ستانلي كوبريك أيقونة الإخراج العالمية
في الذكرى الخمسين لأوديسة الفضاء: كيف غيّر ستانلي كوبريك مجرى السينما
جو تاوند
قبل عام واحد فقط من هبوط أول إنسان لأول مرة على سطح القمر، ابتكر ستانلي كوبريك تصوّرًا ورؤية للفضاء تركا أثرهما البالغ على المخيّلة الشعبية وشكلاها لعقود من الزمن. عُرض فيلمه الملحميّ “2001: أوديسة الفضاء”، المندرج ضمن فئة الخيال العلمي، للمرة الأولى في واشنطن العاصمة في الثاني من نيسان/أبريل عام 1968، فنال استحسانًا كبيرًا من الجمهور والنقاد امتدّ أثره إلى اليوم. يقول نيلز دانييل بيلير وهو أحد أمناء المعرض الجديد في المتحف الألماني للفنون في فرانكفورت الذي احتفل بالذكرى الخمسين للفيلم: “لقد ألهم الفيلم أجيالًا عديدة من الفنانين وما زال”. وأضاف أنّ الفيلم “لم يكن مصدرًا لإلهام العديد من الأفلام الأخرى والمسلسلات التلفزيونية والفيديوهات الموسيقية والإعلانات فحسب، بل أثّر أيضًا في أنواع مختلفة من الآداب والفنون المتنوّعة مثل المجلات الهزلية والقصص المصورة والرسم وفن التصميم والهندسة المعمارية”.
لم يكن مصدرًا لإلهام العديد من الأفلام الأخرى والمسلسلات التلفزيونية والفيديوهات الموسيقية والإعلانات فحسب، بل أثّر أيضًا في أنواع مختلفة من الآداب والفنون المتنوّعة مثل المجلات الهزلية والقصص المصورة والرسم وفن التصميم والهندسة المعمارية.
صنع كوبريك ثلاثة عشر فيلمًا فقط خلال مسيرته المهنية التي امتدّت لما يقارب نصف قرن. إلا أنّ أفلامه –كما يقول بيلير- على قلّتها، كانت تعكس مجموعة ثريّة من الاهتمامات التي “قلّما عرفها التاريخ السينمائي؛ فقد تضمنت أنواعًا أدبية وقصصًا متنوّعة لامست العاطفة البشرية وتطرقت لجوهر المواجهات والالتباسات الإنسانية”. كما أن أفلامه تميّزت بقدرتها على سبر أغوار الجانب المظلم للعقل البشري عبر تقنيات سينمائية مبتكرة، على غرار اللقطات الهندسيّة الطويلة التي كان يعتمدها للإحاطة بالشخصيات التي كثيرًا ما كان يدفع بها نحو هاوية الانهيار النفسي بعد مصائر تراجيدية مختلفة.
كما أن أفلامه تميّزت بقدرتها على سبر أغوار الجانب المظلم للعقل البشري عبر تقنيات سينمائية مبتكرة.
وبحسب ما قاله دونالد أبريخت الأمين المشارك لمعرض أقيم في متحف مدينة نيويورك بعنوان: “صور ستانلي كوبريك الفوتوغرافية بعيون مختلفة”، الذي عَرَضَ أكثر من 120 صورة فوتوغرافية التقطها في بداياته الفنية.. أمضى كوبريك خمسة أعوام من مرحلة المراهقة كمصوّر صحفيّ لدى مجلة “لوك”، وهي مطبوعة أميركية لم يعد لها وجود اليوم، كانت تعرض على صفحاتها مشاهدَ من الحياة اليوميّة. ومن تلك البداية، تعلّم كوبريك كيفيّة التقاط تفاصيل الدراما في العلاقات الإنسانية. ويضيف أبريخت: “لقد تعلّم كوبريك في تلك المجلّة كيفية تأطير اللقطات وإضاءتها وتوليفها. ولطالما عكست صوره بحرفية بالغة صلابة التفاعل الإنساني والحياة البشرية آنذاك، وهي ما تزال مثيرة للاهتمام حتى يومنا هذا”.
التقط كوبريك أوائل صوره الفوتوغرافية عندما كان في السابعة عشرة من عمره فقط، إلّا أنّها مع ذلك، كانت تتنبأ بموضوعاته وأساليبه البصرية التي ستميّز أعماله السينمائية بعد سنوات. ويضيف أبريخت: “لقد تجسدت في صوره باكرا الرؤية القاتمة والتلصّصية للعالم التي ستتجلّى لاحقًا [في أعماله]”. ستلاحظ ذلك مثلًا في التقاطاته الخارجية للأزواج والعشاق ممن يتبادلون القبلات على مقاعد الحدائق العامة، أو النائمين في القطار أمام الركاب. تضّمنت صوره أيضًا محاولته المستمرة لإيجاد المزيد من الأماكن المحرّمة أو المحظور تصويرها. ويعلّق أبريخت بقوله: “عندما يتوجّه كوبريك إلى ملهى كوباكابانا الليلي فإنه لم يكن يصوّر فتيات الاستعراض فحسب، بل كان يحرص على تصوير الجهة الأخرى، حيث تفاصيل مجموعة الرجال الواقفين في الأمام لمشاهدة أولئك الفتيات”.
لم يتردد كوبريك يومًا في عرضه للقضايا المثيرة للجدل، ولم يبتعد عنها طيله مسيرته. إذ تصوّرُ أفلام مثل “البرتقالة الآلية” 1971 و”البريق” 1980 عنفًا مفرطًا، بينما تعالج أفلام أخرى مثل “لوليتا” 1962، و”عيون مغلقة على اتساعها” 1990 قضايا الدوافع الجنسية المظلمة. ويقول جيمس لافيل أمين معرض أحلام اليقظة مع ستانلي كوبريك الذي أقيم عام 2016 في بيت سومرسيت أنّ: “ما يميّز كوبريك هو قدرته على تناول المواضيع الشائكة بطريقة جميلة وحالمة”.
