الجمالي في مدونة السينما العالمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجمالي في مدونة السينما العالمية

    الجمالي في مدونة السينما العالمية


    مخرجات عالميات حققن هوياتهن الجمالية في عالم ذكوري

    عبد الكريم قادري

    لا يمكن الوصول إلى لذة السينما القصوى، ما لم تُعالَج أو تُجَرَّب من الجهتين، وأقصد هنا: المرأة المخرجة والرجل المخرج. لأنه لو تم الاعتماد على جهة دون أخرى، لاختلّت موازين السينما، ولفاتنا الكثير من جماليات السينما بأبعادها ومتغيراتها، انطلاقًا من أن طريقة عمل الرجل تختلف عن المرأة بشكل كبير.

    ويتجلى هذا الاختلاف في النظرة الكلية للأشياء، وبالتالي في طريقة المعالجة واستخراج الجماليات، وهو المعطى الأساسي الذي يضمن بقاء الفن وامتداده الزمني، من خلال المحافظة على هذه الخصوصية، وفتح المشهد ككل لصاحب/ وصاحبة كل موهبة. ولقد عرف المشهد السينمائي العالمي منذ اكتشاف هذا الفن الى اليوم، العديد من المخرجات الموهوبات صاحبات الرؤى القوية والمتفردة، اللاتي تجاوزن مساحات الرجال بأشواط، وأسسن لمسار “السينما النسوية” باقتدار. وأكثر من هذا، فقد كتبن أسماءهن بماء الذهب، بعد أن لمعن في سماء السينما، بفضل ما قدمنه من أفلام تجلت فيها خصائص الموهبة والذكاء.
    لا يمكن الوصول إلى لذة السينما القصوى، ما لم تُعالَج أو تُجَرَّب من الجهتين، وأقصد هنا: المرأة المخرجة والرجل المخرج.

    عرف المشهد السينمائي العالمي العديد من المخرجات الموهوبات صاحبات الرؤى القوية والمتفردة، اللاتي تجاوزن مساحات الرجال بأشواط، وأسسن لمسار “السينما النسوية” باقتدار.

    الخطوات التأسيسية



    تعتبر المخرجة الفرنسية “أليس غاي – Alice Guy” (1873-1968) أول من مارس الإخراج السينمائي من النساء، حيث أخرجت فيلمًا روائيًّا قصيرًا بعنوان “The Cabbage Fairy”، سنة 1986. واستطاعت أن تؤسس رفقة زوجها هربرت بلاشييه استديو تصوير، لتفتح أبواب السينما للمخرجات الأخريات بعد أن سبقتهن بالخطوة الأولى. ومن بينهن “لويس ويبر – Lois Weber” (1879-1939) التي بدأت هي الأخرى في صناعة الأفلام سنة 1908، وقد انضمت لشركة الإنتاج السينمائي الرائدة “يونفرسال” قبل أن تتركها وتبدأ مسارًا جديدًا من خلال تأسيس شركة خاصة بها. وقد كانت بدايتها من خلال السينما الصامتة، لكن في المقابل أخرجت فيلمًا ناطقًا سنة 1934 بعنوان “وايت هيت”، قبل أن تتوفى في سن الستين من العمر. كذك، هناك المخرجة الألمانية الرائدة “لوتي راينيجر – Lotte Reiniger” (1899-1981)، التي استطاعت أن تخلق أسلوبًا سينمائيًا مبتكرًا، ينعكس في استعمال الظل والنور، وتوظيف الرسوم المتحركة لتشكيل أفلامها، وهي الأساليب التي استلهمتها شركة “والت ديزني” وطورتها.



    وقد قدمت خلال مسيرتها المِهنية أكثر من 40 فيلمًا، وَجميعها تتحدث عن شخصيات من ابتكارها. وَيُعد فيلم “مُغامرات الأمير أحمد” (1926) وفيلم “باغينو” (1953) من أكثر الأفلام المَعروفة لها، وضمت موسيقى للمؤلف فولفغانغ أماديوس موتسارت. ولم تكن ألمانيا مناسبة لها مع بداية الحرب العالمية الثانية في 1939، لهذا فرت منها رفقة زوجها، لتعود إليها بعد أن هدئت الأمور ووضعت الحرب أوزارها عام 1945، من أجل رعاية أمها المريضة، وكللت مسارها بالعديد من الأفلام.



