مقالات
الثقافة السينمائية للمرأة.. مناهضة العنف ومحاورة الرجل
جينا سلطان
هل يمكن فصل الرؤية السينمائية للمرأة عن المحتوى الإنساني الشمولي للأفلام النخبوية التي يخرجها الرجال؟ وهل تكفي الفسحة الصغيرة المخصصة لأصوات النساء، من أجل الغوص عميقًا في قضايا التهميش والإذلال والعنف الممارس ضدهن؟ وهل تنجح تلك الإضاءات الاستثنائية في تغيير دفة الانسياق الجمعي لطغيان الإنتاج الفني المتسم بثقافة الصخب والعنف، التي تستهلك الرجل والمرأة حتى النخاع، فتجعل منهما تروسًا في ماكينة الاقتصاد؟
إذا أخذنا بمبدأ التمييز الجندري، تصبح سينما المرأة البديلة بوجهيها الواقعي والتجريبي النخبوي معادلًا حيويًّا للأصوات النسوية المخنوقة، بحيث تقارب أفلامهن التهديدات التي تواجه المرأة في المجتمع، لاسيما ظاهرة تغول الخوف في نفوس النساء والرجال على حد سواء، ما يفرض علاقة مشوهة بين الطرفين، قوامها الارتياب وسوء الظن المتبادل بينهما. وبالتالي يتسبب الخوف في نشوء طفرات أخلاقية هجينة عند الأبناء تعلي الذوات المريضة وتسيدها فوق السوية الاجتماعية الطبيعية، لتضاعف حجم العنف الممارس ضد المرأة، زوجة كانت أو ابنة، فينعكس ذلك على الرجل؛ الزوج والأب في سياق اغتراب مؤلم عن ماهيته.
ثقافات سينمائية متباينة
تنتمي الأفلام المختارة إلى ثقافات سينمائية متباينة، تتوزع بين قارات ثلاث، لكنها في الوقت نفسه تعكس تنويعات الخوف وأشكاله المرضية، بحيث يتواتر صوت التوق إلى التواصل الإنساني المبني على أسس الاحترام المتبادل بين النساء والرجال، خافتًا تارة وقويًّا تارة أخرى. وجميع هذه الأفلام من إنتاج عام 2021، ما خلا فيلمين اثنين يعود إنتاجهما إلى العام 2020، وقد حظيت بجوائز عالمية وترشيحات عديدة.
في فيلم “فك القبضة” (Unclenching the Fisits) تترجم المخرجة الأوسيتية الجنوبية “كيرا كوفالينكو” الخوف من الحياة بتشدد بطرياركي مبالغ يطول الأبناء الثلاثة لأب فقد زوجته بمرض السرطان. وتعود البطولة المطلقة إلى تغول هذا الخوف وعملقته داخل الابنة “آدا”، التي تسعى جاهدة للخلاص من قبضة الرعاية المفرطة للأب، والتعلق المفرط للشقيق الأصغر، وبالتالي الانفصال عنهما رغم حبها لهما.
ويتجسد الخوف عند “آدا” بسلس بولي مزمن، يتحول إلى عائق مذل أمام الحياة الطبيعية، لينعكس لدى الأب في واقعة إصابته بأزمة قلبية عند اكتشافه نجاح ابنته في سرقة جواز سفرها، ومن ثم رحيلها مع شقيقها الأكبر، الذي استطاع التحرر من قبضة الأب وتخطي الحدود بذريعة السفر لأجل العمل. ويرصد المشهد الأخير دراجة نارية يمطتيها الشقيقان، فيما تلقي الشابة بجواز السفر أثناء تجاوز الحدود، في إشارة إلى رفض الاحتضار البطيء داخل أسوار البلد الخارج حديثًا من العهد السوفييتي. وبالتالي يمكن تحميل الفيلم الحائز على جائزة “نظرة ما” في مهرجان “كان” مضمونًا سياسيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا.
