مقالات
فاطمة” و”سارقو الدرَّاجة”: سنمائية الواقع أكثر من السينما
إعداد: أحمد السيباع
حدث عدَّة مرات في تاريخ السينما أن قرَّر مخرج ما أن يُشَغِّل في عمله السينمائي أشخاصًا عاديين بدل ممثلين محترفين، كما حدث عدَّة مرات أن تقتحم الكاميرا فضاءات وعوالم حقيقية، مستعيضة بذلك عن الديكورات المصمَّمة من قبل فناني تصميم الفضاءات، فتظهر شخصيات حقيقية تلعب أدوارها الاعتيادية، وتتحرَّك في عوالمها الخاصة، وينمُّ اختيار المخرج لشخصية حقيقية للعب دورها الاعتيادي في السينما، عن رؤية تثق في كون الواقع- أحيانًا- أكثر سينمائية من السينما، وكون الحياة الاعتيادية تستحقُّ الاقتراب منها كما هي، وهناك عدَّة أمثال عن هذا الاختيار السينمائي الفريد، منها ما حدث في السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي هجرت الأستوديوهات الفاخرة التابعة في جلها لموسوليني وللفاشيين، واستعاضت عن الأوستوديو بالفضاءات الحقيقية، وأحيانًا بالشخصيات الحقيقية، للتعبير عن الحقيقة الواقعة بصدق يكاد يطابق الواقع، وعن تأثيرات الحرب العالمية الثانية، وتأثيرات الحكم الفاشي في حياة الناس، فصورت الوجوه الكادحة، والمنازل المظلمة، والدروب المعتمة، والعمال المنهكين، والمتشردين الجائعين.
وسنتناول في هذه المقالة فيلمين اثنين مميزين استعاض مخرجاهما بالشخصيات الحقيقية عن الممثلين، وهو الفيلم الإيطالي الشهير سارقو الدرَّاجة لمخرجه فيتوريو دي سيكا، والفيلم الفرنسي “فاطمة” 2015 لمخرجه فيليب فوكون.
سارقو الدرَّاجة
جاء فيلم “سارقو الدراجة”- إنتاج 1948، وإخراج فيتوريو دي سيكا- ضمن الاتجاه الواقعي الذي برز وانتعش بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تميَّز عمومًا بارتباطه الوثيق بهموم الفقراء والمستضعفين، وبالتصوير الواقعي للأحداث، ويحكي فيلم “سارقو الدرَّاجة” حكاية عاطل يحصل على عمل ليعيل أسرته المكوَّنة من الزوجة والابن، لكن العمل يتطلَّب امتلاك درَّاجة، ودرَّاجة البطل مرهونةٌ بسبب الفاقة، فتقرِّر زوجته رهن ملاءات المنزل، ثم يشتري البطل الدرَّاجة، ويبدأ العمل وهو وأسرته في غاية السعادة، لكنه وأثناء عمله تُسرَق منه الدرَّاجة.
والفيلم كله رحلة شائقة لاستعادة الدرَّاجة، تسوقنا هذه الرحلة داخل فضاءات تواجد المقهورين والمغلوبين على أمرهم، وتقودنا نحو الهامش الإيطالي، فنرى محلَّ الرهن، وطابورًا من الوجوه المرهقة ترغب في رهن ممتلكاتها مهما رخُصت، ونرى كنيسة بها حشد من الجائعين الفقراء والمشرَّدين، ونرى محالَّ بيع الدراجات وأجزائها، ونجوب الشوارع الهامشية، وندخل المنازل الفقيرة، حيث أربعة أفراد يقتسمون غرفة واحدة، هي مطبخ وغرفة نوم وكلُّ شيء، ونرى امرأة مقدَّسة (مُنجِّمة) تتوقَّع لحشد من البائسين مستقبلهم، وبالنهاية يجد البطلُ سارقَ الدرَّاجة، لكن كيف السبيل إلى إجباره على إعادتها؛ فلا يوجد شهود على السرقة، فضلًا عن أهل حيه الفقراء يساندونه، أولئك الذين يصفهم البطل بأنهم جميعًا لصوصًا، وختامًا يقرِّر البطل سرقة درَّاجة بدوره، لكنه يُقبض عليه، وقبل أن يُساق إلى السجن يسامحه صاحب الدرَّاجة حينما يرى طفله يبكي.