وقد تضمّن ذلك المعرض أعمالًا لفنانين وصانعي أفلام وموسيقيين معاصرين تلقّوا إلهامهم من المخرج الأكثر تأثيرا في تاريخ السينما، وفي تلك الأعمال كانت التركيبة السينمائية التي صممها دووغ فوستر لتحريض ردّ غريزي لدى المشاهد مماثلٍ لسلسلة مشاهد “بوابة النجوم” في فيلم “2001: أوديسة الفضاء”. ويعلّق لافيل على عبقرية كوبريك بقوله: “إنّ الطريقة التي مزج فيها المؤثرات البصرية مع استخداماته الخاصة للصوت تُظهر مهارة لا مثيل لها، لقد كان يوسّع على الدوام من مخيلتنا ومشاعرنا كمشاهدين ونقاد”.
إنّ ما يميّز كوبريك عن غيره بالنسبة للافيل هو فهمه العميق للتاريخ الكلاسيكي المتعلق بالثقافة المرئية، ممزوجًا باهتمامه بكل ما هو حديث. ويضيف: “لقد كان كوبريك خبيرًا في التقاط الصور الكلاسيكية وتجديدها ضمن أفلامه، كما أنه تمكن، من خلال ذلك، من صنع تقنية حديثة تمثلت في ابتكار وضعيات جديدة للتصوير والإضاءة، وفي تخيّل تقنيات مستقبلية كما حدث في فيلم “2001: أوديسة الفضاء“.
تكمن أهميّة كوبريك كفنّان في أنّ تأثيره يمتدّ إلى خارج نطاق الأفلام ليلامس الخيال الثقافي واسع النطاق. يقول أبريخت: “تتميّز أفلامه بالرؤية الملفتة للانتباه والوضوح العميق، فجميع أعماله مركّزة ومميّزة للغاية. عندما يتناول كوبريك موضوعًا ما فهو يقدّمه بصورة كاملة وخلّاقة”. ويضيف: “إنّ أفكاره لا تزال تؤثّر على الطريقة التي ينظر بها الناس للعالم من حولهم، ولا تزال موضوعاته تحتل مقدّمة النقاشات السياسية والاجتماعية اليوم”.
إنّ أفكاره لا تزال تؤثّر على الطريقة التي ينظر بها الناس للعالم من حولهم، ولا تزال موضوعاته تحتل مقدّمة النقاشات السياسية والاجتماعية اليوم.
عبقريّ السينما المهووس ستانلي كوبريك يظهر بصورة أكثر إنسانية
آندرو بولفر
لا تزال شهرة المخرج ستانلي كوبريك (26 يوليو 1928- 7 مارس 1999) ونسبة مشاهداته في ازدياد حتى بعد وفاته بعشرين عامًا، وخاصة في البلد الذي عاش فيه الأعوام الـ37 الأخيرة من عمره. خصّصت سينما “المسرح الوطني للأفلام” بلندن، معرضًا لأعماله، إضافة إلى إعادة عرض أكثر أفلامه شهرة بما فيها: “2001: أوديسة الفضاء”، و”دكتور سترينجلوف”، و”برتقالة آلية”، كما وصل إلى متحف التصميم بلندن معرض متجوّل مستوحىً من أرشيفه الغني بعد مروره بعدة محطات في فرانكفورت ومكسيكو سيتي وسيؤول.
وحمل المعرض اسمًا بسيطًا: “ستانلي كوبريك: المعرض”، وهو شهادة حيّة على مهارة كوبريك في إجراء بحوثه المعمقة عن شخصياته، وعلى مثابرته لابتكار الأدوات الفنية البراقة لاستخدامها كتقنيات متجددة في أفلامه، وعلى إصراره الدائم لدفع المبدعين من حوله لاتباع إرادته. ويمكنك أن تجد في هذا المعرض رسائله إلى “سول باس” وهو يلحّ عليه أن يصمم نسخًا جديدة من الملصق الإعلاني لفيلم “البريق”، وفهرس بطاقات لكل يوم من حياة “نابليون” ضمن تحضيره لفيلم تخلى عنه قبل أن يصل إلى مرحلة الانتاج، إضافة إلى السيارة رقم 16، وهي السيارة ذات اللون البرتقالي دون أبواب التي لم يُصنع منها إلا ثلاث قطع فقط، ولعبت دور “دورانغو 95” في فيلم “برتقالة آلية”.
لم ينتج أي صانع أفلام آخر روائع مماثلة في مجالات متنوعة كهذه، تضمنت أفلام الحروب والسخرية السياسية والخيال العلمي والرعب والتوليفات الأدبية. إضافة إلى ذلك، تبرز قدرته الفذة التي لا تخطئ، على خلق لحظات إبداعية من ثقافة البوب في كل فيلم من أفلامه تقريبًا؛ من “أنا سبارتاكس” إلى “ها هو جوني!”. يقول مخرج متحف التصميم وأمين المعرض دييان سودجيك: “لقد صنع كل هذه الأفلام في مرحلة ما قبل العصر الرقمي باستخدام تقنيات متناظرة طوّعها لخلق تأثير رائع. فقد استخدم الصوت والموسيقى والتمثيل وفن العمارة والتصميم لخلق عوالم حقيقيّة للغاية. وبحسب عملنا في متحف للتصميم نجد هذا الأمر مدهشًا. لذا سنحاول أن نُظهر كيف حقق هذا السحر مع الحرص على أن نستحضره في الوقت نفسه”.