أما المخرجة الكوسوفية “بليرتا باشوللي” في فيلمها الأول “خلية نحل” (HIVE)، فتروي أيضًا مغامرة تخطي الخوف من الأحكام المسبقة للمجتمع البطرياركي الخارج من أتون الحرب الأهلية اليوغسلافية، التي نحرت النساء على مذبح الحقد العنصري والديني. وينتمي الفيلم إلى سينما الواقع، المبني على قصة حقيقية، ويسلط الأضواء على غياب الرجال إما بالقتل أو التغييب في معسكرات الاعتقال، لتظل النساء مرتهنات للانتظار.
وبالتالي، تبرز الحاجة إلى تسويق المنتجات الزراعية في المجتمع الريفي لإعالة الأسرة، وما يترتب على ذلك من مواجهة التحديات والتنمر بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب. ويمكن اختصار الرؤية المضيئة في الفيلم بمشهد يظهر نساء القرية وهن يضعن على الطاولة حليهن الذهبية الوحيدة والبسيطة كي يتشاركن فعل العمل، المتمثل في إنتاج الصلصة الحارة وتسويقها إلى المدينة، فيتحولن إلى منتجات ضمن واقع مجحف أذل الرجال وحولهم إلى متسكعين.
كان الزوج المفقود للبطلة نحّالًا يتصف بالهدوء والتهذيب الشديد، لذلك اقترن غيابه بالألم والتشوش، فعجزت الزوجة عن البقاء ساكنة أثناء جني العسل، وظلت تتلقى الوخز واللسع من النحل. وحين اضطرت لمواجهة بقايا جثته المنتشلة من قاع النهر اعترفت بموته وقبلت به، الأمر الذي مهد للسلام مع النحل. وبالتالي دشن عهدًا جديدًا من الثقة بالنفس وبدورها كمعيلة لأطفالها ووالد زوجها، الذين شكلوا بدورهم دعامة المقاومة التي أبدتها لكافة أشكال التنمر.
تفاصيل الامتهان
ينتمي فيلم “صلوات لأجل المفقودات” (PRAYERS FOR STOLEN)، الذي أخرجته السلفادورية ـ المكسيكية “تاتيانا هويز” للنمط الوثائقي المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه. ويتعرض إلى واقعة اختطاف الفتيات الصغيرات من قبل أزلام الكارتيلات الذين كانوا يجوبون القرى بحثًا عن اللواتي يبلغن سن الثانية عشرة، لسرقتهن وبيعهن في سوق الجنس.
أجادت “هويز” رسم تفاصيل الامتهان الذي تواجهه المرأة تحت ظل الكارتيلات، متمثلًا في الخوف اليومي من بلوغ البنت وتحولها إلى طريدة، فركزت على تلازم الهلع على وجوه الأمهات مع توق الفتيات إلى حياة طبيعية قوامها احترام الأنوثة. وبالتالي، كان الخوف يتعايش مع الأمل يوميًّا في محاولاتهن اليائسة إخفاء معالم الأنوثة عبر تقصير الشعر كالصبية، ما إن تضع الطفلة أحمر الشفاه خلسة، أو دفنها في حفرة لإخفائها عن أنظار الصيادين. ويتجسد منتهى الألم في اشتعال النار في القرية عقب اختطاف مارية ذات شفة الأرنب التي لم تقنص لكونها لا تلفت انتباه الرجال، وحين تجري منظمة إنسانية عملية جراحية لشفتيها، فتقص شعرها الطويل، تتحول مباشرة إلى فريسة. أما منتهى اليأس فيتمثل في تلة خارج القرية، تصعد إليها النساء لالتقاط إشارة الهاتف المحمول، والتحدث مع أزواجهن الهاربين إلى خلف الحدود، ليصبح المكان أشبه بخلية نحل تضج في ساعة معينة لمناشدة الأمل والحماية العصيين على المنال.
وتعرض المخرجة البلجيكية “لورا واندل” في فيلمها “الملعب” (Un monde) وجهًا قاسيًا للعنف، يطول أطفال المدارس الابتدائية، فيتحول المكان المخصص للاستراحة إلى ساحة لممارسة التنمر بأبشع أشكاله العنصرية، تحت أنظار المرشدين النفسيين العاجزين عن إبداء رد الفعل المناسب. ويستطيل التنمر ليصبح سخرية من شخص الأب الذي يعتني بأطفاله ويبقى في المنزل، بينما تغيب الأم في عملها، تحقيقًا لتكافؤ الفرص بين الجنسين في أوروبا الغربية.
