جان لوك غودار: أنا منعزل ولا يمكنني تخطي ذلك
حاوره جافيين سميث
ترجمة حورية الظلِّ
لم يكن جان لوك غودار يتوقع أن يكون واحدًا من أشهر صنَّاع السينما الفرنسية والعالمية، فقد بدأ حياته عاملًا في بناء أحد السدود، لكنه كان أيضًا ناقدًا سينمائيًّا، أسس عام 1915 مجلة “السينما” التي صدرت منها عدة أعداد قبل أن تتوقف. وحين أسس الناقد أندريه بازين مجلته “كراسات السينما” كان أحد الكتاب الذين انضموا للكتابة فيها. معلنا من خلالها عن حلمه بسينما جديدة غير التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد عبَّر عن هذا الحلم من خلال فيلمه التسجيلي الأول عام 1953 عن عملية بناء السد الذي كان يعمل فيه. ثم تبعته عدة محاولات سينمائية قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول “منقطع الأنفاس” عام 1960، والذي حاز على إعجاب الجمهور والنقاد، وكان بداية التأسيس للموجة الجديدة في السينما الفرنسية. هكذا انتقل غودار من التعبير بالقلم إلى التعبير بالكاميرا، منحازًا إلى سينما المؤلف التي تبرز وجهات نظر مخرجها، وانحيازاته بوضوح صارخ. يرى غودار في هذا الحوار الذي أجرته مجلة Film Comment أنه منعزل في الظاهر، لكنه يتواصل في الباطن مع العديد من الأشياء والأشخاص. وأن السينما الأمريكية هزمت السينما الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، واكتسحت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وأنه بحاجة لأن يفعل الكثير من الأشياء، لكنه ليس قلقًا بشأن الوقت اللازم لفعلها.
يين الإخراج والنقد
الأفلام التي صنعتها من خلال سلسلةhistoires de cinéma أكثر عاطفية وتأثيرًا من أي شيء قمت به من قبل؛ لأن كل واحد من هذه الأفلام يشعرك وكأنه محاولة للتصالح مع السينما.
– نعم، أعتقد ذلك، يمكنني القول بأن الأمر مشابه لجملة لبيكاسو صعقتني لما قرأتها ذات يوم: “أحبُّ أن أظلَّ أرسم إلى أن يرفضني الرسم”، أودُّ أن أقول إن السينما لن ترفض لي بضعة أفلام أخرى لبضعة عقود أخرى؛ لذا فهي مصالحة ليس لتحقيق ما أريد، لأنني لا أعرف ما أريد، ولكن لأقوم بما أريد بما هو متوفّر لدي، يعني أن تكون أكثر قدرة على عدم طلب أي شيء، ولكن أن تفعل ما تحبه حقًّا، وأن تتأقلم مع ما لديك، إنه موقف أكثر سلمية، فعندما أصور فيلمًا، لم أعد أغضب عندما لا يتم ذلك بشكل جيد، بعبارة أخرى لا تغضب لأن التصوير تم بهذه الطريقة أو بتلك، ولكن فقط عليك القيام بذلك بطريقتك.
ومع ذلك، لطالما كان نوع السينما الخاص بك يمثِّل سينما مضادة.
– عندما أصنع فيلمًا كبيرًا، لا أقول لنفسي، إنه ضدَّ ذلك النوع من أفلام هوليوود، أو ضد هذا النوع من الأفلام الفرنسية، إن ما أصنعه مجرد أفلام، لكنني أعلم بأنني متموضع في المعارضة بشكل كامل.
يمكن أن يُنظر إلى حياتك المهنية بأكملها، بما في ذلك عملك كناقد، على أنها عملية تفاوض واتفاق مع السينما.
أنا لا أميز بين الإخراج والنقد، عندما بدأت أشاهد الأفلام، كان ذلك بالفعل جزءًا من السينما، إذا كنت أشاهد آخر فيلم لهال هارتلي، فهذا جزء من صنع فيلم أيضًا، ليس هناك فرق، أنا جزء من السينما. ويجب أن أتابع ما يحدث.