ولد كوبريك في نيويورك لعائلة من اليهود المهاجرين من أوروبا الشرقية، وحوّل اهتمامه بالتصوير الذي نشأ في طفولته إلى مهنة أولية في التصوير الصحفيّ، تطورت فيما بعد لتغدو هوسًا بصناعة الأفلام. لم تكن لديه صلات ضمن هذا المجال، فكان عليه أن يستدين المال من الأصدقاء والأقارب لتمويل أعماله الأولى كفيلم “الخوف والرغبة” 1953، الذي رأى فيه عملًا مخجلًا فقام بإخفائه بنجاح. لكن بعد فيلم الملاكمة المثير “قبلة القاتل” 1955، والفيلم الذكي والمعقّد “القتل” 1956، اقتحم كوبريك هوليوود في فيلم “دروب المجد” 1957 الذي يصوّر الحرب العالمية الأولى من منطلق اجتماعي ورؤية ضد الحرب. وبعد تجربة شائكة عمل خلالها على الفيلم الملحمي “سبارتاكوس” ذي الميزانية الضخمة، غادر كوبريك هوليوود إلى المملكة المتحدة التي أصبحت مقرًّا له، مكملًا بذلك سلسلة من الأفلام متزايدة الطموح وذات التأثير الكبير، فقد صنع في الستينات فيلم “لوليتا” وفيلم “دكتور سترينجلوف” وفيلم “2001: أوديسة الفضاء”، وفي السبعينات أنتج فيلم “برتقالة آلية” و”باري ليندون”، وفي الثمانينات أطلق فلمي “البريق” و”فل ميتال جاكيت”. لكن إنتاجه بدأ يتباطأ في التسعينات فقد قدّم فيلمه الوحيد والأخير في تلك الفترة وهو “عيون مغلقة على اتساعها”.
كانت شهرة كوبريك كمخرج عبقري في أمان تامّ خلال حياته رغم فوزه بجائزة أوسكار واحدة فقط لأفضل مؤثرات بصرية لفيلم “2001: أوديسة الفضاء”. وفي سنوات حياته الأخيرة بذل قصارى جهده لتجنب وسائل الإعلام، في وقت كانت تعزّز فيه الصحافة فكرة كونه شخصًا انعزاليًا. لكن، وفي الأعوام التي تلت وفاته برزت أدلة ألقت الكثير من الضوء على أساليب عمله، إضافة إلى إظهارها للعديد من الجوانب الإنسانية له. إنّ أكثر ما في المعرض مستوحى من الأرشيف الذي احتفظ به كوبريك بنفسه في منزل تشايلدويكبيري، بالقرب من سان ألبانز، وكان اشتراه في عام 1978 وعاش فيه مع عائلته.
وأوّل مرة حُرّرت فيها هذه الأرشيفات كانت بعد وفاته، وبوجود الصحفي جون رونسون، وهو أول الصحفيين الذين سُمح لهم بالعبث في أكوام كبيرة من إرث كوبريك. نُقلت غالبية المواد المؤرشفة منذ ذلك الوقت إلى منشأة للتخزين في جامعة الفنون في لندن. وأنشأ نسيب كوبريك “جان هارلان” ملفًا تبجيليًا له بعنوان “حياة في صور”، كما كان هناك توثيق لبداياته عن طريق الفيلم الوثائقي “العامل بالأفلام” الذي يُظهر أيضا ليون فيتالي أحد مساعدي كوبريك. عاشت كاتارينا ابنة كوبريك من زوجته الثالثة كريستيان مع أمها في تشايلدويكبيري. تقول كاتارينا: “صحيح أنّ أبي لم يكن يرمي أيّ شيء من مقتنياته، لكن من الظلم أن يقال إنه غريب الأطوار. لقد كان شغوفًا محبًّا لعمله… ولم يكن هوسه مختلفًا عن هوس أي شخص يعيش من أجل عمله الذي يحب ويسعى لإتقانه بأكبر مثالية ممكنة”. وتضيف أن ردة الفعل بعد وفاته في عام 1999 كانت “مريعة بالنسبة لعائلته”؛ إذ امتلأت وسائل الإعلام “بالأكاذيب التافهة، واستمرت تجترّ قصصًا قديمة لم تكن صحيحة من الأساس”.
وتضيف أيضا: “لقد كان كوبريك في حقيقة الأمر وببساطة رجلًا يتمتع بحياة منظمة. فقد كان لديه منزل يستطيع أن يفعل فيه ما يشاء، وكان بإمكانه النوم في سريره ليلًا كأي إنسان آخر، وكان إذا رغب في رؤية أحد ما، دعاه لزيارته. ولم يكن وجهه معروفًا، فكان باستطاعته الذهاب إلى محلات مارك وسبنسر حين يريد”. لقد كانت العائلة مهمة بالنسبة له، وتؤكد ابنته أنه كان يرسل بجوائزه إلى والدته. كما شهدت طاولة العشاء مع العائلة (وهي الطاولة من فلم البريق طبعًا) العديد من النقاشات حول مشاريعه المقبلة.. “ولكم دُهشنا حين أخبرنا أنه كان قد طلب من ستيفن سبيلبيرغ أن يخرج فيلم إي آي: الذكاء الاصطناعي”. وتقول أيضًا إن كريستيان لم تكن سعيدة حين تخلّى عن فيلم “الهولوكوست أوراق آريان” في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وذلك بعد أن أطلق سبيلبيرغ فيلمه “قائمة شندلر”، إذ سبب له العمل على الفيلم بعد ذلك “كآبة شديدة”.