منذ البداية تتابع “واندال” الانفعالات المرتسمة على وجه الطفلة نورا، التي تدخل المدرسة للمرة الأولى بصحبة شقيقها آبيل، الذي يكبرها بعام أو عامين. وهذا الفرق في السن يؤهله لامتلاك الخبرة الكافية للتعامل مع التنمر، بحيث يصبح شريكًا في ممارسته ضد التلاميذ ذوي البنية الضعيفة، كصديقه إسماعيل. لكن لجوء نورا إليه طلبًا للحماية يعرضه للسخرية ويحوله إلى ضحية عاجزة عن إبداء أي رد فعل، فيغرق المتنمرون رأسه في المرحاض، ثم يلقون به في حاوية القمامة، لكونه أبدى شيئًا من العطف لشقيقته.
ومع أن آبيل يقع ضحية للتنمر إلا أن المخرجة تحتفظ به في خلفية المشهد، للإيحاء بأهمية انفعالات نورا، وانتقالها من مرحلة الخوف الأصم في مواجهة المجهول إلى اكتساب الشجاعة لتعلم مهارات اللعب الجماعي مع الفتيات وصولًا إلى إظهار رد الفعل العدائي دفاعًا عن النفس، المتمثل في تمزيق بطاقات الدعوة إلى حفلة عيد الميلاد.
ففي البداية حاولت نورا الدفاع عن آبيل في وجوه المتنمرين، ثم أخبرت الأب الذي قدم شكوى لدى إدارة المدرسة. وبعدها دخلت مرحلة المعاناة الصامتة لتبعات التجاهل والإقصاء من صديقاتها، بسبب آبيل الذي كان يبلل نفسه مرارًا لعجزه عن مواجهة التنمر، ثم احتجت بتمزيق البطاقات حين أدركت استبعادها من الحفلة، وأخيرًا تبنت موقف الدفاع عن إسماعيل الضعيف وردع آبيل عن معاودة التنمر، ليضع إنقاذ إسماعيل حدًّا للعداء الصامت بين الشقيقين، ويحول نورا إلى بطلة تواجه العزلة والعنصرية وتنتصر عليهما بإرادتها. ومع أن عدسة “واندل” ظلت باعثة على التشويش بسبب الزوايا غير الملائمة لالتقاط ردات الفعل الدقيقة، إلا أن أداء الفتاة كان عاليًا من حيث المزج العفوي بين المراقبة والألم الأخرس والانفعال الغاضب.
غياب العدالة
بالمقابل، تتكئ المخرجة الإيرانية “مريم مقدم” على اسم زوجها المخرج “بهتاش صناعيها” لتنجز فيلمها التجريدي “أنشودة البقرة البيضاء”، وتعبر عن الصمم الذي يعكسه مفهوم العدالة عند تطبيقها بشكل حرفي لا يستند إلى المنطق والمحاكمة السليمة. وتدور فكرة الفيلم حول سجن رجل وإعدامه، لتبث التحقيقات الجنائية لاحقًا براءته من التهمة المنسوبة إليه، فتحاول أرملته تنزيه سمعته من شائبة الإدانة، وتطالب القضاة بالاعتذار العلني، فيستقيل أحدهم ويحاول مساعدتها، فتتعلق به، وحين تكتشف أنه القاضي الذي شارك في إعدام زوجها توهمه بدس السم في طعامه، ثم تتركه وترحل مع طفلتها الصماء. ويُظهر المشهد الأخير في الفيلم بقرة بيضاء تواجه جدران السجن الصماء، فتتحول صيحة الأم لابنتها المستنكرة للجهود العبثية في إحقاق العدالة “هل تعرفين ما هو السجن؟” إلى صيحة مجهضة يتردد صداها بلا نتيجة، على غرار خوار البقرة البيضاء.