اكتساح أوروبا
ما اللحظات التي حددت الانهيار (انهيار السينما الفرنسية)؟
– الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كانت الحرب العالمية الأولى فرصة للسينما الأمريكية لإلحاق الهزيمة بالسينما الفرنسية. التي كانت في ذلك الوقت أكثر قوة ومعروفة. … كان الفرنسيون ضعفاء بعد الحرب، وكان ذلك فرصة للأمريكيين لاكتساح السينما الأوروبية، وقد ارتبطوا بالسينما الألمانية. فاحتل الألمان نصف هوليوود … ثم كانت الحرب العالمية الثانية فرصة لاكتساح أوروبا سينمائيًّا بشكل نهائي.
ألا تشعر بأن الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الفرنسية الجديدة يمثلان انتعاشًا بعد الحرب؟
– لا، لقد اعتبرتهما الانتفاضة الأخيرة.
في الجزء الثاني من histoires de cinéma، تقول: “لقد سعت التقنية إلى إعادة إنتاج الحياة واستنزاف هويتها،ماذا يعني ذلك؟
– يجب أن نحلل حقيقة أنه عندما تم اختراع التصوير الفوتوغرافي، كان من الممكن أن تكون الألوان موجودة من البداية، كان ذلك ممكنًا، لكن التصوير ظل باللونين الأبيض والأسود لفترة طويلة، وذلك ليس من قبيل الصدفة، إذ إن هذا الأمر جاء مراعاة للجانب الأخلاقي، لأنه في أوروبا الغربية، الأسود هو لون الحداد؛ لذلك نسحب الهوية من طبيعة الصورة ونقتلها بطريقة …
…. بتصويرها بالأبيض والأسود؟
– فقط من خلال التصوير الفوتوغرافي….
حقيقة حياتي
يقدمك فيلم JLG / JLGفي عزلة معظم الوقت، هل هذا انعكاس لحياتك؟
أنا منعزل للغاية، هذا كل شيء، لا يمكنني تخطي ذلك، داخليًّا أتواصل كثيرًا مع الكثير من الأشياء والأشخاص الذين لا يعرفون مطلقًا أنني على تواصل معهم، لكنني في الواقع وحيد للغاية، مع صعوبات في العلاقات مع الأشخاص، هذه هي شخصيتي، وهذه هي حقيقة حياتي، ولكن ربما، يعود ذلك لكوني عندما كنت صغيرًا كنت جزءًا من عائلة كبيرة وغنية، مع الكثير من الأعمام وأبناء العم، كان لدي الكثير في شبابي. لدرجة أنني أعتقد اليوم أنه من العدل أن يكون لدي أقل مما كنت أملك في الماضي.
الكلمات الأخيرة التي قلتها في الفيلم هي: “سأعيش،يجب أن أضحي بنفسي من خلال المحبة؛ حتى يكون هناك حبٌّ في العالم”.هل هذه كلماتك الخاصة أم هي اقتباس؟
– أعتقد أنها اقتباس، الآن بالنسبة لي، الاقتباسات تظلُّ مجهولة المصدر في بعض الأحيان، أستخدمها دون أن أعرف من هم أصحابها.
واحدة من اللقطات الأخيرة عبارة عن منظر طبيعي في فصل الربيع، جميل بشكل لا يُصدَّق، ويبدو مليئًا بالوعد بالحياة.
– أعتقد أنه كان من الجيد تقديم استعارة للعالم، ثم تأتي الظلال، لكن لا تعني الأشياء المحزنة، فقط نهاية يوم آخر.
أحد العناصر المرئية في فيلم JLG / JLG هو دفاتر التمارين المدرسية: أولًا تلك التي تكتب فيها العناوين، ثم تلك التي تحتوي على أسماء أطفال، وبها صفحات فارغة، ثم تعود أخيرًا إلى كتابك الخاصِّ، والذي يحتوي الآن أيضًا على صفحات فارغة، تبدو تلك الصفحات الفارغة وكأنها صورة أخرى للمستقبل، أو لتاريخ لم يُكتب بعد.