    مسار النجاح والريادة نفسه، سارت عليه الأوكرانية “مايا دارين – Maya Deren” (1917-1961)، التي هاجرت إلى أميركا من أجل تحقيق أحلامها وطموحاتها. ولقد استطاعت أن تكتب اسمها من بين المخرجات الرائدات وقتها، في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.



    ومن بين النجاحات الأخرى التي تم تحقيقها في السينما النسوية، ما حققته المخرجة الإيطالية “لينا ويرتمولر – Wertmüller Lina” (1928-2021) التي أخرجت العديد من الأفلام المهمة، كما كتبت اسمها بماء الذهب بعد أن كانت أول امرأة ترشح لجائزة الأوسكار، سنة 1977، عن فيلمها “Seven Beauties”. وتملك لينا خلفية سينمائية قوية أكسبتها تجارب ثرية، إذ كانت تعمل كمحركة دمى، كما عملت مع المخرج الإيطالي المعروف فيديريكو فيلليني. كذلك، هناك المخرجة الهندية “فاطمة بيغوم – Fatma Begum” (1892-1983)، التي استطاعت أن تصنع مجدها السينمائي وسط شريحة واسعة من الرجال.

    وهناك مخرجات كثيرات شكّلن تجارب فريدة في مسارهن في العصر الحديث، مثل شنتال أكرمان، التي أشار عدد من المخرجين إلى أن أفلامها كان لها تأثير على أعمالهم. ويرى نقاد أن سينما أكرمان تهتم بالتفاصيل والرشاقة البصرية، وأن لغتها المرئية تقاوم التصنيف والتلخيص السهل، فهي تخلق السرد من خلال التركيب السينمائي بدلًا من تطوير الحبكة.



    وقد أثرت أكرمان في السينما الفنية الأوروبية، وكذلك السينمائية البنيوية. وتستشهد أكرمان بمايكل سنو باعتباره مصدر إلهام للبنيويّة، بخاصة فيلمه الطويل الذي يتكون من لقطة واحدة لصورة بحر على جدار علوي، مع تكبير الكاميرا ببطء. وانجذبت أكرمان إلى البلادة الملحوظة في البنيوية، لأنها ترفض اهتمام السينما السائد بالحبكة.

    تعاملت أكرمان مع استراق النظر الموجود دائمًا في الخطاب السينمائي من خلال لعب شخصية في أفلامها، وتضع نفسها على جانبي الكاميرا في وقت واحد. ويعتمد أسلوب تصويرها على تصوير الحياة العادية. وهي من خلال تشجيع المشاهدين على التحلي بالصبر بوتيرة بطيئة، تؤكد أفلامها إنسانية الحياة اليومية.

    ومجموعة من أفلام أكرمان تصور حركة الناس عبر المسافات أو استيعابهم في مساحات خانقة. وقد كتب المنسق جون ديفيز أن ديكوراتها الداخلية “تخفي العمل الجندري والعنف والسرية والعار، حيث تتكشف الصدمات الكبيرة والصغيرة مع وجود عدد قليل من الشهود إن وجد” (بتصرف عن ويكيبيديا).



    وهناك جولي داش، وهي أيضًا كاتبة ومنتجة أفلام أميركية، وتعد واحدة من الخريجين وصانعي الأفلام المعروفين باسم “LA Rebellion” أو “تمرد لوس أنجلوس”، الذي يشير إلى الطلاب الأفارقة والأميركيين الأوائل، الذين درسوا السينما في جامعة كاليفورنيا.

    كتبت داش وأخرجت الكثير من الأفلام القصيرة، وأصبح فيلمها الروائي الطويل “بنات الغبار” عام 1991 أول فيلم كامل من إخراج امرأة أميركية من أصل إفريقي يحصل على عرض مسرحي عام في الولايات المتحدة. ويعرض الفيلم قصص نساء سوداوات وصورًا مذهلة. وتم تضمين الفيلم في السجل الوطني للسينما بمكتبة الكونجرس لأهميته الثقافية والتاريخية والجمالية (بتصرف عن ويكيبيديا).

    ويوجد كذلك بربارا كوبلا (1946)، وبينلوبي سفيريز(1945)، وإيمي هيكرلينج (1954)، وبربارا ستيسند (1942)، وغيرهن.
    فتحت المخرجة الفرنسية “أليس غاي” أبواب السينما للمخرجات الأخريات بعد أن سبقتهن بالخطوة الأولى.

    حققت الإيطالية “لينا ويرتمولر” إنجازًا مهمًّا كأول مخرجة تُرَشّح لجائزة الأوسكار.