ويتبنى الفيلم البرتغالي “تحول الطيور” (The metamorphosis of birds) النمط الوثائقي المؤطر بسردية روائية، تستعيد من خلالها المخرجة “كاتارينا فاسكونثيلوس” تاريخ ثلاثة أجيال من عائلتها، لتقيم نوعًا من الحوار الصامت بين الأب الغائب والأم المستغرقة في رعاية أطفالها الستة. ونظرًا لطبيعة عمل الزوج في البحر، سيشير التقابل المتواتر بين الأرض اليابسة ووحدة البحر إلى عالمي الرجال والنساء، فيتخذ الغنى في حياة المرأة، المستمد من تنشئة الأطفال، رمزية الشجرة، بينما يرمز باب قمرة القبطان المفتوح على الظلام إلى الفراغ الداخلي. وبالتالي يبحث الأبناء والأحفاد في الصور القديمة عن ملامحهم المأخوذة عنها، في النمش على الوجه، أو في ارتسام الابتسامة عينها، فيدركون حجم الفراغ الذي تركه الأب وملأته الأم، ما يدفعهم لحرق الرسائل المتبادلة بينهما ومن ثم إعادة اختلاقها.
تدفن الزوجة شوقها إلى والد أبنائها بالتماهي مع نباتات منزلها، فتنمو بذورها عشوائيًّا في كل مكان عقب موتها، لتتسبب في تفككه، فيما تتابع الحياة مسراها من خلال أبنائها. وبينما يدأب القبطان على تأمل خط الأفق بين البحر واليابسة حنينًا إليها، تلتمس حضوره في الجبال القريبة منها. فيرتسم التماهي مع النبات معادلًا للصبر المتوج بالصمت وللحكمة المستمدة من النضج الهادئ، مقابل الوحدة المكثفة المتأتية عن تأمل زرقة المياه اللانهائية، لذلك حين يعود الأب ليموت يعدم وجود خيط يربطهم به.
الثقافة السينمائية للمرأة.. مناهضة العنف ومحاورة الرجل
جينا سلطان
هل يمكن فصل الرؤية السينمائية للمرأة عن المحتوى الإنساني الشمولي للأفلام النخبوية التي يخرجها الرجال؟ وهل تكفي الفسحة الصغيرة المخصصة لأصوات النساء، من أجل الغوص عميقًا في قضايا التهميش والإذلال والعنف الممارس ضدهن؟ وهل تنجح تلك الإضاءات الاستثنائية في تغيير دفة الانسياق الجمعي لطغيان الإنتاج الفني المتسم بثقافة الصخب والعنف، التي تستهلك الرجل والمرأة حتى النخاع، فتجعل منهما تروسًا في ماكينة الاقتصاد؟
إذا أخذنا بمبدأ التمييز الجندري، تصبح سينما المرأة البديلة بوجهيها الواقعي والتجريبي النخبوي معادلًا حيويًّا للأصوات النسوية المخنوقة، بحيث تقارب أفلامهن التهديدات التي تواجه المرأة في المجتمع، لاسيما ظاهرة تغول الخوف في نفوس النساء والرجال على حد سواء، ما يفرض علاقة مشوهة بين الطرفين، قوامها الارتياب وسوء الظن المتبادل بينهما. وبالتالي يتسبب الخوف في نشوء طفرات أخلاقية هجينة عند الأبناء تعلي الذوات المريضة وتسيدها فوق السوية الاجتماعية الطبيعية، لتضاعف حجم العنف الممارس ضد المرأة، زوجة كانت أو ابنة، فينعكس ذلك على الرجل؛ الزوج والأب في سياق اغتراب مؤلم عن ماهيته.
تعكس أفلام المرأة التهديدات التي تواجهها في المجتمع.. خصوصًا ظاهرة تغوّل الخوف.
بالأخذ بمبدأ التمييز الجندري.. تصبح سينما المرأة معادلًا حيويًّا للأصوات النسوية المخنوقة.
بالأخذ بمبدأ التمييز الجندري.. تصبح سينما المرأة معادلًا حيويًّا للأصوات النسوية المخنوقة.