– نعم.
إذن، هذا الفيلم ليس وداعًا، كما يشعر البعض،هل أردت أن تقول إن مستقبلك هو نفس مستقبل الطفل. من حيث الإمكانات أو الأمل؟
– نعم، لديَّ هذا الشعور، ربما يحدث ذلك عندما تتقدم في العمر، بطريقة ما تشعر أنك أصغر سنًّا ولكنك ما زلت أكبر سنًّا، شيخوخة صغيرة إذا جاز لي أن أقول ذلك، وهذا شيء مطمئن للغاية.
للتعرف على الأطفال؟
– نعم، لكن لا أنكر حقيقة أنني أكبر سنًّا، لكن لا يزال لدي كل شيء لأكتشفه، عادةً ما يقول صانعو الأفلام، “ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد فعلت كل شيء”، لكن أنا أقول الآن: “لم أفعل شيئًا، يجب عليَّ القيام به بكل شيء”، لكنني لست قلقًا بشأن حقيقة أنه لن يكون لدي الوقت الكافي للقيام بذلك.
الرسم
لم أفكر أبدًا في أن صورة الفيديو يمكن أن تكون جميلة جدًّا وحسية، إلى أن رأيت Histoires du cinéma يبدو أنك اكتشفت طريقة لتحقيق إمكاناتها.
– أنا أستخدم أجهزة Sony العادية [يضحك]، أنا أستخدمها فقط، وأشبهها بالمكنسة الكهربائية التي تكون في حالة جيدة- أحب أن تكون الأشياء نظيفة وجميلة.
كان عمل الفيديو الخاص بكَ في السابق أقل جودة، لكن مع Histoires du cinémaجعلته يُشبه الرسم على القماش.
– تماما، إن histoires du cinéma ينتمي إلى تاريخ الرسم وهو رسم خالص، ولكنه رسم أفلام، إنه جزء من السينما تم التخلي عنه من قبل معظم الناس … الأمر يشبه عرض لوحة في مجلة فنية لعدة شخصيات مع منظر طبيعي، لكني أحب أن يقول هؤلاء الأشخاص الموجودون في اللوحة كلمات، وأن تكون هناك دراما …كثيرًا ما أنظر إلى اللوحات وأخاطب نفسي: ماذا يقول هؤلاء الأشخاص؟ وبماذا يفكرون؟ أتذكر أن مقالتي الأولى كانت مقارنة بين فيلم لبريمنجر وأعمال الفن الانطباعي، قد لا يكون ذلك ممكنًا، لكن يبدو لي أنه ممكن، إنها السينما الخاصة بي، هذا هو السبب في أن هذا العمل يقترب أكثر فأكثر من الرسم. … ما أحبُّه في الرسم هو أنه غامض بعض الشيء … في السينما لا يمكنك أن تكون غير واضح، لكن إذا أضفت حوارًا، إذا أظهرت من خلال المـَشاهد وجهة نظرك للواقع، فعندئذ بين مشاهدك السينمائية المركزة والكلمات هناك مساحة غامضة، وهذا الغموض هو السينما الحقيقية.
في الجزء الأول من Histoires de cinéma، تستخدم الفيديو لتحقيق اختلافات ملحوظة من خلال تأثيرات المونتاج السينمائي. ما الذي كنت تحاول استحضاره؟
– كان الهدف فقط هو محاولة جعل الـمَشاهد متلاصقة بدون تقطيع، ضمن تراكبات سريعة جدًّا بحيث تكون هناك صورة واحدة فقط. ولكننا نفهم أن هناك صورتين.
وماذا عن الحركة البطيئة؟
تشمل كل الحيل القديمة منذ بداية صناعة الأفلام السينمائية، والتي عملنا على تدميرها من خلال تيار الموجة الجديدة، والآن عادت من خلال تقنية الفيديو، ولكن بطريقة إيجابية.