من الأسباب الهامة وراء ديمومة كوبريك كفنان استعدادُ الآخرين دائمًا للاحتفاء بعمله. ومن مظاهر ذلك الاحتفاء، أن أصبح كريستوفر نولان داعمًا بارزًا لفيلم “2001: أوديسة الفضاء”، وذلك بإنتاجه لملحمة الفضاء الوجودية الخاصة به في فيلم “بين النجوم” الذي خرج للنور عام 2014، وقاد عرض التقديم لنسخة مستعادة من فيلم “2001: أوديسة الفضاء” لكوبريك في مهرجان كان السينمائي في الذكرى السنوية الخمسين للفيلم. كما أطلق الفيلم الوثائقي “الغرفة 237” موجة جديدة من الاهتمام بفيلم “البريق”، فقد توسّع الفيلم الوثائقي في تناول نظريات عديدة حول معاني فيلم كوبريك. وأصبح فيلم “برتقالة آلية” رمزًا هامًا خلال مرحلة البوب البريطانية في منتصف التسعينات من القرن الماضي، فقد قلّد ديمون آلبارن آليكس ديلارج في فيديو موسيقي (أخرجه جوناثان جليزر) لأغنية ذا يونيفيرسل. وقام سبيلبيرغ بخطوة هي أسمى فعل يعبر عن شغف معجب بكوبريك، حين أصدر فيلم “إي آي: الذكاء الاصطناعي” عام 2001، بعد عامين من وفاة كوبريك.
وهذا يعكس مدى الإنجاز والتنوع المبهر لأعمال كوبريك، إذ ما زال من الصعب فهمه تمامًا كفنان. يعترف سادجيك أنه أصبح “مهووسًا” بكوبريك فيقول: “لقلّة قليلة من صنّاع الأفلام في القرن العشرين ذاك التنوع والمصداقية اللذين كانا لدى ستانلي كوبريك. فقد كان كلّ فيلم من أفلامه مختلفًا عن الآخر، ولكلّ فيلم عالم متخيّل أحاط كوبريك بجميع جوانبه بفضل قدرة تحكّمه الإبداعية. وهذا أمرٌ استثنائي ومميّز للغاية”.
أكمل كوبريك سلسلة من الأفلام المستقلة منخفضة التكلفة مثل فيلم “القتل”، قبل أن يقتحم هوليوود في عام 1957 بالفيلم الحربي من بطولة كيرك دوغلاس “دروب المجد”. وبعد خيبة أمله من هوليوود في أعقاب فيلم سبارتاكوس، نقل مقرّ عمله إلى المملكة المتحدة وبدأ بصناعة سلسلة من روائع السينما المبتكرة فنيًا التي لقيت استحسان نقاد السينما والمشاهدين، ومنها فيلم “2001: أوديسة الفضاء”، وفيلم “برتقالة آلية”، وفيلم “البريق”. وتوفي بعد ستة أيام من تسليمه لآخر أفلامه، بعنوان “عيون مغلقة على اتساعها”.
من أقواله: “كلّ من نال شرف إخراج فيلم ما، يعرف تمامًا أن الأمر يشبه محاولة كتابة رواية “الحرب والسلام” داخل لعبة تصادم السيارات في مدينة الملاهي، وعندما تستطيع أخيرًا النجاح في ذلك، فلن يكون هناك شيء في الحياة يعادل شعور تلك اللحظة”.
مما قيل فيه: “يبرهن كوبريك في ما يقارب عشرة أفلام على تنوّعه المتّسم بالجسارة الملحوظة، وهو بذلك يلهمنا على الدوام أن ندرك أن باستطاعتنا أن نكون متنوعين شكلًا ومضمونًا دون أن نفقد شيئا من رؤيتنا أو أسلوبنا الخاص”.. مايك ليه.
صُوّر كوبريك شخصًا منعزلًا ومبغضًا للبشر، ولكن هناك آراء جديدة، تُظهره رجل عائلة كان ببساطة شغوفًا بعمله.
لم ينتج أي صانع أفلام آخر روائع مماثلة في مجالات متنوعة كهذه، تضمنت أفلام الحروب والسخرية السياسية والخيال العلمي والرعب والتوليفات الأدبية.
تقول ابنته كاترينا: صحيح أنّ أبي لم يكن يرمي أيّ شيء من مقتنياته، لكن من الظلم أن يقال إنه غريب الأطوار. لقد كان شغوفًا محبًّا لعمله… ولم يكن هوسه مختلفًا عن هوس أي شخص يعيش من أجل عمله الذي يحب ويسعى لإتقانه بأكبر مثالية ممكنة”.
كيف لا يزال ستانلي كوبريك مؤثرًا في فناني اليوم وصانعي الأفلام والموسيقيين؟لم ينتج أي صانع أفلام آخر روائع مماثلة في مجالات متنوعة كهذه، تضمنت أفلام الحروب والسخرية السياسية والخيال العلمي والرعب والتوليفات الأدبية.
تقول ابنته كاترينا: صحيح أنّ أبي لم يكن يرمي أيّ شيء من مقتنياته، لكن من الظلم أن يقال إنه غريب الأطوار. لقد كان شغوفًا محبًّا لعمله… ولم يكن هوسه مختلفًا عن هوس أي شخص يعيش من أجل عمله الذي يحب ويسعى لإتقانه بأكبر مثالية ممكنة”.
كيفن هولمز
حين نذكر صانع الأفلام ستانلي كوبريك، يتبادر إلى ذهن كلٍّ منّا فيلمه المفضل أو لقطته الخاصة أو شخصيته المحبّبة أو سطره الحواري المميز. إنه مخرج أدرك سحرَ أعماله كلٌّ من هواة الأفلام ومتابعيها والفنانين والمصممين والطلاب والمصوّرين الفوتوغرافيين والجزّارين والخبّازين وصانعي أعواد الشمع. ولعلّ في آخر ثلاثة ذكرتهم بعض المبالغة، لكن المقصود بذلك أنّ تأثيره امتد بجدارة عبر مجموعة متنوعة من المجالات والمجموعات الاجتماعية والثقافات المختلفة. وباستطاعتك أن تلمس وتشاهد تأثيره في المجالات كافّة بدءًا من الأفلام السينمائية، مرورًا بألعاب الفيديو، وليس انتهاءً بالموسيقى والتصميم الداخلي.