لا ينصرم حبلُ التشويق طوال الفيلم؛ فهو ليس عرضًا جافًّا لفضاءات وشخصيات بائسة فقط، بل فرجة سينمائية حبكت معالمها جيدًا، فالسيناريو مُحكَم الصياغة، لا يسمح للمتلقي بأي تبرُّم أو ملل، بل يُحفِّزه على المتابعة الدقيقة للوقائع المشوِّقة، ويدخله في الهمِّ الرئيس للبطل، وهو استعادة الدرَّاجة، بل ويقنعه أن هذا الهدف بعيد المنال؛ بسبب تعنُّت السارق ومساعديه، من قبيل الشيخ المسنِّ الذي يأبى بشتَّى الحيل الإخبار عن مقرِّ سكن السارق، ما يُفضي إلى مشهد مشوِّق، وهو مشهد مطاردة البطل لهذه الشخصية الفريدة في فضاء الكنيسة، وهو فضاء الوقار واحترام الربِّ، وهو ما يخالفه البطل؛ لأنه لا يهتمُّ إلا باستعادة درَّاجته، وتخلق مشاهد المطاردة هذه مفارقة من نوع الكوميديا السوداء، حيث رجال الرب يحاولون إرغام البطل على احترام قداسة المكان، بينما البطل مستعدٌّ لفعل كل ما هو ممكن داخل هذا الفضاء لاستعادة درَّاجته، وبالتالي حياته، فالدرَّاجة تعني العمل، والعمل يعني الحياة.
شخوص حقيقية
وقد صور مخرج الفيلم فيتوريو دي سيكا الفيلم في أماكن حقيقية، لا في أستديوهات وديكورات مصمَّمة، وذلك ليعكس الفضاءات وواقعيتها وتفاصيلها وهيئتها الحقيقية، كما استعان المخرج بعاملٍ حقيقيٍّ من عمال المصانع، ليقوم بدور البطل، وهو لامبرتو ماجيوراني، الذي جاء إلى موقع التصوير ليحصل لابنه الصغير على فرصة عمل في الفيلم، لكن المخرج سرعان ما اختاره لدور البطولة.
أما زوجة البطل وأمُّ الطفل فهي ليانيلا كاريل، صحفية جاءت لتجري مقابلة مع المخرج، فأسند لها دورا مهمًّا، والابن هو بدوره جاء رفقةَ والده ليحصل على عمل، فاختاره المخرج ليقوم بدور ابن البطل، والذي يحوز مساحة مهمة في الفيلم، وقد برع هؤلاء المواطنون العاديون، وأبهروا العالم بتفانيهم وحسن أدائهم، غير أن الصحفية لعبت دورًا آخر غير حياتها الشخصية، أما الابن فقد لعب دور ابن لرجل فقير يبحث عن عمل، وهو دوره في الحياة الاعتيادية، أما لامبرتو ماجيوراني عامل المصانع فقد لعب دور عامل مصانع عاطل، دائم البحث عن العمل، وهو بذلك لعب حياته الخاصة، من الناحية المهنية، وهو عارف طبعًا بشكل دقيق بحياة العامل الفقير، فهو بذلك لا يحتاج إلى تقمُّص الدور، بل إلى أن يحياه كما يحيى دائمًا.
ومن هنا يأتي ابتكار المخرج، حيث يستعيض بعامل حقيقي بدل ممثل محترِف، ومن هنا ارتباط المخرج بالواقع لدرجة التطابُق، وهو أيضًا إعطاء الفرصة للعامل ليلعب دوره، ويثبت للعالم أنه أكثر من عامل، وأن داخل كلِّ عامل موهبةً عظيمةً.
وبخصوص الفضاء فإن المخرج لم ينقل الممثلين إلى فضاءات جديدة، يحتاجون معها إلى تدريب طويل للانسجام مع هذا الفضاء الجديد، بل أجرى وقائع فيلمه في فضائهم الاعتيادي والذي يعرفونه جيدًا.
فاطمة
اعتمد فيلم “فاطمة”- إنتاج عام 2015 وإخراج فيليب فوكون- على قصة كتاب “صلاة إلى القمر” لمؤلفته الجزائرية “فاطمة الأيوبي”، والكتاب عبارة عن خواطر وأشعار تحكي قصة حياتها الحقيقية.