    ليني رفنشتال: سماء واحدة لا تكفي



    من المنصف القول إن المخرجة الألمانية “ليني رفنشتال- Leni Riefenstahl” (1902-2003)، من أكثر المخرجات موهبة وذكاء، رغم النقاشات والجدالات التي أثارتها لعقود من الزمن، انطلاقًا من قربها وصداقتها مع الزعيم النازي أدولف هتلر. وقد انخرطت في خدمته والدعاية له، بعد أن أنتجت له العديد من الأفلام، التي تمجده وتمجد نظامه. وانتهى مسارها بانتهاء مسار زعيمها، حيث تم القبض عليها مع سقوط ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وتمت محاكمتها وإطلاق سراحها بعد أن وجدت هيئة المحكمة أنها غير مذنبة في جرائم، ولم تلطخ يدها بالدماء.

    لكن هذه البراءة لم تشفع لها لتواصل عملها في السينما، بل اكتفت بما حققته في الماضي، وهو أمر كفيل بأن يبقى خالدًا، نظرًا للقيمة الفنية الكبرى التي تحملها تلك الأفلام التي أنجزتها. وقد اكتسبت ليني مرجعيتها وثقافتها السينمائية من اقترابها الدائم من الفنون، إذ تنحدر من عائلة ثرية، وهو الأمر الذي جعلها تكتشف معظم الفنون. ومارست في بداية حياتها الرقص وأبدعت فيه، غير أن إصابتها في الركبة أخّر قطف ثمار هذا الفن. تخلت ليني عن الرقص لتدخل عالم التمثيل، وقد كانت هذه البداية الجادة في التمثيل سنة 1926 مع المخرج أرنولد فانك (1889-1974) الذي عملت معه في العديد من الأفلام، بالإضافة إلى تعاونها ومشاركتها في أفلام أخرى. وهو الأمر الذي كرسها ممثلة مهمة في ألمانيا، قبل أن تتعرف على هتلر ويحول مسار حياتها رأسًا على عقب، إذ كلفها بإخراج الفيلم الوثائقي “انتصار الإيمان” (1933، 64 دقيقة).

    وحسب ما ذكره النقاد ومؤرخو الأحداث السينمائية، فهو أول فيلم دعائي من إخراج ليني ريفنستال، ويحكي عن المؤتمر الخامس للحزب النازي، الذي جرت أحداثه في نورمبرج في الفترة من 30 أغسطس إلى 3 سبتمبر 1933. وتنعكس الأهمية التاريخية في الفيلم من خلال ظهور أدولف هتلر فيه، برفقة إرنست روم، في مظاهر تعكس الصداقة والزمالة والانسجام بينهما. لكن هتلر بعد سنة أمر بقتله، وقد تم إتلاف جميع النسخ المعروفة من الفيلم بناءً على أوامره، واعتبرت ضائعة، حتى ظهرت نسخة في التسعينيات في المملكة المتحدة.



    وقد أرجعت بعض الكتابات أن سبب العثور على هذه النسخة الوحيدة، هو أن ليني ريفنشتال كانت تقدم بشكل مستمر في تلك السنوات محاضرات في الجامعات والأندية السينمائية، ومن الصدف أن يتم نسخ صورة من الفيلم في إحدى تلك الرحلات، ليتم العثور عليها بعد تخزينها لأكثر من 60 عامًا، وهي المطبوعة الوحيدة الباقية حسب بعض المصادر الإعلامية. وسبق لليني أن قالت إنها قبلت هذا الفيلم على مضض، نظرًا للعنصرية والدعاية فيه، لكنْ من الناحية الفنية كانت فرصة مواتية لها لتعكس ما تعلمته في التمثيل.

    أما الإخراج، فقد اكتسب مرجعيته من خلال إخراجها الفيلم الروائي “الضوء الأزرق” (1932، 86 دقيقة)، الذي تحكي من خلاله قصة خرافية بالأبيض والأسود، جرت أحداثها في إحدى القرى الجبلية، حيث يموت الشباب بمجرد أن تكتمل صورة القمر. وتعيش في هذه القرية امرأة مكروهة من الناس، بخاصة من جانب النساء، اللاتي يشتبهن في أنها ساحرة، وتعود إليها الكثير من المشاكل التي تحدث. لكن في المقابل، هي وحدها القادرة على تسلق الجبال القريبة إلى كهف مرتفع، حيث يضيء ضوء أزرق غامض عندما يكتمل القمر. لهذا بات لزامًا عليهم تسلق الجبل من أجل الوصول إلى سر الضوء الأزرق لإيقاف جرائم القتل.

