ينحتها لبشر خالدين في الذاكرة، ويستطيع في اللحظة المناسبة حملهم إلى الشعر كمستقر أخير.
وبحرفية عالية يهرب الصالحي من كتابة الجملة الأخيرة ومن ثقل الذكرى، فهو يمتلك قدرة فريدة على صناعة "المفارقة التهكمية" التي يستعملها ليس فقط من باب الطرافة، بل كأداة سحرية كيلا تسقط قصيدته في فخاخ الميلودراما أو "البلادة المعتادة" في قصائد تقودها المراثي.
ويحكم الشاعر إيقاع قصيدته ويقاوم عبرها الرتابة بصورها كافة، ويتعامل مع الشاعر مثلما يتعامل سكير مع رقصته الأخيرة، فلا مجال في هذه الكتابة للمعاني الكبيرة لأنها تنشغل بـ "العابر وتمجد الهشاشة وتطارد العدم". وفي أحيان كثيرة يذكّر المنطق الذي يقف خلف قصائد الصالحي بالأسباب ذاتها التي قادت محمد الماغوط ليكتب قصائده عن ليل "باب توما "، أو بما دفع قسطنطين كفافيس إلى تأمل الشموع التي تخفت خلف ستائر غرفة حجرته في فندق بائس، فالمنطق هو مطاردة الزوال.
تذهب قصائد الديوان خلف الصمت ولا تنشغل بالكلام، وتحتفل بالهزيمة أكثر من سعيها وراء الانتصار، إذ تبدو المجموعة الشعرية كلها مدونة للاحتفال بكل ما هو ضعيف وبائس ومنهزم، فما يريده صاحبها هو الاحتفال بعدم الاكتمال واستجلاب لذة الانحراف، لأنه يبغي للشعر أن يبقى مقعداً يرتاح فوقه العجزة من مشقة الطريق. يكتب الصالحي بطموح الراغب في الإمساك بتلك "اللقطة الهاربة" وتمجيد "وجودنا القريب مع ما ينقصنا"، منحازاً إلى ما ينتج من "سوء الفهم".