ويحكي الفيلم قصة بسيطة يوجد أشباه كثر لها في حياة الضواحي الفرنسية، ففاطمة (سريا زروال)، بطلة الفيلم، امرأة مغاربية مطلَّقة، لديها ابنتان، هما نسرين (زيتا حنروت) طالبة الطبِّ في الثامنة عشرة، وسعاد (كنزه نوح عايش) تلميذة في الخامسة عشرة. طُِّلقت فاطمة من زوجها، وهي تعيش رفقةَ ابنتيها، بعيدًا عن الأب الذي يظهر للحظات فقط، فثقل تربية البنتين يقع كلُّه على كاهلها. وتعمل البطلة عاملة نظافة، تتحدث قدرًا قليلًا من الفرنسية، بلكنة مغاربية صارخة، لكن طبيعية جدًّا، أما ابنتاها فلا تعرفان بدورهما إلا عبارات قليلة من العربية، بينما تتخبط سعاد في حالة من عدم الرضا والتمرُّد على كلِّ شيء؛ حالتها بوصفها ابنة مهاجرين، سلطة الأم، التقاليد المغربية، ونظرة الفرنسيين لها كونها ابنة مهاجرين.. إلخ.. فإن نسرين تسعى جاهدة بامتنان لما تفعله والدتها من أجل أن تصير طبيبة، أما الأم فهي بدورها تحاول أن تتأقلم مع المجتمع الفرنسي، وتحاول أن تتعلَّم الكتابة والقراءة، فهي تأخذ دروسًا لأجل ذلك، ونراها تكتب خواطرها ومكنونات نفسها بعربية بسيطة وواضحة بأخطاء المبتدئين الطبيعية، لكن بصدق كبير وواضح، وهكذا فإن الفيلم يعرض أحوالًا معينة، ولا يعرض أحداثًا تتطوَّر نحو الذروة ثم تخبو نحو نهاية محتمَلة أو مفاجِئة.
المفارقة
ويلعب المخرج على المفارقة اللغوية هذه ليوسِّع فجوة سوء التفاهم بين الأم وابنتيها، خاصةً ابنتها الصغرى سعاد المتمردة والغاضبة، فسعاد لا تتلقَّى نصائح والدتها بصدر رحب، بل إن تمرُّدها يتجاوز الأم إلى المجتمع الفرنسي برمته، ونظرته إلى أبناء المهاجرين؛ إذ نراها تنتفض في المدرسة، وتُقدِم على حركات غاضبة ضدَّ أستاذ الرياضة، كما نراها في أحد المشاهد تجالس صديقتها مليكة في إحدى الحدائق فتتنبَّهان إلى رجلين يُحدِّقان بهما، فتتجَّه نحوهما بطريقة استعراضية ثم تقف قبالتهما، وتتجشَّأ ثم تقول “الحمد لله”، وتعود إلى مكانها، متمرِّدة بذلك على الفرنسي المحدق في اختلافهما، ومعلنة عن هويتها المغربية والعربية والإسلامية عن طريق قول “الحمد لله” بعد التجشُّؤ، ولا تحفل الكاميرا برد فعل الفرنسييْنِ على هذه الحركة، إذ سرعان ما تغادرهما متابعة جموح الشابة المتمردة، وكما تتابع كاميرا المخرج هذا الجموح بشكل يكاد يكون حياديًّا، فإن تتابع خصوصيات فاطمة الثقافية والدينية دون أحكام مُسبقة ولا مغالطات موروثة، ففاطمة امرأة تقليدية ترتدي الحجاب، وبخلاف بعض الأفلام الفرنسية التي ما ظهرت فيها امرأة محجبة إلا وأبرز صنَّاع الفيلم رأيهم في الموضوع، فإنَّ فيليب فوكون لا يُقدِّم أيَّ رأي بهذا الخصوص، فهو يصوِّر المرأة بما هي عليه، ويهتمُّ بمعاناتها بوصفها مهاجرة مُطلَّقة ولديها ابنتان، وتعاني من بعض صعوبات التواصل لا غير.
وقد تم تقديم هذه القصة البسيطة بأسلوب سلس وبسيط، بدون خوارق، ولا مغامرات؛ فالفيلم ينأى عن كلِّ صنعة وتزيين، وعن كلِّ حيل وتقنيات خلق التوتُّر وبثِّ التشويق، وعن أساليب صناعة الإثارة، ووسائل الإضحاك، وطرق استدرار الدموع، بل إن هذا النوع من الأفلام يسعى إلى أن يحكي الوقائع كما تحدث فعلًا، وأن يُصوِّر الشخصيات كما هي حقيقةً، وأن يطرح القضايا دون تعقيد فني، كأن الكاميرا تتسلَّل نحو الناس وتلتقطهم وهم يعيشون حياتهم الاعتيادية، وتخبرنا عن واقعهم الحقيقي، وتطلب من الجمهور- بالمقابل- أن يتعاطف مع قضايا الناس الحقيقية.