    بعدها، رهنت ليني نفسها في خدمة الأفلام التي تُمجد هتلر والنظام النازي. ورغم أن هذه الأفلام تم رفض مواضيعها وتوجهها العنصري، فليس هناك من ينكر قوتها الفنية وموهبتها في الإخراج، خصوصًا ما انعكس من قيم فنية في أفلام مثل “انتصار الإرادة” (1935، 114 دقيقة)، وهو من بطولة أركان النظام النازي، وعلى رأسهم الزعيم النازي أدولف هتلر والضابطان هاينريش هيملر وفيكتور لوتز، وبعدها أنجزت أيضًا فيلم “أولمبيا” (1938، 111 دقيقة).

    واستطاعت ليني رفنيشتال أن تسير العديد من الحشود في أفلامها، انطلاقًا من خلق آليات ساعدتها على ظهور أفلامها في أحسن صورة. وقد استعملت في التصوير العديد من الكاميرات التي نصبتها في مواضع مختلفة، حتى أنها استعملت الطائرات لتصوير الحشود الكبيرة. وهو الأمر الذي عكس موهبتها الإخراجية الكبيرة، وأثبت أنها مخرجة عظيمة جدًّا. ورغم الموهبة الكبيرة وريادتها سينمائيًّا، فإنها لا تزال تثير التساؤل في العديد من النقاط، بخاصة من جانب الذين يخلطون لمستها الإخراجية والفنية، ومواقفها السياسية. وقد كُتبت المئات من المقالات والدراسات التي حاولت أن تربطها بهتلر ومشروع النازية.



    لكن حتى إن تم إثبات هذا الأمر، فإنه لا يعني مطلقًا أنها لم تكن مخرجة عظيمة قدمت في أفلامها دروسًا عميقة في السينما، على مستوى العديد من العناصر. وكأنها أعادت اختراع السينما من جديد، إذ تبحث دائمًا عن الكمال السينمائي وتزيح كل العيوب. وقد اختارت بعد المحاكمات المشهورة أن تحافظ على الحد الأدنى من الجمال، إذ دخلت تجربة جديدة، من خلال تصوير حياة سكان النوبة في السودان، عن طريق الاهتمام بطقوس حياتهم وأجسادهم وملامح وجوههم، وكأنها تعيد إحياء أمجادها السينمائية عن طريق التصوير. وهذا ما يظهر مدى تعلقها وحبها الكبير لعوالم السينما. لكنها من المؤكد أنها تحسرت على السنوات التي مضت عليها دون أن تحقق الكثير من الأفلام، لأن هناك العديد من الجهات التي رفضت التعامل معها، نظرًا للشبهات التي تحوم بماضيها. ورغم هذا، لا يمكن حجب موهبتها عن الناس مهما كانت الظروف، لتبقى مع الوقت من الأسماء المهمة التي صنعت مجد السينما النسوية.
    تبقى الألمانية “ليني رفنشتال” من أكثر المخرجات موهبة وحضورًا رغم صلتها المشبوهة بالزعيم النازي هتلر.

    أعادت ” ليني” اختراع السينما ببحثها عن الكمال الفني وإزاحة العيوب.

    أنييس فاردا: الموجة التي لا تنكسر



    كرّم مهرجان “كان” السينمائي المخرجة البلجيكية ” أنييس فاردا- Agnès Varda” (1928-2019)، ووضع صورتها على ملصقه الرسمي. وقد ارتبط اسمها بمفهوم “الموجة الجديدة”، وهو تيّار سينمائي ظهر بفرنسا في نهاية الخمسينيات وامتد حتى نهاية ستينيات القرن العشرين. وقد استطاع هذا الاتجاه السينمائي الجديد أن يحدث قطيعة شاملة مع صناعة السينما الكلاسيكية، التي تعتمد في مجملها على الاستديوهات الكبيرة ورأس المال والسيناريو الجاهز والتمثيل والنجوم.

    جاءت خيارات هذه الموجة الجديدة لتقوّض هذه المعطيات، وخلقت عناصر جديدة لها، تعتمد في مجملها على الأسلوب البصري الجديد، وعدم التقيد بالسيناريو المكتوب، والذهاب إلى القاع لمعرفة القصص الملهمة. وقد أسس هذا التيار مجموعة شباب من نقاد السينما ومحبيها، ممن بدؤوا مشوارهم السينمائي من خلال الكتابة في المجلة الرائدة “كراسات السينما”، التي أسهم في تأسيسها المنظر السينمائي أندريه بازان، الذي تصدر هذا التيار، بالإضافة إلى كل من فرنسوا تروفو، جان لوك غودار، إريك رومير، كلود شابرول، جاك ريفيت.