يأتي معرض أحلام اليقظة مع ستانلي كوبريك في بيت سومرست في لندن بعد خمس سنوات من التحضير له من قِبل الموسيقي والمؤسس المشارك لـ Mo’Wax جيمس لافيل وأمين المعرض جيمس بوتنيم، فقد حاول المعرض أن يكتشف ويستعرض جاذبية أعمال كوبريك وإرثه الكبيرين، مقدمًا مجموعة كبيرة من الأعمال التي قام بها فنانون وجدوا الإلهام في شخصية المخرج وأعماله بطريقة أو بأخرى.
بمجرد أن تبدأ التفكير بمساحة المعرض، ستلاحظ أنه بحدّ ذاته عملٌ مستوحى من أحد أعمال كوبريك، إذ يحتوي على ستَّ عشرةَ غرفة منبثقة من ردهات طويلة. وعلى الأرض سترى النمط السداسي المميّز المأخوذ من بساط فندق الأطلال في فيلم “البريق”. وقد أعاد صنعه الفنانان آدم بروميبرغ وأليفر تشانارين في محاولة لإغراء الزائر ودفعه إلى الدخول والاكتشاف والضياع في سحر المكان، واللقاء ببعض التوائم المرعبة.
ومن بين الأعمال المعروضة توجد أعمال مستقلة لقائمة طويلة تحوي أكثر من ستين فنانًا، وتتضمن أسماءَ مثل مارك كوين، ومات كوليشو، وآنيش كابور، ودوغ إيتكن، وتوماس بانغالتر الموسيقي البارز في دافت بانك، وسامانتا مورتون، وسارة لوكاس، وفنانا الشوارع فوتشورا وإنفيدير، وحتى زوجة كوبريك كريستسان كوبريك التي كان عملها عبارة عن لوحة لزوجها يظهر فيها مستلقيا في حديقتهم في هيرتفوردشاير في إنكلترا، في حين يتأمّل زنابق الماء. وهو عمل كالعديد من الأعمال التي لم تُصنع لأجل شخصه على وجه الخصوص في ذاك المعرض. بل إنها صُنعت على العكس من أجل أعماله التي كانت القطع المعروضة تشير عن قصد أو دون قصد إلى عناصر ومشاهد وموضوعات في أفلامه.
وتتزايد في بعض القطع الترابطات النظرية، مثل العمل المشترك بين آنيش كابور وهارون ميرزا، بعنوان: مرآة بت بانغ (2013-2015). وصُنعت هذه القطعة بشكلٍ مستقلّ عن المعرض، وتُظهر مرآةً مقعّرة وأضوية “لد” زرقاء (أضوية بصمامات ثنائية باعثة للضوء) وأصواتًا متنافرة. وهي تجربة مربكة ترتبط ارتباطًا قويًا بافتتاحية فيلم “2001: أوديسة الفضاء”. أمّا عن قطعة دووغ آتكين” الشفق” من عام 2014 فهي عبارة عن هاتف عمومي من عالم آخر يتوهّج في سطوعه. واختيرت هذه القطعة للمشاركة في المعرض كإشارة إلى المشهد العبثي في فيلم “دكتور سترينجلوف”، وذلك عندما يستخدم رئيس المجموعة لايونيل ماندريك هاتفًا عموميًا ليحاول الاتصال بالرئيس لتفادي كارثة نووية، ولكنّهم لا يقبلون إجراءه مكالمة على حساب المتلقّي.
وإلى جانب هذه الأعمال التأويلية لموضوعات كوبريك، كانت هناك أيضًا أعمال تجسدت في منحوتات وتقنيات العالم الافتراضي، وفي كاميرا جرافليكس “حيّة” تعطي المشاهد انطباعا مثيرا للقلق، وكرسي مخرج ضخم، وقرد يرتدي خوذة فضاء، وحتى في عطرٍ مستوحى من أحد افلامه. وإذا دخلت إلى إحدى الغرف الصغيرة المظلمة واجهتك ثلاجة تحتوي على نسخة من الشمع بالحجم الأصلي للمخرج ذاته بهيئة تشبه الجثة المتجمّدة لجاك تورانس في نهاية فيلم البريق. وتدعى هذه القطعة المروّعة والظريفة في الوقت نفسه “القانون الثاني” وهي من صنع فنان من لندن يدعى بول فراير.
هناك لوحةٌ أخرى تُظهر كوبريك، وهي عمل لكريس ليفين بعنوان “السيّد كوبريك وهو ينظر”. كانت اللوحة مضاءة بالكامل وعلى نحو غريب بأضواء “لد”، ولا يمكن النظر إليها إلا من خلال الرؤية المحيطية للشخص؛ أي أثناء إدارته لرأسه، وفي تلك اللحظات فقط -أثناء الدوران- يرى فجأةً ومضةً لوجه المخرج وكأنّها تقول: “ها هو ستانلي!” في ظهور مخيف.
ومن أكثر القطع تأثيرًا وإمتاعًا من وجهة نظر معجب بكوبريك، العملُ المقدّم من صانع الأفلام نوربرت شويرنر بعنوان “مشكلة السفر عبر الفضاء”. وهو عمل دقيق مولّد على الكمبيوتر بتقنية العالم الافتراضي، في إعادةٍ لمشهد من فيلم “2001: أوديسة الفضاء”. إذ يقوم الدكتور فرانسيس بوول بالجري عموديًا في غرفة دائرية إضافة لتوجيهه لكماتٍ نحو الهواء أثناء ذلك.
كان ذلك تكريما لمثالية كوبريك الأسطورية. كما يقف العمل بالكامل كتذكير (رغم أن لا أحد بحاجة لأي تذكير) بحجم الظل الثقافي الذي خلفه كوبريك على مختلف الفنون.
