محمد السيد إسماعيل
محمد المتيم يرى نفسه شخصا مهمشاً خارج الجماعة والتاريخ
يمكن القول إن التحولات الأساسية في مسيرة الشعر العربي الحديث منذ مدرسة الإحياء إلى الآن تعود إلى تحول مفهومي الشعر والشاعر، وإن ما يظهر من تمايزات لغوية ومجازية وإيقاعية يعود إلى هذا التحول المفهومي، فقد كان الشاعر الإحيائي أقرب إلى شاعر القبيلة المعبر عن أفراحها وأتراحها، على نحو ما يقول أحمد شوقي: "كان شعري الغناء في فرح الشرق/ وكان العزاء في أحزانه"، ثم جاءت النقلة الرومانسية التي اقترب الشاعر فيها من صورة النبي الذي "نزل الأرض كالشعاع السني/ بعصا ساحر وقلب نبي"، كما كان يقول علي محمود طه. واستمر التحول مع شعر التفعيلة وصولاً إلى قصيدة النثر. وهذا ما يطرحه الشاعر المصري محمد المتيم في ديوانه "افتحي الباب يا فاطمة" (منشورات بتانة) في بعض النماذج، فهو لا يرى نفسه صوت أمته ولا نبياً ولا ثائراً ولا متنبئاً بالمستقبل كزرقاء يمامة أمل دنقل، بل يرى نفسه إنساناً مهمشاً متعباً حتى حدود الإعياء في مثل قوله "الصديق يضبطني/ نائماً في المقهى على رقعة الطاولة/ وأمي تضبطني نائماً على العشاء المتأخر/ وحبيبتي كثيراً ما تضبطني نائماً/ على الناحية الأخرى من المكالمة العاطفية/ إلى هذا الحد أنت مرهق/ يا... يا شاعر؟".
وإذا كان صلاح عبدالصبور قد جعل من "الحزن" تيمة كثيرة التردد في شعره، فأعتقد أن محمد المتيم قد جعل من "الإرهاق" تيمة موازية خاصة في قصيدته "لا جذوة تحته... لا دخان يدل عليه". يقول، "الإهانة أن إرهاقي/ ليس من النوع المشفوع/ بالفخر أو الرهبة أو الجلال". إن إرهاقه إرهاق البسطاء، لا إرهاق المفكرين الذين تكاد صدورهم تنفلق من زخم المعرفة، أو الملوك الذين يتوجسون خيانة قادمة، أو المتصوفة وهم في ملكوتهم ينتظرون ليلى وإشراقاتها.
سلالة دون كيخوت
في هذه الحالة لم يعد للشعر –كما يرى المتيم– دوره الجليل إنه يكتبه –فقط– كصياد يتسلى، بعد أن أصبح "حائطاً متهدماً/ تبول عليه الكلاب الضالة/ وسماسرة دور النشر/ والمنصات المدفوعة". ولا شك أننا نلاحظ مدى التحول في مفهوم الشعر الذي كان العقاد يصفه بأنه مقتبس من "نفس الرحمن". ومن هنا يأتي ما يسمى بطولة العاديين البسطاء، فمعجزة المصريين ليست قاصرة على بناة الأهرام الذين نقلوا الحجارة من الجنوب إلى الشمال، "فالشيالون في محطة رمسيس/ نقلوا الزمن نفسه على أكتافهم"، و"عمال المصاعد/ في البنايات الشاهقة/ أولئك الرجال الدائخون/ سلالة دون كيخوت الدائخ" يبدون أشبه بالقديسين الذين جاءوا للضم السماء بالأرض. إن وصف هؤلاء العاديين بأنهم سلالة من دون كيخوت دال على حياتهم التي لا يشعرون بجدواها وكأنهم يحاربون طواحين الهواء. وهو المعنى الذي يبدو في قصيدة "موعظة"... "إنني منذ كثير أقطع الوقت صوب.../ لست أدري/ غير أنني قطعت وقتاً طويلاً/ كأن المراد فقط/ هو هذا الجلد في مواجهة الخواء". إن الشاعر يستخدم ما يسمى بلاغة الحذف حين يبتر الجملة الأولى، لأنه لا يدري إلى أين يسير، إنه السير بلا جدوى: "كم هو قاس وعدمي/ أن تسير –مدفوعاً– بلا جهة/ وبلا موعد لوصول".
إن الشاعر يتوقف كثيراً أمام المقولات الكبرى، كالبطولة مثلاً، فيراها لا تعني –كما كان قديماً– الخروج على النسق، لأننا أصبحنا أمام الكائن المسحوق الذي لا يملك قدرة الخروج أو التمرد، ويكتفي فحسب بأن "يأكل الطعام/ ويمشي في الأسواق/ ويمسح المكياج من على وجه أنثاه/ ويقبلها بشراهة جائع".
المفارقة وتوظيف التراث
وفي حالة كهذه لا بد أن يحس الشاعر بالعدم ويستأنس الموت فهو يرفض أن يكون نحاتاً حتى لا يزعج سكون الحجر، ولا طيراً حتى لا يوقظ حنين المهاجر. إنه لا يختار فأن يكون "حارس جبانة" حتى يصغي بخشوع للعدم وظهره مسنود إلى شاهد قبر، وذلك لأنه يعرف حتمية الموت، "فالسكاكين تعرف موقعها اللائق/ ولا تهين أجسادها"، على عكس "الإهانة" التي هي أقرب إلى "آثار المخالب في اللحم الحر". وربما استدعى هذا المعنى قول المتنبي: "غير أن الفتى يلاقي المنايا/ كالحات ولا يلاقي الهوانا". غير أن الموت –على الرغم من حتميته– ليس بالأمر الاعتيادي، فالشاعر –في قصيدة "قبور على النواصي"– يقدمه في صورة منفرة حين يجعل القبور الخربة، "تلفظ الجيف على النواصي والمنصات".