    وقد استطاع هؤلاء أن يخلقوا مفاهيم جديدة في السينما، وفي الوقت نفسه، ركزوا أفلامهم لمهاجمة الأفلام القديمة التي تعتمد في بنائها على الأدب الكلاسيكي، على اعتبار أن السينما شيء مختلف تمامًا في البناء والدلالة والعناصر الجمالية. ومن بين هذه الأسماء الثقيلة، التي لمعت في قائمة عظماء السينما، ظهرت أنييس فاردا لتكون من بينهم، بخاصة أنها تستند على ثقافة منوعة ساعدتها في مسارها، وانعكست إيجابًا في أفلامها السينمائية.



    هي مصورة وفنانة تشكيلية وكاتبة سيناريو ومدرّسة ومونتيرة، إلى جانب الحرف الفنية الأخرى التي مارستها. وكانت وفيّة طوال محطاتها السينمائية لتيّار “الموجة الجديدة” الذي تحمست له مع زملائها المخرجين، وهذا ما نقلته في معظم أفلامها، مثل “كليو من 5 إلى 7” (1962، 90 دقيقة)، الذي استعرضت فيه مسيرة يوم لفنانة مشهورة اسمها كليو، وهي مريضة بالسرطان تنتظر أجلها. وتتعرف على ضابط فرنسي يعمل في الجزائر، ليفتح عينيها على الكثير من الأشياء التي كانت غائبة عنها، وعن الفرنسيين، بخصوص ملف الجزائر.

    وكذلك فيلم “السعادة” (1965، 79 دقيقة)، الذي نقلت فيه هو الآخر مستويات جمالية متعددة، من خلال قصة غير متوقعة الأحداث. واتخذت مسارًا غير الذي ألفه المشاهد العادي. وتنعكس القصة من خلال الشاب “رانكوا” النجار الذي يعيش حياة سعيدة غير معقدة مع زوجته تيريز وطفليه الصغيرين. وفي أحد الأيام يلتقي إيميلي، الموظفة في مكتب البريد المحلي، لتبدأ الأحداث تتخذ مسارًا آخر تمامًا. بالإضافة إلى أفلام أخرى بارزة، كفيلم “المتشردة” (1985، 106 دقيقة)، الذي يحكي قصة اكتشاف عامل بمزرعة جثة شابة مجمدة، فتعود الأحداث في سلسلة من لمحات الماضي، لنكتشف قصتها، ومفادها أنها فتاة مشردة بلا مأوى ولا بيت، تجول في كافة اﻷرجاء.



    كما أخرجت فيلم “جاكو الآتي من نانت” (118 دقيقة، 1991)، وتروي من خلاله قصة ديمي، الفتى الملهم بمسرح العرائس والسينما، والذي يصبح حلمه هو التعرف أكثر على هذا العالم، من أجل أن يصبح جزءًا منه، ويحقق من خلاله طموحاته. والفيلم الوثائقي “الحاصدون والحاصدات” (2000، 82 دقيقة) الذي تناولت فيه مجموعة من اللقاءات عبر أنحاء فرنسا، مع الكثير من الشخصيات التي ترتبط بمجال الزراعة والحصاد، منذ اللحظة الأولى للزرعة حتى جني الثمار وتوزيعها في باريس.

    وأيضًا فيلم “لي بلاج دانييس” (2008، 112 دقيقة) وفيلم “فيزاج فيلاج” (2017، 94 دقيقة)، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الأخرى، التي أضافت من خلالها لمدونة السينما العالمية، وكتبت من خلالها اسمها بمداد السينما الذي لا ينضب. وقد تنوعت هذه الأعمال بين الوثائقي والروائي، القصير والطويل. وحصلت في 2017 على جائزة الأوسكار الشرفية على مجمل أعمالها. وعُرض آخر أفلامها “فاردا باي آنييس” (2019، 115 دقيقة) في مهرجان برلين السينمائي، وحصل على جائزة شرفية.