إنه مخرج أدرك سحرَ أعماله كلٌّ من هواة الأفلام ومتابعيها والفنانين والمصممين والطلاب والمصوّرين الفوتوغرافيين والجزّارين والخبّازين وصانعي أعواد الشمع.
ستانلي كوبريك يخاطر بحياة دوبلير أثناء صناعته لفيلم “2001: أوديسة الفضاء”داليا آلبيرج
نال ستانلي كوبريك التقدير على تخطيه للحدود السينمائية في فيلم الخيال العلمي الشهير والكلاسيكي “2001 أوديسة الفضاء”. لكنه، وفي سعيه لإرضاء الفن ولتحقيق هوسه بالواقعية كان مستعدًا للمخاطرة بحياة دوبلير، وذلك بحسب ما ادعاه كتاب جديد.
حاكى بيل ويستن (الممثل البديل) مشهد انعدام الوزن والجاذبية لرائد فضاء في سلسلة مشاهد مذهلة تتضمن السير في الفضاء، إلا أن كوبريك رفض السماح باستخدام حبل أمانٍ ثانٍ على الرغم من مخاطر الأداء على ارتفاع يزيد على عشرة أمتار (30 قدمًا) فوق أرضية من الإسمنت الصلب.
كما صُوّرت بعض من أكثر المشاهد تطلبًا في استديوهات إم جي إم في بورهاموود (المدمّر حاليًا) دون شبكة أمان. ولم يسمح كوبريك أيضًا للدوبلير بريطاني الجنسية بصنع فتحات تهوية في الجانب الخلفي من خوذة رائد الفضاء؛ لئلّا يكون الضوء مرئيًا من خلال القناع الأمامي للخوذة.
ورفض أيضًا إيقاف التصوير عندما تمّ تنبيهه إلى أن ويستن في خطر شديد بحسب ادعاء الكتاب. أدرك ويستن أنه كان يفقد الوعي بسبب نقص الأوكسجين وازدياد ثاني أوكسيد الكربون. استجمع من القوة ما يكفي ليدفع يديه بحركة صليب وهي إشارة متفق عليها ضمن نظام يُستخدَم في حالات الطوارئ.
ويُدرِج الكتاب اقتباسًا لويستن الذي توفي في عام 2012 يقول فيه إنه لن ينسى لحظة سماعه أحدهم يحثّ كوبريك على إنزاله قائلًا: “علينا إرجاعه”، أو لحظة فقدانه للوعي عندما سمع كوبريك يقول متجاهلًا التحذير: “اللعنة، لقد بدأنا للتوّ اتركه في الأعلى! اتركه في الأعلى!”.
واسم الكتاب هو “ملحمة الفضاء: ستانلي كوبريك، آرثر سي كلارك وصناعة التحفة السينمائية.”، صدر عن دار نشر “سايمن وشوستر” في مناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين على إصدار الفيلم. وأورد الكاتب مايكل بينسون فيه مقابلات معمّقة مع ويستن، ومشرف المؤثرات البصرية دووغ ترمبل الذي صوّر لقطات الحركات الخطرة وغيرهم.
يقول بينسون إنّ الحركات الخطرة في فيلم أوديسة الفضاء تشكّل لحظة مذهلة في تاريخ الأفلام ظلّت مجهولة إلى حد كبير، وذلك قبل عقود من استخدام المؤثرات الرقمية. كان كوبريك يخشى الطيران، وكذلك كان الممثلان الرئيسيان في فيلمه كيير دوليا وغاري لوكوود، إلا أنّ أكثر اللقطات تعقيدًا في فيلمه كانت تتضمن ويستن في دور رائد الفضاء الميّت فرنك بوول وهو يلتفّ فاقدًا الحياة.
واشتملت مشاهده الخطرة أيضًا على تثبيته أفقيًا باستخدام أسلاك متصلة بمحرك مثقاب، ومن خلفه هاوية الفضاء الخارجي السوداء التي أُعيد إنشاؤها باستخدام ستائر ضخمة من المخمل الأسود. إلا أنّ كوبريك لم يدع الأمر بهذه البساطة، إذ أصرّ على أن يقوم ويستون بارتداء شعر مستعار، الأمر الذي رفع من سخونة بذلة الفضاء محكمة الإغلاق.
ومما جعل الأمر أكثر خطورة أنّ الخزان الصغير الموجود داخل حقيبة الظهر خلف ويستون، احتوى على هواء مضغوط يكفي لعشر دقائق فقط. يكتب بينسون في كتابه ما يلي: “نظرًا لمدى تعقيد اللقطات ولحجم الوقت الذي استغرقته العملية البسيطة لإزالة المنصة المستخدمة وإعداد أسلاك الدوبلير وتثبيته، لم تكن الدقائق العشر كافية”.
“كانت هناك مشكلة أخرى؛ ذلك أنه حتى عندما كان الخزان يدفع بالهواء داخل البذلة، لم يكن هناك مكان لخروج ثاني أوكسيد الكربون. لذا تراكم ببساطة داخلها تدريجيًا مسببًا ارتفاعًا في نبضات القلب وتسارعًا في الأنفاس وإرهاقًا وتخبطًا وفقدانًا للوعي في نهاية الأمر”.
وبعد تعافيه من نقص الأوكسجين شعر ويستن بغضب عارم دفعه لمهاجمة كوبريك، لكنه فوجئ بأن الأخير قد غادر موقع الحادثة. ولم يعد المخرج ليومين أو ثلاثة، والسبب بحسب ما يذكر ويستن: “لأنني كنت سأواجهه”.
ثم تصالحا لاحقًا بعد أن مُنح الدوبلير (بيل ويستون) غرفة تبديل ملابس فخمة مع ثلاجة مليئة بالبيرة وعلاوة ضخمة على أجره. ويقول ويستون الذي عمل بعدها في العديد من أفلام جيمس بوند: “واحدة من أعظم مزايا ستانلي أنّه كان يتمتع بنزاهة فنية هائلة لا تُصدّق، أما أخلاقيًا فأظنّ أنه كان أقلّ تميّزًا”.