لذلك؛ فالفيلم يخلو من الموسيقى المصاحبة، فالحزن يُصوَّر دون موسيقى مساعدة، والسعادة تظهر جلية كما هي دون موسيقى تضخِّمها وتجسِّمها، كما أن المشاهد العادية لامرأة منهكة تنظف أو تتجه نحو العمل، أو تنتظر قطارًا ليقلَّها إلى منزلها، تُقدَّم عاريةً من أي موسيقية مصاحبِة، عدا صوت التنظيف، أو صوت الخطوات، أو ضوضاء الشارع، وينمُّ خيار التجرُّد من الزخرف الموسيقي عن الرغبة الشديدة للالتصاق بالحياة وتفاصيلها التي تتمُّ دون متابعة موسيقية.
شخصية من الهامش
وقد تم تصوير فيلم “فاطمة” في إحدى الضواحي المهمَّشة بمدينة ليون الفرنسية، تلك المدينة التي تقطنها جاليات من أصول عربية وأفريقية، وهكذا فإن فاطمة تتحرَّك في فضاءاتها المعتادة، وتمارس أثناء التصوير مهنتها المعتادة (التنظيف)، وتتحدَّث لكنتها الخاصة، فهي لا تستطيع أن تتحدَّث أساسا دون لكنة، فهي تلعب حياتها الاعتيادية، مع إضفاء قصة بسيطة عليها، فهي مهاجرة مغاربية، مهنتها عاملة تنظيف.
ويحكي فيليب فوكون عن صعوبة وجود ممثلة محترفة للقيام بدور فاطمة؛ كونها لا تتحدَّث الفرنسية بشكل جيد، وبعد خوضه تجربة البحث في فرنسا والمغرب، وجد أن إسناد الدور لممثلة محترفة قد يفقد الشخصية بريقها؛ لذلك قرَّر البحث من الواقع العادي، وفعلًا وجد سريا زروال، ووجد فيها الذكاء والبساطة، ولعبت دورها بشكل مذهل؛ كونها تعيش الدور ولا تمثِّله.
ويعكس هذا الفيلم جانبًا من الحياة العائلية للمخرج، فهو من مواليد المغرب، ووالدته لم تكن تعرف الفرنسية في صغره، وقد تناول الفيلم شخصية المحجَّبة كما هي، ودون خلفيات أو أحكام مُسبقة، ووصف حالتها الحقيقية، كأن المخرج يهدف من الفيلم أن يُصوِّر حياة شخصية من الهامش مزهودًا فيها، ولا تستأهل أن تكون موضوعًا لفيلم سينمائي.
وقد فاز فيلم “فاطمة” بجائزة أحسن فيلم في مسابقة “سيزار” للأفلام الفرنسية، إذ تفوق على “ديبان” لجاك أوديار، الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2015، وعلى “أيامي الذهبية” لأرنولد ديسبلاشن، و”موستانج” للمخرج الفرنسي من أصل تركي، دينيس إرغوفين، كما حصل “فاطمة” على جائزة أحسن سيناريو (مقتبس عن أصل أدبي)، وأحسن ممثلة ناشئة (زيتا حنروت).
وينمُّ اختيار شخصيات عادية للعب أمام الكاميرا في الفيلمين النموذجين، “سارق الدرَّاجة” و”فاطمة” في هذه النوعية من الأفلام عن الثقة في الناس، وفي مواهبهم وقدراتهم، وفي كون الفنِّ السينمائي ليس إلهامًا فريدًا، وحالة خاصة بنخبة مختارة، ولكنه عالم جميل يمكن أن يمارسه الشخص العادي بإتقان.
كما أن هذا الاختيار هو استعاضة عن النجم، بل إنه رؤيا ضدَّ الممثل النجم الذي يتهافت الجمهور لمشاهدة جديدِهِ الفني المثير، وهو تعريف جديد للنجومية؛ فالنجم قد يكون الإنسان العادي الذي يعيش حياته ببساطة، ويقاتل من أجل أبنائه، ويفعل كلُّ ما يقدر عليه للنجاة في هذه الحياة غير العادلة أحيانًا كثيرة.