    ولقد صرحت أنييس فاردا في تلك السنة بأنها بعد عرض الفيلم ستتوقف عن التصريحات وإجراء المقابلات الصحفية، لأنها اعتقدت أنها قالت كل شيء في الفيلم. كما قالت كلمات مؤثرة جدًّا كانت أشبه بالوداع، ومن بين ما قالته: “يجب أن أتوقف عن الحديث عن نفسي، وهذا كل شيء، يجب أن أستعد للمغادرة، لأقول وداعًا. إنها مجرد مسألة لإيجاد السلام الضروري”. وأضافت في تأثر واضح: “لقد عقدت الكثير من المؤتمرات في كل مكان، في الجامعات، ومدارس السينما، والمهرجانات، ونوادي الأفلام الصغيرة، وفي جميع الأمكنة. وفكرت في نفسي، حيث يجب أن أصنع الآن فيلمًا ليكون وسيلة للتوديع، لأنني لم أعد أرغب في الحديث عن أفلامي”. وقد رحلت بعدها بأسابيع قليلة، تاركة خلفها إرثًا سينمائيًّا هائلًا، أضاء نقاطًا مظلمة لدى أجيال عدة من السينمائيين، في فرنسا والعالم.
    اقترنت “أنييس فاردا” بمفاهيم الموجة السينمائية الجديدة التي أحدثت قطيعة مع السينما الكلاسيكية.

    من مميزات المخرجة البلجيكية “فاردا” جمعها بين الإخراج والتصوير والتشكيل وكتابة السيناريو والمونتاج.

    تازوكو ساكاني: قبلة في جبين السينما



    رغم الذكورية المفرطة، وتحكيم العادات والتقاليد التي تقيد المرأة أحيانًا، فإن اليابان استطاعت أن تنجب المخرجة الرائدة “تازوكو ساكاني – Tazuko Sakane” (1975-1904)، التي برزت في مجتمع رجالي، وقدرت أن ترفع صوتها السينمائي عاليًا لتقول “هأنذا”. وقد تحقق ذلك من خلال ما أنتجته من أفلام شكّلت منعطفًا كبيرًا في تاريخ السينما اليابانية، التي أفرزت مخرجين عالميين كبارًا.

    ورغم المحاولات المستمرة لتحييد ” تازوكو” عن الساحة، وتقويض ما تحاول إنجازه من أعمال، فإنها كانت تملك إرادة من حديد، لا تفشل مطلقًا، وتصنع من محاولات صدها طاقة تدفعها للأمام، لتكون أول مخرجة في اليابان، بداية من سنة 1936. وقد حافظت على هذا اللقب كمخرجة وحيدة حتى 1953، حيث اقتحمت الممثلة تناكا كينويو مجال الإخراج. وتدرجت تازوكو في العديد من المراحل في صناعة السينما، قبل أن تدخل عالم الإخراج، حيث عملت كمركبة ومساعدة وكاتبة سيناريو على العشرات من الأفلام، بخاصة مع المخرج ميزجوتشي الذي دربها جيدًا، قبل أن تستقل بذاتها.

    ولقد تقدمت بطلب من أجل الإخراج السينمائي إلى الاستديو الذي تعمل فيه، لكنه رفض هذا الطلب بشدة. ولم تيأس، حتى وافق الاستوديو على طلبها، لكنها لم تكن تملك صلاحية اختيار الموضوع لفيلمها، لتخرج أول أفلامها بعنوان “New Year’s Finery”. وهاجمها معظم نقاد تلك الفترة من الرجال، بحجة أنه تقليد أعمى لأعمال المخرج ميزجوتشي. لكنها واصلت مشوارها غير آبهة بهم، بعد أن رحلت لمدينة أخرى.

    لكن الحظ العاثر صادفها من جديد، إذ اندلعت الحرب بين الصين واليابان، وهو الأمر الذي جعل الرقابة تراقب كل الأفلام عن كثب، لتبدأ بعده رحلة الأفلام الوثائقية التي برعت فيها. ولقد ضاع الكثير من أفلامها، نتيجة الإهمال والتخريب، كونها امرأة تفوقت على الكثير من المخرجين الرجال.

    سأصنع فيلمي



    نشر سيزاري جان ستروسيفيتش مؤخرا مقالا في “طوكيو وييكندر” حول هذه المخرجة التي واجهت تحديات جمة، نقطف منه التالي:” “سأصنع فيلمي! لهذا السبب تجرأت لدخول عالم السينما لأري الرجال لا للعمل معهم!”. كتبت تازوكو هذه الكلمات في عام 1936 عندما اعتقدت أنها على وشك تغيير عالم السينما اليابانية إلى الأبد. ولكن حياتها تحولت تقريبًا إلى عكس ما كانت تأمله.