ومن مؤيدي هذا الكتاب أيضًا مارتين سكورسيزي صانع الأفلام البارز. وكان قد كتب ما يلي: “كتب الكثيرون عن فيلم 2001 عبر السنوات، وعن صناعته حتى اعتقدت أننا قد عرفنا كل شيء يتعلق به. لكنني استلمت نسخة من هذا الكتاب المثير والمستفيض، الذي وجدت أنه وسّع من فهمنا للفيلم بتوضيحات أكبر، ذاك الفيلم الذي يعدّ واحدا من أعظم الأفلام على الإطلاق”.
يزعم كتاب جديد أن كوبريك رفض أن يوقف التصوير بعد أن فقد الدوبلير بيل ويستن وعيه.
بعد تعافيه من نقص الأوكسجين شعر ويستن بغضب عارم دفعه لمهاجمة كوبريك، لكنه فوجئ بأن الأخير قد غادر موقع الحادثة. ولم يعد المخرج ليومين أو ثلاثة بحسب ما يذكر ويستن: “لأنني كنت سأواجهه”.
بعد تعافيه من نقص الأوكسجين شعر ويستن بغضب عارم دفعه لمهاجمة كوبريك، لكنه فوجئ بأن الأخير قد غادر موقع الحادثة. ولم يعد المخرج ليومين أو ثلاثة بحسب ما يذكر ويستن: “لأنني كنت سأواجهه”.
تأثير كوبريك الهائل
روبرت كويلر
توفّي ستانلي كوبريك عام 1999، بالتحديد في ليلة العرض الأول لعمله الأخير: “عيون مغلقة على اتساعها”، وهو الفيلم الذي تركه وراءه ليصبح رمزًا يمثّل مسيرته وأعماله ككل، عمل انقسم حوله النقاد بالتساوي، وأصاب العديد من أوائل المشاهدين له بالحيرة، بينما دفع آخرين للتساؤل حول المصير النهائي لإرث كوبريك بأكمله.
لكن، وكالعديد من أفلامه، احتل فيلم “عيون مغلقة على اتساعهما” مكانة راسخة في الوعي السينمائي والشعبي. هو عملٌ مظلم يمتدّ عبر نقطة محيرة تجمع بين نيويورك وفيينا القديمة، ويمكن اعتباره الآن كردّ حاد ضد دراما الزواج النفسية لـ”إنغمار بيرغمان”. وبعد مرور ستين عامًا على ملحمة كوبريك “دروب المجد” المناهضة للحرب، التي وضعت كوبريك بقوة على خريطة السينما العالمية، فإن من الإنصاف أن نسأل عن نوع الأثر الذي لا يزال صانع الأفلام العبقري يتركه على المخرجين حتى اليوم.
جوناثان جيلزر
يقول جوناثان جليزر، مخرج فيلمي “ولادة” و”تحت البشرة”، وهما الفيلمان اللذان كانت دقّتهما المخيفة وشخصياتهما مدفوعة بهوسه العميق الذي عكس جمالية كوبريك وتأثيره عليه: “لقد كان متفرّدًا جدًا وهذا ما لفت انتباهي”. ويضيف: “بالنسبة لي كان الأمر متعلقًا بوضوح رؤيته، أن تصل إلى جوهر الشيء وألاّ تتوقف حتى تحصل عليه”.
باستطاعتنا أن نشهد تأثير كوبريك في كل مكان هذه الأيام، في الإعلانات التي تعيد بوضوح خلق مشاهد القتال في فيلم “باري ليندون”(مع ملاءمتها للإيماءات الموسيقية الكلاسيكية التي كانت في الفيلم أيضا) أو في المقاطع من سلسلة “غرفة الحرب” المضطربة من فيلم “دكتور سترينجلوف”، التي تظهر بانتظام في تغطية أخبار حملة ترامب كنقطة إعلام شعبية ومرجعية.
إنّ كثيرًا من التقنيات التي أثر بها كوبريك في السينما كانت مبطنة أكثر من كونها صريحة، في الوقت الذي يمكن لابتكاراته التقنية أن تكون من المسلمات في هذا العصر، عصر شركة CGI الناحتة للأشكال الخيالية. بمعنى آخر، يمكننا أن نفترض أنّ فيلم “2001: أوديسة الفضاء” كان عبارة عن تجربة في مختبر كبير تم فيها إعادة تصميم المناهج الخاصة بهذا النوع من الأفلام الخيالية بالكامل وأحيانًا اختراعها، مثل لقطات السفر غير الملونة والمؤثرات البصرية ما قبل الرقمية.
يوجد الآن ما يزيد على ثلاثين كتابًا باللغة الانكليزية حول كوبريك (وهناك تقريبًا العدد نفسه بلغات أخرى) أي ما يعادل حجم مكتبة هيتشكوك. ومن أهمها كتاب تاسكين الأخير، وهو الأخف وزنًا، بعنوان: ” أرشيفات ستانلي كوبريك”، ناهيك عن رائعته الأخيرة المستفيضة التي يقدّم فيها كل ما يودّ المرء معرفته عن “2001: أوديسة الفضاء”. كما تُجسَّد مؤسسات سينمائية مثل السينما المصغرة الأميركية في لوس أنجلوس كمراكز دائمة لعرض أعمال ستانلي كوبريك والاحتفاء بها.