ثقافات سينمائية متباينة
تنتمي الأفلام المختارة إلى ثقافات سينمائية متباينة، تتوزع بين قارات ثلاث، لكنها في الوقت نفسه تعكس تنويعات الخوف وأشكاله المرضية، بحيث يتواتر صوت التوق إلى التواصل الإنساني المبني على أسس الاحترام المتبادل بين النساء والرجال، خافتًا تارة وقويًّا تارة أخرى. وجميع هذه الأفلام من إنتاج عام 2021، ما خلا فيلمين اثنين يعود إنتاجهما إلى العام 2020، وقد حظيت بجوائز عالمية وترشيحات عديدة.
في فيلم “فك القبضة” (Unclenching the Fisits) تترجم المخرجة الأوسيتية الجنوبية “كيرا كوفالينكو” الخوف من الحياة بتشدد بطرياركي مبالغ يطول الأبناء الثلاثة لأب فقد زوجته بمرض السرطان. وتعود البطولة المطلقة إلى تغول هذا الخوف وعملقته داخل الابنة “آدا”، التي تسعى جاهدة للخلاص من قبضة الرعاية المفرطة للأب، والتعلق المفرط للشقيق الأصغر، وبالتالي الانفصال عنهما رغم حبها لهما.
ويتجسد الخوف عند “آدا” بسلس بولي مزمن، يتحول إلى عائق مذل أمام الحياة الطبيعية، لينعكس لدى الأب في واقعة إصابته بأزمة قلبية عند اكتشافه نجاح ابنته في سرقة جواز سفرها، ومن ثم رحيلها مع شقيقها الأكبر، الذي استطاع التحرر من قبضة الأب وتخطي الحدود بذريعة السفر لأجل العمل. ويرصد المشهد الأخير دراجة نارية يمطتيها الشقيقان، فيما تلقي الشابة بجواز السفر أثناء تجاوز الحدود، في إشارة إلى رفض الاحتضار البطيء داخل أسوار البلد الخارج حديثًا من العهد السوفييتي. وبالتالي يمكن تحميل الفيلم الحائز على جائزة “نظرة ما” في مهرجان “كان” مضمونًا سياسيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا.
أما المخرجة الكوسوفية “بليرتا باشوللي” في فيلمها الأول “خلية نحل” (HIVE)، فتروي أيضًا مغامرة تخطي الخوف من الأحكام المسبقة للمجتمع البطرياركي الخارج من أتون الحرب الأهلية اليوغسلافية، التي نحرت النساء على مذبح الحقد العنصري والديني. وينتمي الفيلم إلى سينما الواقع، المبني على قصة حقيقية، ويسلط الأضواء على غياب الرجال إما بالقتل أو التغييب في معسكرات الاعتقال، لتظل النساء مرتهنات للانتظار.
وبالتالي، تبرز الحاجة إلى تسويق المنتجات الزراعية في المجتمع الريفي لإعالة الأسرة، وما يترتب على ذلك من مواجهة التحديات والتنمر بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب. ويمكن اختصار الرؤية المضيئة في الفيلم بمشهد يظهر نساء القرية وهن يضعن على الطاولة حليهن الذهبية الوحيدة والبسيطة كي يتشاركن فعل العمل، المتمثل في إنتاج الصلصة الحارة وتسويقها إلى المدينة، فيتحولن إلى منتجات ضمن واقع مجحف أذل الرجال وحولهم إلى متسكعين.
كان الزوج المفقود للبطلة نحّالًا يتصف بالهدوء والتهذيب الشديد، لذلك اقترن غيابه بالألم والتشوش، فعجزت الزوجة عن البقاء ساكنة أثناء جني العسل، وظلت تتلقى الوخز واللسع من النحل. وحين اضطرت لمواجهة بقايا جثته المنتشلة من قاع النهر اعترفت بموته وقبلت به، الأمر الذي مهد للسلام مع النحل. وبالتالي دشن عهدًا جديدًا من الثقة بالنفس وبدورها كمعيلة لأطفالها ووالد زوجها، الذين شكلوا بدورهم دعامة المقاومة التي أبدتها لكافة أشكال التنمر.