    وُلدت تازوكو في كيوتو لأسرة ميسورة، واتسمت حياتها المبكرة بدرجة عالية من الحرية نادرًا ما تتمتع بها النساء الأخريات. على سبيل المثال، شجعها والدها على الذهاب إلى السينما بقدر ما تريد وتنمية اهتمامها بالفن. حتى أنها درست الأدب الإنجليزي لفترة وجيزة في الكلية قبل أن تجبرها والدتها على الاستقالة وترتب لها الزواج… ساعدها والدها في تعيينها كمساعد لـ كينجي ميزوغوتشي، أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في تاريخ السينما اليابانية. كان معروفًا بقصصه التي تصور بطلات معقدات يتحدىن الأعراف الاجتماعية ويقاتلن بمرونة ضد مجتمع أبوي يحاول سحقهن. سرعان ما طور ميزوغوتشي وتازوكو علاقة وأصبحت الشابة تلميذة له. عملت كمحررة في أفلامه وساعدته في الإخراج في بعض الأحيان. ودفع ميزوغوتشي عدد من الاستوديوهات للسماح لتازوكي بصنع أفلامها الخاصة.

    وبعد سنوات من التهميش بسبب جنسها، انتقلت تازوكو إلى مانشوكو، الدولة العميلة التي تم إنشاؤها بعد الغزو الياباني لمنشوريا، لإنتاج أفلام “تعليمية” تشجع اليابانيين على الانتقال إلى الغرب. أحد هذه الأفلام ، عرائس الحدود (1943) ، هو الجزء الوحيد الباقي من تازوكو. على الرغم من أن هدفه كان حمل النساء اليابانيات على القدوم إلى مانشوكو والزواج من مزارعين، إلا أن هناك فنًا حقيقيًا للفيلم ، مثل إيقاعه المتقن الصنع أو استخدامه للرموز.

    ومع ذلك، من الصعب تجاوز حقيقة أن الفيلم كان يروج للاستعمار. زعمت تازوكو نفسها أنه ليس لديها ميول سياسية، لكن كان هذا عذر سيئ. في دفاعها ، بعد سقوط مانشوكو، بقيت تازوكو في الصين للمساعدة في تدريب جيل جديد من صانعي الأفلام الصينيين”.
    تحدَّت “تازوكو ساكاني” بإرادة حديدية الذكورية والتقاليد المقيّدة للمرأة في اليابان.

    ضاعت مجموعة كبيرة من أفلام “تازوكو” بسبب الإهمال والتخريب.

    ساعدها والدها في تعيينها كمساعد لـميزوغوتشي، أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في تاريخ السينما اليابانية. كان معروفًا بقصصه التي تصور بطلات معقدات يتحدىن الأعراف الاجتماعية ويقاتلن بمرونة ضد مجتمع أبوي يحاول سحقهن.

    كليو تشاو: الآسيوية التي أضاءت سماء هوليوود



    استطاعت المخرجة الصينية الشابة كليو تشاو (40 سنة) أن تسطع في سماء السينما بشكل مبكر، وتقتحم جدران هوليوود العالية بكل ثقة. جاء ذلك، بعد أن درست السينما وفنونها في إحدى جامعات نيويورك العريقة، وشربت منطلقات هذا الفن وأساسياته من المنابع، حيث جاءت من الصين عطشى، تتأبط حلمًا ربما لو حكت عنه لأقرب الناس لوصفها بالجنون. لكن إرادتها كانت أمتن، وآمالها أقوى. لهذا حققت أحلامها بشكل مبكر جدًّا، وحصدت أثمن الجوائز وأغلاها وأقربها لقلب كل صانع سينما في العالم، عن فيلمها “نومادلاند” الذي حصد أوسكار أفضل فيلم، وأوسكار أفضل مخرج. كما فازت ممثلته الرئيسية فرانسيس مكدورماند بأوسكار أحسن ممثلة، بالإضافة إلى جائزة غولدن غلوب لأفضل مخرج وأفضل فيلم عن العمل نفسه. وقبلها جائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا العريق.