ناقد مغربي
فاطمة” و”سارقو الدرَّاجة”: سنمائية الواقع أكثر من السينما
إعداد: أحمد السيباع
حدث عدَّة مرات في تاريخ السينما أن قرَّر مخرج ما أن يُشَغِّل في عمله السينمائي أشخاصًا عاديين بدل ممثلين محترفين، كما حدث عدَّة مرات أن تقتحم الكاميرا فضاءات وعوالم حقيقية، مستعيضة بذلك عن الديكورات المصمَّمة من قبل فناني تصميم الفضاءات، فتظهر شخصيات حقيقية تلعب أدوارها الاعتيادية، وتتحرَّك في عوالمها الخاصة، وينمُّ اختيار المخرج لشخصية حقيقية للعب دورها الاعتيادي في السينما، عن رؤية تثق في كون الواقع- أحيانًا- أكثر سينمائية من السينما، وكون الحياة الاعتيادية تستحقُّ الاقتراب منها كما هي، وهناك عدَّة أمثال عن هذا الاختيار السينمائي الفريد، منها ما حدث في السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي هجرت الأستوديوهات الفاخرة التابعة في جلها لموسوليني وللفاشيين، واستعاضت عن الأوستوديو بالفضاءات الحقيقية، وأحيانًا بالشخصيات الحقيقية، للتعبير عن الحقيقة الواقعة بصدق يكاد يطابق الواقع، وعن تأثيرات الحرب العالمية الثانية، وتأثيرات الحكم الفاشي في حياة الناس، فصورت الوجوه الكادحة، والمنازل المظلمة، والدروب المعتمة، والعمال المنهكين، والمتشردين الجائعين.
وسنتناول في هذه المقالة فيلمين اثنين مميزين استعاض مخرجاهما بالشخصيات الحقيقية عن الممثلين، وهو الفيلم الإيطالي الشهير سارقو الدرَّاجة لمخرجه فيتوريو دي سيكا، والفيلم الفرنسي “فاطمة” 2015 لمخرجه فيليب فوكون.
ينم اختيار المخرج لشخصية حقيقية كي تلعب دورها الاعتيادي في السينما عن رؤية تثق في أن الواقع أكثر سينمائية من السينما، وأن الحياة تستحقُّ الاقتراب منها كما هي.
سارقو الدرَّاجة
جاء فيلم “سارقو الدراجة”- إنتاج 1948، وإخراج فيتوريو دي سيكا- ضمن الاتجاه الواقعي الذي برز وانتعش بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تميَّز عمومًا بارتباطه الوثيق بهموم الفقراء والمستضعفين، وبالتصوير الواقعي للأحداث، ويحكي فيلم “سارقو الدرَّاجة” حكاية عاطل يحصل على عمل ليعيل أسرته المكوَّنة من الزوجة والابن، لكن العمل يتطلَّب امتلاك درَّاجة، ودرَّاجة البطل مرهونةٌ بسبب الفاقة، فتقرِّر زوجته رهن ملاءات المنزل، ثم يشتري البطل الدرَّاجة، ويبدأ العمل وهو وأسرته في غاية السعادة، لكنه وأثناء عمله تُسرَق منه الدرَّاجة.
والفيلم كله رحلة شائقة لاستعادة الدرَّاجة، تسوقنا هذه الرحلة داخل فضاءات تواجد المقهورين والمغلوبين على أمرهم، وتقودنا نحو الهامش الإيطالي، فنرى محلَّ الرهن، وطابورًا من الوجوه المرهقة ترغب في رهن ممتلكاتها مهما رخُصت، ونرى كنيسة بها حشد من الجائعين الفقراء والمشرَّدين، ونرى محالَّ بيع الدراجات وأجزائها، ونجوب الشوارع الهامشية، وندخل المنازل الفقيرة، حيث أربعة أفراد يقتسمون غرفة واحدة، هي مطبخ وغرفة نوم وكلُّ شيء، ونرى امرأة مقدَّسة (مُنجِّمة) تتوقَّع لحشد من البائسين مستقبلهم، وبالنهاية يجد البطلُ سارقَ الدرَّاجة، لكن كيف السبيل إلى إجباره على إعادتها؛ فلا يوجد شهود على السرقة، فضلًا عن أهل حيه الفقراء يساندونه، أولئك الذين يصفهم البطل بأنهم جميعًا لصوصًا، وختامًا يقرِّر البطل سرقة درَّاجة بدوره، لكنه يُقبض عليه، وقبل أن يُساق إلى السجن يسامحه صاحب الدرَّاجة حينما يرى طفله يبكي.