مرة أخرى، أقتبس منHistoires du cinéma:”المسرح مألوف للغاية، والسينما مجهولة للغاية”
– روبيرت بريسون؟. ..
تحليل البناء
الصورة التي أكونها من هاتين الجملتين هي كون السينما عبارة عن عالم من الغموض، لماذا تبدو من خلال أفلامك التي تبدأ من منتصف الثمانينيات أكثر انشغالًا بشكل السرد الغامض؟ ومن هذه الأفلام، (Détective)، (Hail Mary)، (Hélas pour moi)، (Nouvelle vague) وكلها تدور حول لغز أو أحجية.
– إن تحليل بناء الرواية هو جزء من الرواية نفسها، إنه الفارق بين رواية يوليسيس لجيمس جويس ورواية بيري ماسون لإيرل ستانلي غاردنر، فعند هذا الأخير نجد الغموض موجودًا في الوصف فقط، بينما مع جويس، فإن الغموض متضمن في الكتابة، فهو جزء من الرواية نفسها، فمثلًا نجد الملاحِظ والكون جزء من نفس الكون، وهذا ما اكتشفه العلم في بداية هذا القرن، عندما يقولون إنه لا يمكنك تحديد مكان الجسيم الذري. فأنت تعرف أين هو، ولكن ليس سرعته، أو تعرف سرعته ولكن ليس مكانه، فذلك يعتمد عليك؛ لأن الذي يصف هو جزء من الموصوف.
كانت الألغاز التي كنت تحاول حلها في الستينيات والسبعينيات مبنية على المادية العلمانية، وكان لها علاقة بأشياء مثل الرغبة والأيديولوجيا واللغة والسلطة، لكنمنذ الثمانينيات، وبينما واصلت أفلامك هذا التساؤل النقدي، بدت أكثر انشغالًا بالأسرار الأبدية للفلسفة والميتافيزيقا.
– أعتقد ذلك؛ لأنه إذا كان بإمكانك استحضار الميتافيزيقيا من خلال الأشياء العادية. فلا بأس بذلك، وهذه مهمة الفنان، فتفاحة سيزان البسيطة هي أكثر من مجرد تفاحة بسيطة، أو هي مجرد تفاحة بسيطة.
هل هذا ما يكمن وراء استخدامك للطبيعة في Nouvelle Vague و Hélas pour moi؟
– نعم.
يُعدُّ استخدامك للضوء الطبيعي الساطع في هذين الفيلمين أمرًا غير معتاد. غالبًا ما يتم ضبط التعريض الضوئي للخارج عندما تكون الكاميرا في الداخل، أو للأفق إذا كانت اللقطة خارجية.لماذا تركِّز على التباين؟
لأنني أرى التباين طريقة للحصول على صورتين متمايزتين ومختلفتين عن بعضهما البعض، إحداهما مظلمة والأخرى مشمسة، أحب أن أواجه الضوء، وإذا واجهت الضوء، يظهر التباين وعندها تكون قادرًا على رؤية الخطوط العريضة التي كانت دائمًا مشكلة الرسم الأوروبي، ولكن بشكل أكثر وعيًا منذ الرومانسيين وديلاكروا… لا أحب أن يكون الضوء في الخلف؛ لأن الضوء الموجود في الخلف ينتمي إلى جهاز العرض، يجب أن يكون للكاميرا ضوء في المقدمة. كما لدينا في الحياة، نتلقى وبعد ذلك نتوقع.
المصدر: مجلة Film Comment.