تفاصيل الامتهان
ينتمي فيلم “صلوات لأجل المفقودات” (PRAYERS FOR STOLEN)، الذي أخرجته السلفادورية ـ المكسيكية “تاتيانا هويز” للنمط الوثائقي المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه. ويتعرض إلى واقعة اختطاف الفتيات الصغيرات من قبل أزلام الكارتيلات الذين كانوا يجوبون القرى بحثًا عن اللواتي يبلغن سن الثانية عشرة، لسرقتهن وبيعهن في سوق الجنس.
أجادت “هويز” رسم تفاصيل الامتهان الذي تواجهه المرأة تحت ظل الكارتيلات، متمثلًا في الخوف اليومي من بلوغ البنت وتحولها إلى طريدة، فركزت على تلازم الهلع على وجوه الأمهات مع توق الفتيات إلى حياة طبيعية قوامها احترام الأنوثة. وبالتالي، كان الخوف يتعايش مع الأمل يوميًّا في محاولاتهن اليائسة إخفاء معالم الأنوثة عبر تقصير الشعر كالصبية، ما إن تضع الطفلة أحمر الشفاه خلسة، أو دفنها في حفرة لإخفائها عن أنظار الصيادين. ويتجسد منتهى الألم في اشتعال النار في القرية عقب اختطاف مارية ذات شفة الأرنب التي لم تقنص لكونها لا تلفت انتباه الرجال، وحين تجري منظمة إنسانية عملية جراحية لشفتيها، فتقص شعرها الطويل، تتحول مباشرة إلى فريسة. أما منتهى اليأس فيتمثل في تلة خارج القرية، تصعد إليها النساء لالتقاط إشارة الهاتف المحمول، والتحدث مع أزواجهن الهاربين إلى خلف الحدود، ليصبح المكان أشبه بخلية نحل تضج في ساعة معينة لمناشدة الأمل والحماية العصيين على المنال.
وتعرض المخرجة البلجيكية “لورا واندل” في فيلمها “الملعب” (Un monde) وجهًا قاسيًا للعنف، يطول أطفال المدارس الابتدائية، فيتحول المكان المخصص للاستراحة إلى ساحة لممارسة التنمر بأبشع أشكاله العنصرية، تحت أنظار المرشدين النفسيين العاجزين عن إبداء رد الفعل المناسب. ويستطيل التنمر ليصبح سخرية من شخص الأب الذي يعتني بأطفاله ويبقى في المنزل، بينما تغيب الأم في عملها، تحقيقًا لتكافؤ الفرص بين الجنسين في أوروبا الغربية.
منذ البداية تتابع “واندال” الانفعالات المرتسمة على وجه الطفلة نورا، التي تدخل المدرسة للمرة الأولى بصحبة شقيقها آبيل، الذي يكبرها بعام أو عامين. وهذا الفرق في السن يؤهله لامتلاك الخبرة الكافية للتعامل مع التنمر، بحيث يصبح شريكًا في ممارسته ضد التلاميذ ذوي البنية الضعيفة، كصديقه إسماعيل. لكن لجوء نورا إليه طلبًا للحماية يعرضه للسخرية ويحوله إلى ضحية عاجزة عن إبداء أي رد فعل، فيغرق المتنمرون رأسه في المرحاض، ثم يلقون به في حاوية القمامة، لكونه أبدى شيئًا من العطف لشقيقته.
ومع أن آبيل يقع ضحية للتنمر إلا أن المخرجة تحتفظ به في خلفية المشهد، للإيحاء بأهمية انفعالات نورا، وانتقالها من مرحلة الخوف الأصم في مواجهة المجهول إلى اكتساب الشجاعة لتعلم مهارات اللعب الجماعي مع الفتيات وصولًا إلى إظهار رد الفعل العدائي دفاعًا عن النفس، المتمثل في تمزيق بطاقات الدعوة إلى حفلة عيد الميلاد.