لا ينصرم حبلُ التشويق طوال الفيلم؛ فهو ليس عرضًا جافًّا لفضاءات وشخصيات بائسة فقط، بل فرجة سينمائية حبكت معالمها جيدًا، فالسيناريو مُحكَم الصياغة، لا يسمح للمتلقي بأي تبرُّم أو ملل، بل يُحفِّزه على المتابعة الدقيقة للوقائع المشوِّقة، ويدخله في الهمِّ الرئيس للبطل، وهو استعادة الدرَّاجة، بل ويقنعه أن هذا الهدف بعيد المنال؛ بسبب تعنُّت السارق ومساعديه، من قبيل الشيخ المسنِّ الذي يأبى بشتَّى الحيل الإخبار عن مقرِّ سكن السارق، ما يُفضي إلى مشهد مشوِّق، وهو مشهد مطاردة البطل لهذه الشخصية الفريدة في فضاء الكنيسة، وهو فضاء الوقار واحترام الربِّ، وهو ما يخالفه البطل؛ لأنه لا يهتمُّ إلا باستعادة درَّاجته، وتخلق مشاهد المطاردة هذه مفارقة من نوع الكوميديا السوداء، حيث رجال الرب يحاولون إرغام البطل على احترام قداسة المكان، بينما البطل مستعدٌّ لفعل كل ما هو ممكن داخل هذا الفضاء لاستعادة درَّاجته، وبالتالي حياته، فالدرَّاجة تعني العمل، والعمل يعني الحياة.
شخوص حقيقية
وقد صور مخرج الفيلم فيتوريو دي سيكا الفيلم في أماكن حقيقية، لا في أستديوهات وديكورات مصمَّمة، وذلك ليعكس الفضاءات وواقعيتها وتفاصيلها وهيئتها الحقيقية، كما استعان المخرج بعاملٍ حقيقيٍّ من عمال المصانع، ليقوم بدور البطل، وهو لامبرتو ماجيوراني، الذي جاء إلى موقع التصوير ليحصل لابنه الصغير على فرصة عمل في الفيلم، لكن المخرج سرعان ما اختاره لدور البطولة.
أما زوجة البطل وأمُّ الطفل فهي ليانيلا كاريل، صحفية جاءت لتجري مقابلة مع المخرج، فأسند لها دورا مهمًّا، والابن هو بدوره جاء رفقةَ والده ليحصل على عمل، فاختاره المخرج ليقوم بدور ابن البطل، والذي يحوز مساحة مهمة في الفيلم، وقد برع هؤلاء المواطنون العاديون، وأبهروا العالم بتفانيهم وحسن أدائهم، غير أن الصحفية لعبت دورًا آخر غير حياتها الشخصية، أما الابن فقد لعب دور ابن لرجل فقير يبحث عن عمل، وهو دوره في الحياة الاعتيادية، أما لامبرتو ماجيوراني عامل المصانع فقد لعب دور عامل مصانع عاطل، دائم البحث عن العمل، وهو بذلك لعب حياته الخاصة، من الناحية المهنية، وهو عارف طبعًا بشكل دقيق بحياة العامل الفقير، فهو بذلك لا يحتاج إلى تقمُّص الدور، بل إلى أن يحياه كما يحيى دائمًا.
ومن هنا يأتي ابتكار المخرج، حيث يستعيض بعامل حقيقي بدل ممثل محترِف، ومن هنا ارتباط المخرج بالواقع لدرجة التطابُق، وهو أيضًا إعطاء الفرصة للعامل ليلعب دوره، ويثبت للعالم أنه أكثر من عامل، وأن داخل كلِّ عامل موهبةً عظيمةً.
وبخصوص الفضاء فإن المخرج لم ينقل الممثلين إلى فضاءات جديدة، يحتاجون معها إلى تدريب طويل للانسجام مع هذا الفضاء الجديد، بل أجرى وقائع فيلمه في فضائهم الاعتيادي والذي يعرفونه جيدًا.
فاطمة
اعتمد فيلم “فاطمة”- إنتاج عام 2015 وإخراج فيليب فوكون- على قصة كتاب “صلاة إلى القمر” لمؤلفته الجزائرية “فاطمة الأيوبي”، والكتاب عبارة عن خواطر وأشعار تحكي قصة حياتها الحقيقية.