حاوره جافيين سميث
ترجمة حورية الظلِّ
لم يكن جان لوك غودار يتوقع أن يكون واحدًا من أشهر صنَّاع السينما الفرنسية والعالمية، فقد بدأ حياته عاملًا في بناء أحد السدود، لكنه كان أيضًا ناقدًا سينمائيًّا، أسس عام 1915 مجلة “السينما” التي صدرت منها عدة أعداد قبل أن تتوقف. وحين أسس الناقد أندريه بازين مجلته “كراسات السينما” كان أحد الكتاب الذين انضموا للكتابة فيها. معلنا من خلالها عن حلمه بسينما جديدة غير التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد عبَّر عن هذا الحلم من خلال فيلمه التسجيلي الأول عام 1953 عن عملية بناء السد الذي كان يعمل فيه. ثم تبعته عدة محاولات سينمائية قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول “منقطع الأنفاس” عام 1960، والذي حاز على إعجاب الجمهور والنقاد، وكان بداية التأسيس للموجة الجديدة في السينما الفرنسية. هكذا انتقل غودار من التعبير بالقلم إلى التعبير بالكاميرا، منحازًا إلى سينما المؤلف التي تبرز وجهات نظر مخرجها، وانحيازاته بوضوح صارخ. يرى غودار في هذا الحوار الذي أجرته مجلة Film Comment أنه منعزل في الظاهر، لكنه يتواصل في الباطن مع العديد من الأشياء والأشخاص. وأن السينما الأمريكية هزمت السينما الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، واكتسحت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وأنه بحاجة لأن يفعل الكثير من الأشياء، لكنه ليس قلقًا بشأن الوقت اللازم لفعلها.
يين الإخراج والنقد
الأفلام التي صنعتها من خلال سلسلةhistoires de cinéma أكثر عاطفية وتأثيرًا من أي شيء قمت به من قبل؛ لأن كل واحد من هذه الأفلام يشعرك وكأنه محاولة للتصالح مع السينما.
– نعم، أعتقد ذلك، يمكنني القول بأن الأمر مشابه لجملة لبيكاسو صعقتني لما قرأتها ذات يوم: “أحبُّ أن أظلَّ أرسم إلى أن يرفضني الرسم”، أودُّ أن أقول إن السينما لن ترفض لي بضعة أفلام أخرى لبضعة عقود أخرى؛ لذا فهي مصالحة ليس لتحقيق ما أريد، لأنني لا أعرف ما أريد، ولكن لأقوم بما أريد بما هو متوفّر لدي، يعني أن تكون أكثر قدرة على عدم طلب أي شيء، ولكن أن تفعل ما تحبه حقًّا، وأن تتأقلم مع ما لديك، إنه موقف أكثر سلمية، فعندما أصور فيلمًا، لم أعد أغضب عندما لا يتم ذلك بشكل جيد، بعبارة أخرى لا تغضب لأن التصوير تم بهذه الطريقة أو بتلك، ولكن فقط عليك القيام بذلك بطريقتك.
ومع ذلك، لطالما كان نوع السينما الخاص بك يمثِّل سينما مضادة.
– عندما أصنع فيلمًا كبيرًا، لا أقول لنفسي، إنه ضدَّ ذلك النوع من أفلام هوليوود، أو ضد هذا النوع من الأفلام الفرنسية، إن ما أصنعه مجرد أفلام، لكنني أعلم بأنني متموضع في المعارضة بشكل كامل.
يمكن أن يُنظر إلى حياتك المهنية بأكملها، بما في ذلك عملك كناقد، على أنها عملية تفاوض واتفاق مع السينما.
أنا لا أميز بين الإخراج والنقد، عندما بدأت أشاهد الأفلام، كان ذلك بالفعل جزءًا من السينما، إذا كنت أشاهد آخر فيلم لهال هارتلي، فهذا جزء من صنع فيلم أيضًا، ليس هناك فرق، أنا جزء من السينما. ويجب أن أتابع ما يحدث.
اكتساح أوروبا
ما اللحظات التي حددت الانهيار (انهيار السينما الفرنسية)؟
– الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كانت الحرب العالمية الأولى فرصة للسينما الأمريكية لإلحاق الهزيمة بالسينما الفرنسية. التي كانت في ذلك الوقت أكثر قوة ومعروفة. … كان الفرنسيون ضعفاء بعد الحرب، وكان ذلك فرصة للأمريكيين لاكتساح السينما الأوروبية، وقد ارتبطوا بالسينما الألمانية. فاحتل الألمان نصف هوليوود … ثم كانت الحرب العالمية الثانية فرصة لاكتساح أوروبا سينمائيًّا بشكل نهائي.