أما الحياة –على الرغم من إحساسه فيها بالوحدة والفراغ والهواجس الممضة– فإنه يراها رحلة بحث دائم عن الجمال والوصال، يقول، "تذكري دائماً: الجمال في البحث لا الحصول/ والوصال في الطريق لا الوصول". ومن الواضح أن محمد المتيم يعتمد كثيراً على حس المفارقة، فالغيمة –مثلاً- التي تصبح آية فوق النبي، وأملاً فوق المسافر، تصبح فوق الشاعر وحبيبته "ضباباً على الورقة". وتتعمق المفارقة حين يحس الشاعر بوجود "لهجتين وخريطتين ومذهبين"، تفصل بينه وبين حبيبته، ومع ذلك تدعوه أن يربيا معاً "هزائم مشتركة"، كما تبدو المفارقة بين "نحن وهم" –وهو عنوان إحدى القصائد– حين يقول "لا تأسى على شيء يا حبيبتي/ لنا قميص يوسف –مهنتنا الشوق-/ وللساسة قميص عثمان –مهنتهم الدسيسة-/ لنا عصا موسى/ نهش بها أفكارنا على عشب اللغة/ ولهم عصا سليمان/ يسخرون بها كتائب المردة والصحافيين".
توظيف التراث حاضر في هذه السطور، كما يحضر في كثير من النماذج، الأمر الذي يجعله إحدى التقنيات الجمالية في الديوان، فنجد في "شوكة في الحلق" إشارة إلى "المومس العمياء" التي تستدعي قصيدة السياب الشهيرة، لكن المتيم يصف المدينة كلها بأنها "مومس عمياء".
المعجم الوجودي
وفي سياق توظيف التراث نلاحظ شيوع المعجم الديني ويمكن أن نمثل لذلك بقوله: "كان له أصحاب راسخون/ لكنه لم يقل عن أحدهم (سآوي إلى جبل يعصمني)"، أو قوله: "ماذا تبقى له؟ له فاطمة/ وعيون فاطمة المسكونة بالوحي/ وخمار فاطمة رأيه حزن"، أو "أتوضأ... أتصبب في بارقة التجلي"، أو قوله: "الآن/ والشظايا تتطاير من العيون/ فوق معارك تافهة/ كمعركة الذائقة والجرح والتعديل". وحين يتحدث عن قلق الشعراء الذين يولدون به يستدعي قول المتنبي: "على قلق كأن الريح تحتي/ أصرفها يميناً أو شمالاً". وعلى العكس من ذلك لا يتردد الشاعر في استخدام العامية، وقد ورد ذلك مرة واحدة في آخر قصيدة "بوارق" حين يقول، "الأصدقاء الذين غنينا بعزمهم: (مدوا الخطاوي مشورانا لسه طويل)". والطريف أنه يقدم مفهوماً مغايراً للبلاغة فهي عنده لا ترتبط فحسب بالكلام، بل بالصمت كذلك وبالنظرة وبالدمعة على الخد وبالطريقة التي سيموت بها. وهكذا يترك بلاغة القصر والالتفات باعتبارها أموراً متروكة "للفضوليين على المقاهي وحرس حدود التراث". ويرى أن على الشعراء "التمترس خلف بلاغة أخف على اللسان/ وأثقل على القلب".
وترتب على ذلك أن يدخل إلى الشعر من الأبواب الضيقة، لا الأبواب الشاهقة المهيبة التي اعتادها الشعراء. يقول في قصيدة "نملة تحت الباب يا سيدي": "ثمة أبواب شاهقة ومهيبة/ للدخول إلى حرم الشعر/ لكنني بكل أسف وضغينة اضطررت للدخول إليه/ نملة محشورة في عربة مترو". ولا يبقى –في هذه الحالة– سوى باب "فاطمة" الذي ورد في عنوان الديوان بوصفه باب الأمان والجمال والحب والحياة، لهذا يناشدها النداء الموحي بالرجاء: "يا فاطمة/ يا فاطمة/ أهلكني الجمال يا فاطمة/ افتحي الباب يا فاطمة/ أخوك المنبوذ يعوي على قارعات الطرق". إن فتح باب فاطمة –وهي في هذا تقترب من "عائشة" البياتي– سوف يبدل الشاعر من حال إلى حال، يقول، "لو فتحت الباب يا فاطمة/ ربما أساوم رب العمل على راتبي بجرأة/ ربما أركض للموالد بفتوة/ ربما أكتب قصيدة الحب بكل ما أوتيت من شبق/ ربما أبصق على الضابط المرتشي بلا رهبة". باب فاطمة هو الباب بألف ولام التعريف، على العكس من ذلك الباب الذي كلما جربوا فيه مفتاحاً غاص ولم يخرج والذي –كما يقول في قصيدة "باب"، ولنتأمل حالة التنكير– "كلما لامست مقبضه الأصابع ذابت/ باب يمتص نقرات الطارقين/ فلا صوت ولا صدى". كأنه باب مقبرة على عكس باب فاطمة الذي هو باب الحياة.