ويحكي الفيلم قصة بسيطة يوجد أشباه كثر لها في حياة الضواحي الفرنسية، ففاطمة (سريا زروال)، بطلة الفيلم، امرأة مغاربية مطلَّقة، لديها ابنتان، هما نسرين (زيتا حنروت) طالبة الطبِّ في الثامنة عشرة، وسعاد (كنزه نوح عايش) تلميذة في الخامسة عشرة. طُِّلقت فاطمة من زوجها، وهي تعيش رفقةَ ابنتيها، بعيدًا عن الأب الذي يظهر للحظات فقط، فثقل تربية البنتين يقع كلُّه على كاهلها. وتعمل البطلة عاملة نظافة، تتحدث قدرًا قليلًا من الفرنسية، بلكنة مغاربية صارخة، لكن طبيعية جدًّا، أما ابنتاها فلا تعرفان بدورهما إلا عبارات قليلة من العربية، بينما تتخبط سعاد في حالة من عدم الرضا والتمرُّد على كلِّ شيء؛ حالتها بوصفها ابنة مهاجرين، سلطة الأم، التقاليد المغربية، ونظرة الفرنسيين لها كونها ابنة مهاجرين.. إلخ.. فإن نسرين تسعى جاهدة بامتنان لما تفعله والدتها من أجل أن تصير طبيبة، أما الأم فهي بدورها تحاول أن تتأقلم مع المجتمع الفرنسي، وتحاول أن تتعلَّم الكتابة والقراءة، فهي تأخذ دروسًا لأجل ذلك، ونراها تكتب خواطرها ومكنونات نفسها بعربية بسيطة وواضحة بأخطاء المبتدئين الطبيعية، لكن بصدق كبير وواضح، وهكذا فإن الفيلم يعرض أحوالًا معينة، ولا يعرض أحداثًا تتطوَّر نحو الذروة ثم تخبو نحو نهاية محتمَلة أو مفاجِئة.
المفارقة
ويلعب المخرج على المفارقة اللغوية هذه ليوسِّع فجوة سوء التفاهم بين الأم وابنتيها، خاصةً ابنتها الصغرى سعاد المتمردة والغاضبة، فسعاد لا تتلقَّى نصائح والدتها بصدر رحب، بل إن تمرُّدها يتجاوز الأم إلى المجتمع الفرنسي برمته، ونظرته إلى أبناء المهاجرين؛ إذ نراها تنتفض في المدرسة، وتُقدِم على حركات غاضبة ضدَّ أستاذ الرياضة، كما نراها في أحد المشاهد تجالس صديقتها مليكة في إحدى الحدائق فتتنبَّهان إلى رجلين يُحدِّقان بهما، فتتجَّه نحوهما بطريقة استعراضية ثم تقف قبالتهما، وتتجشَّأ ثم تقول “الحمد لله”، وتعود إلى مكانها، متمرِّدة بذلك على الفرنسي المحدق في اختلافهما، ومعلنة عن هويتها المغربية والعربية والإسلامية عن طريق قول “الحمد لله” بعد التجشُّؤ، ولا تحفل الكاميرا برد فعل الفرنسييْنِ على هذه الحركة، إذ سرعان ما تغادرهما متابعة جموح الشابة المتمردة، وكما تتابع كاميرا المخرج هذا الجموح بشكل يكاد يكون حياديًّا، فإن تتابع خصوصيات فاطمة الثقافية والدينية دون أحكام مُسبقة ولا مغالطات موروثة، ففاطمة امرأة تقليدية ترتدي الحجاب، وبخلاف بعض الأفلام الفرنسية التي ما ظهرت فيها امرأة محجبة إلا وأبرز صنَّاع الفيلم رأيهم في الموضوع، فإنَّ فيليب فوكون لا يُقدِّم أيَّ رأي بهذا الخصوص، فهو يصوِّر المرأة بما هي عليه، ويهتمُّ بمعاناتها بوصفها مهاجرة مُطلَّقة ولديها ابنتان، وتعاني من بعض صعوبات التواصل لا غير.
وقد تم تقديم هذه القصة البسيطة بأسلوب سلس وبسيط، بدون خوارق، ولا مغامرات؛ فالفيلم ينأى عن كلِّ صنعة وتزيين، وعن كلِّ حيل وتقنيات خلق التوتُّر وبثِّ التشويق، وعن أساليب صناعة الإثارة، ووسائل الإضحاك، وطرق استدرار الدموع، بل إن هذا النوع من الأفلام يسعى إلى أن يحكي الوقائع كما تحدث فعلًا، وأن يُصوِّر الشخصيات كما هي حقيقةً، وأن يطرح القضايا دون تعقيد فني، كأن الكاميرا تتسلَّل نحو الناس وتلتقطهم وهم يعيشون حياتهم الاعتيادية، وتخبرنا عن واقعهم الحقيقي، وتطلب من الجمهور- بالمقابل- أن يتعاطف مع قضايا الناس الحقيقية.