كان الفرنسيون ضعفاء بعد الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك فرصة للأمريكيين كي يكتسحوا السينما الأوروبية.
ألا تشعر بأن الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الفرنسية الجديدة يمثلان انتعاشًا بعد الحرب؟
– لا، لقد اعتبرتهما الانتفاضة الأخيرة.
في الجزء الثاني من histoires de cinéma، تقول: “لقد سعت التقنية إلى إعادة إنتاج الحياة واستنزاف هويتها،ماذا يعني ذلك؟
– يجب أن نحلل حقيقة أنه عندما تم اختراع التصوير الفوتوغرافي، كان من الممكن أن تكون الألوان موجودة من البداية، كان ذلك ممكنًا، لكن التصوير ظل باللونين الأبيض والأسود لفترة طويلة، وذلك ليس من قبيل الصدفة، إذ إن هذا الأمر جاء مراعاة للجانب الأخلاقي، لأنه في أوروبا الغربية، الأسود هو لون الحداد؛ لذلك نسحب الهوية من طبيعة الصورة ونقتلها بطريقة …
…. بتصويرها بالأبيض والأسود؟
– فقط من خلال التصوير الفوتوغرافي….
حقيقة حياتي
يقدمك فيلم JLG / JLGفي عزلة معظم الوقت، هل هذا انعكاس لحياتك؟
أنا منعزل للغاية، هذا كل شيء، لا يمكنني تخطي ذلك، داخليًّا أتواصل كثيرًا مع الكثير من الأشياء والأشخاص الذين لا يعرفون مطلقًا أنني على تواصل معهم، لكنني في الواقع وحيد للغاية، مع صعوبات في العلاقات مع الأشخاص، هذه هي شخصيتي، وهذه هي حقيقة حياتي، ولكن ربما، يعود ذلك لكوني عندما كنت صغيرًا كنت جزءًا من عائلة كبيرة وغنية، مع الكثير من الأعمام وأبناء العم، كان لدي الكثير في شبابي. لدرجة أنني أعتقد اليوم أنه من العدل أن يكون لدي أقل مما كنت أملك في الماضي.
كان لدي الكثير في شبابي، لدرجة أنني أعتقد اليوم أنه من العدل أن يكون لدي أقل مما كنت أملك في الماضي.
الكلمات الأخيرة التي قلتها في الفيلم هي: “سأعيش،يجب أن أضحي بنفسي من خلال المحبة؛ حتى يكون هناك حبٌّ في العالم”.هل هذه كلماتك الخاصة أم هي اقتباس؟
– أعتقد أنها اقتباس، الآن بالنسبة لي، الاقتباسات تظلُّ مجهولة المصدر في بعض الأحيان، أستخدمها دون أن أعرف من هم أصحابها.
واحدة من اللقطات الأخيرة عبارة عن منظر طبيعي في فصل الربيع، جميل بشكل لا يُصدَّق، ويبدو مليئًا بالوعد بالحياة.
– أعتقد أنه كان من الجيد تقديم استعارة للعالم، ثم تأتي الظلال، لكن لا تعني الأشياء المحزنة، فقط نهاية يوم آخر.
أحد العناصر المرئية في فيلم JLG / JLG هو دفاتر التمارين المدرسية: أولًا تلك التي تكتب فيها العناوين، ثم تلك التي تحتوي على أسماء أطفال، وبها صفحات فارغة، ثم تعود أخيرًا إلى كتابك الخاصِّ، والذي يحتوي الآن أيضًا على صفحات فارغة، تبدو تلك الصفحات الفارغة وكأنها صورة أخرى للمستقبل، أو لتاريخ لم يُكتب بعد.
– نعم.