    وقد قامت كليو تشاو بالعديد من المهام في الفيلم، بالإضافة إلى قيامها بالإخراج، مثل الكتابة والتحرير والمشاركة في الإنتاج. ويروي فيلم “نومادلاند” (107 دقيقة، 2020) الذي يعني “أرض الرحل”، قصة امرأة في الستينيات من عمرها، فقدت كل شيء في فترة الكساد العظيم، لتشرع بعدها في رحلة عبر الغرب الأميركي لتعيش مثل الرحالة والمسافرين في العصر الحديث.



    ومن خلال جوائز الأوسكار المتحصلة عليها، تكون كليو تشاو أول امرأة آسيوية والثانية على الإطلاق تفوز بجائزة أوسكار أفضل مخرج، بعد المخرجة كاثرين بجلو التي كانت أول امرأة تحصل على جائزة أوسكار أفضل مخرج، سنة 2010، بعد 80 سنة كاملة من انطلاق جوائز هذا المحفل السينمائي المهم، عن فيلمها “خزانة الألم”. من هنا، كانت فرحة المخرجة كليو تشاو مضاعفة، لأنه إنجاز نادر جدًّا، في ظل هيمنة ذكورية واضحة في مجال صناعة السينما، ليس في أميركا وحدها، بل في العالم أجمع.

    لم يكن فيلم “نومادلاند” هو العمل الأول الذي قامت به المخرجة الصينية كليو تشاو، بل سبقها العديد من الأعمال والمحاولات والتتويجات المهمة عن أفلام أخرى، مثل فيلمها الطويل الأول “أغانٍ علمها لي إخوتي” (98 دقيقة، 2015). وقد ساهم في إنتاج هذا الفيلم الممثل الأميركي ذو الأصول الإفريقية فروست ووكر، الذي آمن به وآمن أكثر بالمخرجة. وقد حصد الفيلم جائزة الروح المستقلة لأفضل فيلم، بالإضافة إلى الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي. وتم عرضه لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي.

    كما أخرجت بعد سنتين فيلمًا روائيًّا طويلًا، هو الثاني في تجربتها، بعنوان “الراكب” (104 دقيقة، 2017). وقد لفت هو الآخر نظر النقاد والمهتمين بالسينما، وحصل على العديد من الجوائز، بما في ذلك الترشيحات لجائزة الروح المستقلة لأفضل فيلم وأفضل مخرج. ويروي الفيلم معاناة راعي بقر شاب في الغرب الأميركي بعد نجاته من إصابة مميتة في الرأس كادت تقضي عليه. لهذا يتعهد بالبحث عن هويته الجديدة، في محاولة منه لاكتشاف ذاته المتشظية جراء المنعرج الحاسم الذي عاشه. ويبدأ البحث عما يعنيه كونه رجلًا يحيا في قلب أراضي أميركا الغربية الممتدة.



    وقبل تجارب الأفلام الروائية الطويلة، أخرجت كليو تشاو العديد من الأفلام القصيرة، من بينها فيلم “بنات” الذي عرض لأول مرة في مهرجان كليرمون فيران، أحد أعرق مهرجانات الأفلام القصيرة في العالم، كما فاز بجائزة أفضل فيلم قصير مباشر للطلاب في مهرجان بالم سبرينغز الدولي القصير 2010، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان Cinequest السينمائي 2010.

    كما دخلت كليو تشاو تجربة إخراجية جديدة ومختلفة كليًّا عن الأعمال الأولى، من خلال فيلم “الأبديون” (157 دقيقة) الذي تم عرضه في نهاية سنة 2021، ودخلت به عوالم الخيال والإثارة التي يوفرها عالم “مارفل” السينمائي. وأشركت معها العديد من النجوم، مثل أنجلي جولي وغيرها. وتدور أحداث الفيلم حول “الأبديين”، وهم مجموعة من المخلوقات الفضائية غير الفانية التي تعيش وسط البشر على الأرض، ولديهم القدرة على حماية الأرض والدفاع عنها من الخطر الخارجي.
    جاءت كليو تشاو من الصين تتأبط حلمًا ربما لو حكت عنه لأقرب الناس لوصفها بالجنون. لكن إرادتها كانت أمتن، وآمالها أقوى. لهذا حققت أحلامها بشكل مبكر جدًّا، وحصدت أثمن الجوائز وأغلاها وأقربها لقلب كل صانع سينما في العالم.

    دفعت الموهبة الكبيرة والدراسة التخصصية المخرجة الصينية إلى اقتحام هوليوود بأفلام لافتة.

    تعد “تشاو” أول امرأة آسيوية والثانية على الإطلاق تفوز بجائزة أوسكار أفضل مخرج.
يعمل...
X