لذلك؛ فالفيلم يخلو من الموسيقى المصاحبة، فالحزن يُصوَّر دون موسيقى مساعدة، والسعادة تظهر جلية كما هي دون موسيقى تضخِّمها وتجسِّمها، كما أن المشاهد العادية لامرأة منهكة تنظف أو تتجه نحو العمل، أو تنتظر قطارًا ليقلَّها إلى منزلها، تُقدَّم عاريةً من أي موسيقية مصاحبِة، عدا صوت التنظيف، أو صوت الخطوات، أو ضوضاء الشارع، وينمُّ خيار التجرُّد من الزخرف الموسيقي عن الرغبة الشديدة للالتصاق بالحياة وتفاصيلها التي تتمُّ دون متابعة موسيقية.
كان صناع الأفلام الفرنسية كلما ظهرت في أعمالهم امرأة محجبة أبرزوا موقفهم منها، لكن فيليب فوكون لم يهتم، وقدم فاطمة بوصفها مهاجرة تعاني من صعوبات في التواصل.
شخصية من الهامش
وقد تم تصوير فيلم “فاطمة” في إحدى الضواحي المهمَّشة بمدينة ليون الفرنسية، تلك المدينة التي تقطنها جاليات من أصول عربية وأفريقية، وهكذا فإن فاطمة تتحرَّك في فضاءاتها المعتادة، وتمارس أثناء التصوير مهنتها المعتادة (التنظيف)، وتتحدَّث لكنتها الخاصة، فهي لا تستطيع أن تتحدَّث أساسا دون لكنة، فهي تلعب حياتها الاعتيادية، مع إضفاء قصة بسيطة عليها، فهي مهاجرة مغاربية، مهنتها عاملة تنظيف.
ويحكي فيليب فوكون عن صعوبة وجود ممثلة محترفة للقيام بدور فاطمة؛ كونها لا تتحدَّث الفرنسية بشكل جيد، وبعد خوضه تجربة البحث في فرنسا والمغرب، وجد أن إسناد الدور لممثلة محترفة قد يفقد الشخصية بريقها؛ لذلك قرَّر البحث من الواقع العادي، وفعلًا وجد سريا زروال، ووجد فيها الذكاء والبساطة، ولعبت دورها بشكل مذهل؛ كونها تعيش الدور ولا تمثِّله.
ويعكس هذا الفيلم جانبًا من الحياة العائلية للمخرج، فهو من مواليد المغرب، ووالدته لم تكن تعرف الفرنسية في صغره، وقد تناول الفيلم شخصية المحجَّبة كما هي، ودون خلفيات أو أحكام مُسبقة، ووصف حالتها الحقيقية، كأن المخرج يهدف من الفيلم أن يُصوِّر حياة شخصية من الهامش مزهودًا فيها، ولا تستأهل أن تكون موضوعًا لفيلم سينمائي.
وقد فاز فيلم “فاطمة” بجائزة أحسن فيلم في مسابقة “سيزار” للأفلام الفرنسية، إذ تفوق على “ديبان” لجاك أوديار، الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2015، وعلى “أيامي الذهبية” لأرنولد ديسبلاشن، و”موستانج” للمخرج الفرنسي من أصل تركي، دينيس إرغوفين، كما حصل “فاطمة” على جائزة أحسن سيناريو (مقتبس عن أصل أدبي)، وأحسن ممثلة ناشئة (زيتا حنروت).
وينمُّ اختيار شخصيات عادية للعب أمام الكاميرا في الفيلمين النموذجين، “سارق الدرَّاجة” و”فاطمة” في هذه النوعية من الأفلام عن الثقة في الناس، وفي مواهبهم وقدراتهم، وفي كون الفنِّ السينمائي ليس إلهامًا فريدًا، وحالة خاصة بنخبة مختارة، ولكنه عالم جميل يمكن أن يمارسه الشخص العادي بإتقان.
كما أن هذا الاختيار هو استعاضة عن النجم، بل إنه رؤيا ضدَّ الممثل النجم الذي يتهافت الجمهور لمشاهدة جديدِهِ الفني المثير، وهو تعريف جديد للنجومية؛ فالنجم قد يكون الإنسان العادي الذي يعيش حياته ببساطة، ويقاتل من أجل أبنائه، ويفعل كلُّ ما يقدر عليه للنجاة في هذه الحياة غير العادلة أحيانًا كثيرة.
ناقد مغربي
ينمُّ اختيار شخصيات عادية، لتقديم دورها العادي في الحياة، عن ثقة في الناس ومواهبهم وقدراتهم، وكون الفنِّ السينمائي ليس إلهامًا فريدًا ولا حالة خاصة.