إذن، هذا الفيلم ليس وداعًا، كما يشعر البعض،هل أردت أن تقول إن مستقبلك هو نفس مستقبل الطفل. من حيث الإمكانات أو الأمل؟
– نعم، لديَّ هذا الشعور، ربما يحدث ذلك عندما تتقدم في العمر، بطريقة ما تشعر أنك أصغر سنًّا ولكنك ما زلت أكبر سنًّا، شيخوخة صغيرة إذا جاز لي أن أقول ذلك، وهذا شيء مطمئن للغاية.
للتعرف على الأطفال؟
– نعم، لكن لا أنكر حقيقة أنني أكبر سنًّا، لكن لا يزال لدي كل شيء لأكتشفه، عادةً ما يقول صانعو الأفلام، “ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد فعلت كل شيء”، لكن أنا أقول الآن: “لم أفعل شيئًا، يجب عليَّ القيام به بكل شيء”، لكنني لست قلقًا بشأن حقيقة أنه لن يكون لدي الوقت الكافي للقيام بذلك.
عادة ما يقول صانعو الأفلام، “ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد فعلت كل شيء”، لكن أنا أقول الآن: “لم أفعل شيئًا، ويجب علي القيام بكل شيء”.
الرسم
لم أفكر أبدًا في أن صورة الفيديو يمكن أن تكون جميلة جدًّا وحسية، إلى أن رأيت Histoires du cinéma يبدو أنك اكتشفت طريقة لتحقيق إمكاناتها.
– أنا أستخدم أجهزة Sony العادية [يضحك]، أنا أستخدمها فقط، وأشبهها بالمكنسة الكهربائية التي تكون في حالة جيدة- أحب أن تكون الأشياء نظيفة وجميلة.
كان عمل الفيديو الخاص بكَ في السابق أقل جودة، لكن مع Histoires du cinémaجعلته يُشبه الرسم على القماش.
– تماما، إن histoires du cinéma ينتمي إلى تاريخ الرسم وهو رسم خالص، ولكنه رسم أفلام، إنه جزء من السينما تم التخلي عنه من قبل معظم الناس … الأمر يشبه عرض لوحة في مجلة فنية لعدة شخصيات مع منظر طبيعي، لكني أحب أن يقول هؤلاء الأشخاص الموجودون في اللوحة كلمات، وأن تكون هناك دراما …كثيرًا ما أنظر إلى اللوحات وأخاطب نفسي: ماذا يقول هؤلاء الأشخاص؟ وبماذا يفكرون؟ أتذكر أن مقالتي الأولى كانت مقارنة بين فيلم لبريمنجر وأعمال الفن الانطباعي، قد لا يكون ذلك ممكنًا، لكن يبدو لي أنه ممكن، إنها السينما الخاصة بي، هذا هو السبب في أن هذا العمل يقترب أكثر فأكثر من الرسم. … ما أحبُّه في الرسم هو أنه غامض بعض الشيء … في السينما لا يمكنك أن تكون غير واضح، لكن إذا أضفت حوارًا، إذا أظهرت من خلال المـَشاهد وجهة نظرك للواقع، فعندئذ بين مشاهدك السينمائية المركزة والكلمات هناك مساحة غامضة، وهذا الغموض هو السينما الحقيقية.
ينتمي histoires du ciném إلى تاريخ الرسم، لكنه رسم أفلام، وهو جزء من السينما تم التخلي عنه من قبل معظم الناس.
بين الكلمات والمشاهد السينمائية المركزة توجد مساحة غامصة، هذا الغموض هو السينما الحقيقية.
بين الكلمات والمشاهد السينمائية المركزة توجد مساحة غامصة، هذا الغموض هو السينما الحقيقية.
في الجزء الأول من Histoires de cinéma، تستخدم الفيديو لتحقيق اختلافات ملحوظة من خلال تأثيرات المونتاج السينمائي. ما الذي كنت تحاول استحضاره؟
– كان الهدف فقط هو محاولة جعل الـمَشاهد متلاصقة بدون تقطيع، ضمن تراكبات سريعة جدًّا بحيث تكون هناك صورة واحدة فقط. ولكننا نفهم أن هناك صورتين.