ففي البداية حاولت نورا الدفاع عن آبيل في وجوه المتنمرين، ثم أخبرت الأب الذي قدم شكوى لدى إدارة المدرسة. وبعدها دخلت مرحلة المعاناة الصامتة لتبعات التجاهل والإقصاء من صديقاتها، بسبب آبيل الذي كان يبلل نفسه مرارًا لعجزه عن مواجهة التنمر، ثم احتجت بتمزيق البطاقات حين أدركت استبعادها من الحفلة، وأخيرًا تبنت موقف الدفاع عن إسماعيل الضعيف وردع آبيل عن معاودة التنمر، ليضع إنقاذ إسماعيل حدًّا للعداء الصامت بين الشقيقين، ويحول نورا إلى بطلة تواجه العزلة والعنصرية وتنتصر عليهما بإرادتها. ومع أن عدسة “واندل” ظلت باعثة على التشويش بسبب الزوايا غير الملائمة لالتقاط ردات الفعل الدقيقة، إلا أن أداء الفتاة كان عاليًا من حيث المزج العفوي بين المراقبة والألم الأخرس والانفعال الغاضب.
غياب العدالة
بالمقابل، تتكئ المخرجة الإيرانية “مريم مقدم” على اسم زوجها المخرج “بهتاش صناعيها” لتنجز فيلمها التجريدي “أنشودة البقرة البيضاء”، وتعبر عن الصمم الذي يعكسه مفهوم العدالة عند تطبيقها بشكل حرفي لا يستند إلى المنطق والمحاكمة السليمة. وتدور فكرة الفيلم حول سجن رجل وإعدامه، لتبث التحقيقات الجنائية لاحقًا براءته من التهمة المنسوبة إليه، فتحاول أرملته تنزيه سمعته من شائبة الإدانة، وتطالب القضاة بالاعتذار العلني، فيستقيل أحدهم ويحاول مساعدتها، فتتعلق به، وحين تكتشف أنه القاضي الذي شارك في إعدام زوجها توهمه بدس السم في طعامه، ثم تتركه وترحل مع طفلتها الصماء. ويُظهر المشهد الأخير في الفيلم بقرة بيضاء تواجه جدران السجن الصماء، فتتحول صيحة الأم لابنتها المستنكرة للجهود العبثية في إحقاق العدالة “هل تعرفين ما هو السجن؟” إلى صيحة مجهضة يتردد صداها بلا نتيجة، على غرار خوار البقرة البيضاء.
ويتبنى الفيلم البرتغالي “تحول الطيور” (The metamorphosis of birds) النمط الوثائقي المؤطر بسردية روائية، تستعيد من خلالها المخرجة “كاتارينا فاسكونثيلوس” تاريخ ثلاثة أجيال من عائلتها، لتقيم نوعًا من الحوار الصامت بين الأب الغائب والأم المستغرقة في رعاية أطفالها الستة. ونظرًا لطبيعة عمل الزوج في البحر، سيشير التقابل المتواتر بين الأرض اليابسة ووحدة البحر إلى عالمي الرجال والنساء، فيتخذ الغنى في حياة المرأة، المستمد من تنشئة الأطفال، رمزية الشجرة، بينما يرمز باب قمرة القبطان المفتوح على الظلام إلى الفراغ الداخلي. وبالتالي يبحث الأبناء والأحفاد في الصور القديمة عن ملامحهم المأخوذة عنها، في النمش على الوجه، أو في ارتسام الابتسامة عينها، فيدركون حجم الفراغ الذي تركه الأب وملأته الأم، ما يدفعهم لحرق الرسائل المتبادلة بينهما ومن ثم إعادة اختلاقها.
تدفن الزوجة شوقها إلى والد أبنائها بالتماهي مع نباتات منزلها، فتنمو بذورها عشوائيًّا في كل مكان عقب موتها، لتتسبب في تفككه، فيما تتابع الحياة مسراها من خلال أبنائها. وبينما يدأب القبطان على تأمل خط الأفق بين البحر واليابسة حنينًا إليها، تلتمس حضوره في الجبال القريبة منها. فيرتسم التماهي مع النبات معادلًا للصبر المتوج بالصمت وللحكمة المستمدة من النضج الهادئ، مقابل الوحدة المكثفة المتأتية عن تأمل زرقة المياه اللانهائية، لذلك حين يعود الأب ليموت يعدم وجود خيط يربطهم به.