وماذا عن الحركة البطيئة؟
تشمل كل الحيل القديمة منذ بداية صناعة الأفلام السينمائية، والتي عملنا على تدميرها من خلال تيار الموجة الجديدة، والآن عادت من خلال تقنية الفيديو، ولكن بطريقة إيجابية.
مرة أخرى، أقتبس منHistoires du cinéma:”المسرح مألوف للغاية، والسينما مجهولة للغاية”
– روبيرت بريسون؟. ..
تحليل البناء
الصورة التي أكونها من هاتين الجملتين هي كون السينما عبارة عن عالم من الغموض، لماذا تبدو من خلال أفلامك التي تبدأ من منتصف الثمانينيات أكثر انشغالًا بشكل السرد الغامض؟ ومن هذه الأفلام، (Détective)، (Hail Mary)، (Hélas pour moi)، (Nouvelle vague) وكلها تدور حول لغز أو أحجية.
– إن تحليل بناء الرواية هو جزء من الرواية نفسها، إنه الفارق بين رواية يوليسيس لجيمس جويس ورواية بيري ماسون لإيرل ستانلي غاردنر، فعند هذا الأخير نجد الغموض موجودًا في الوصف فقط، بينما مع جويس، فإن الغموض متضمن في الكتابة، فهو جزء من الرواية نفسها، فمثلًا نجد الملاحِظ والكون جزء من نفس الكون، وهذا ما اكتشفه العلم في بداية هذا القرن، عندما يقولون إنه لا يمكنك تحديد مكان الجسيم الذري. فأنت تعرف أين هو، ولكن ليس سرعته، أو تعرف سرعته ولكن ليس مكانه، فذلك يعتمد عليك؛ لأن الذي يصف هو جزء من الموصوف.
كانت الألغاز التي كنت تحاول حلها في الستينيات والسبعينيات مبنية على المادية العلمانية، وكان لها علاقة بأشياء مثل الرغبة والأيديولوجيا واللغة والسلطة، لكنمنذ الثمانينيات، وبينما واصلت أفلامك هذا التساؤل النقدي، بدت أكثر انشغالًا بالأسرار الأبدية للفلسفة والميتافيزيقا.
– أعتقد ذلك؛ لأنه إذا كان بإمكانك استحضار الميتافيزيقيا من خلال الأشياء العادية. فلا بأس بذلك، وهذه مهمة الفنان، فتفاحة سيزان البسيطة هي أكثر من مجرد تفاحة بسيطة، أو هي مجرد تفاحة بسيطة.
هل هذا ما يكمن وراء استخدامك للطبيعة في Nouvelle Vague و Hélas pour moi؟
– نعم.
يُعدُّ استخدامك للضوء الطبيعي الساطع في هذين الفيلمين أمرًا غير معتاد. غالبًا ما يتم ضبط التعريض الضوئي للخارج عندما تكون الكاميرا في الداخل، أو للأفق إذا كانت اللقطة خارجية.لماذا تركِّز على التباين؟
لأنني أرى التباين طريقة للحصول على صورتين متمايزتين ومختلفتين عن بعضهما البعض، إحداهما مظلمة والأخرى مشمسة، أحب أن أواجه الضوء، وإذا واجهت الضوء، يظهر التباين وعندها تكون قادرًا على رؤية الخطوط العريضة التي كانت دائمًا مشكلة الرسم الأوروبي، ولكن بشكل أكثر وعيًا منذ الرومانسيين وديلاكروا… لا أحب أن يكون الضوء في الخلف؛ لأن الضوء الموجود في الخلف ينتمي إلى جهاز العرض، يجب أن يكون للكاميرا ضوء في المقدمة. كما لدينا في الحياة، نتلقى وبعد ذلك نتوقع.
المصدر: مجلة Film Comment.