ولعلّ أكبر دليل على قيمة كوبريك هو تأثيره العميق في مخرجين مختلفين برؤيتهم عن بعضهم بعضًا، مثل فينس جيليان، ونيكولاس ويندينغ ريفين، ومارتن سكورسيزي، وستيفين سبيلبيرغ. وهذه شهادة لكوبريك ولقدرته على أسر الخيال الشعبي على نطاق واسع، إذ إن بإمكان كل واحد من صانعي الأفلام هؤلاء أن يذكر جوانب مختلفة ومتكاملة معًا، تعكس مهارة كوبريك السينمائية.
فينس جيليان
يقول المخرج جيليان: “يسعدني أن أرى إلهامه وقد ظهر بطرق ملحوظة في عملنا في “اختلال ضال”، وفي “من الأفضل الاتصال بسول”. كان مايكل هير أثناء عمله على فيلم “فانيتي فير” يسأل كوبريك عن كيفية قيامه ببعض المشاهد في فيلم سترينجلوف أو 2001، وكان كوبريك يجيبه ببساطة: “إنه فنّ الاستعراض يا مايكل”. لقد كان رجل استعراض؛ أي أنه كان يعرض لجمهوره أشياء لم يرها من قبل.
بالنسبة لجيليان فإن جزءًا من أهمية ذلك كان يعني أن يتبع قاعدة رئيسية لكوبريك، وهي أن يسعى لأن تكون أول لقطة في فيلم ما هي الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من أي شيء قد رآه الجمهور في ذاك اليوم. ويضيف: “إنه قانون نعيش وفقه، فما إن نعرف ما يتطلبه مشهد ما، حتى نسأل أنفسنا، ما هو أول شي سنراه؟ وهذا يقودنا للسؤال: كيف بإمكاننا أن نجعل هذه اللقطة الأولى لقطة متميّزة ولافتة للنظر؟ كان كوبريك ينظر للفيلم على أنّه بحاجة إلى مجموعة مما سمّاه “لحظات غير قابلة للنسيان”، لحظات يظلّ أثرها للأبد، خذ كمثال سلسلة الغناء تحت المطر في فيلم “البرتقالة الآلية”، أو رقصة الفضاء “بلو دانوب” في فيلم 2001. لقد تعلمت ذلك التأثير من كوبريك.
وهناك عبقريته الأخرى في تلك اللقطات التي كان يستخدم فيها التلميحات الموسيقية الساخرة والشيطانية بوفرة، وبخاصة في في فيلم “شاول”. كانت “مشاهد حبس الأنفاس” كما يسميها جيليان “مستوحاة حصرًا من كوبريك”.
لدينا أيضا تقنية لقطاته، اللقطات التي استخدمت منظور نقطة التصوير الثابتة، وهي هدية خاصة من كوبريك، أو تلك اللقطات البطيئة التي استخدم فيها تقنية تكبير وتصغير العدسة بتروٍ وتأن، والتي تعلمناها من فيلم باري ليندون”.
نيكولاس ريفين
ومن جهة أخرى، يرى المخرج الدنماركي نيكولاس ريفين (من أفلامه “قيادة” و”شيطان النيون”) في كوبريك زميلًا يشاركه روح القارة الأوروبية. وهذا جليّ؛ خاصة أنّ الموقف الطاغي في كلّ أفلام كوبريك (وهو ما يحلله الناقد جيمس نيرمور بأفضل نص نقدي عن كوبريك) هو الذوق القاتم الأوروبي، المائل للكوميديا السوداء المفرطة، ولكل ما هو غامض، وللمساحة الضبابية بين العنف وعلم النفس، إضافة إلى الافتتان بأنظمة التحكم أثناء الانهيار الحتمي.
ويقول ريفين: “أحببت فيه أنه كان من أصحاب الوسواس القهري وذا غرور كبير. لا بد لك أن تمتلك هذه الصفات حتى تكون فنانًا مبدعًا وقويًا، لأنك بدونها، إما ستضيع أو ستظل ضمن المستوى المتوسط. يقدّم كوبريك مثالًا رائعًا للجيل الجديد ولجيلي أيضًا. إنه النموذج الأمثل لمحاربة الوسطية في كل خطوة. لكن أكثر ما كان يميّزه، ويمنحه الإعجاب الدائم، هو قدرته على صنع الفيلم تمامًا كما أراد، لكن داخل نظام استوديو شركاتي تحكمه الأعداد والأموال. لقد كان يعرف جيدا كيف يتعامل مع هذا النظام، وكيف يستخلص منه ما يريد وأن يظل مع ذلك قادرًا على الحفاظ على عمله المبدع. من بين هذه الطرق كانت محافظته على التكلفة المنخفضة، وهي الطريقة المثلى لإبقاء السيطرة، مع تقليل المخاطرة إلى أدنى حدودها. وهذا يعتبر نموذجًا يمكن لأي صانع أفلام تجاري أن يتعلّم منه. عن نفسي، لقد تعلّمت الكثير بالفعل”.
سكورسيزي
يقول سكورسيزي لتشارلي روز في عام 2001: “لقد ترك أثره عليّ من أولى مشاهداتي لأفلامه، لكن ومع تعلّمي للمزيد حول صناعة الأفلام، كنت أعود وأشاهدها مجددًا وأتساءل: “لم يمتاز هذا المشهد بهذه القوّة؟” ثم كنت أذهب وأحاول تتّبع اللقطات واكتشاف كيف قادت كل لقطة إلى تلك التي تليها، كان هذا طبعًا قبل اختراع جهاز الفيديو، فكان عليّ الذهاب من سينما إلى أخرى محاولًا تدوين الملاحظات! وكن استمر في التساؤل: لمَ يبقى لبعض اللقطات أثر يستمر عالقًا في ذهنك للعديد من السنوات؟ لم ظلّت تلك اللقطات المتتابعة في الخنادق في دروب المجد عالقة في الذاكرة؟ إنها حالة إبداعية خاصة لشخص يمتلك قدرة رهيبة على رواية القصص بموهبة وعبقرية كبيرة لها قدرة على خلق صورة مقنعة وصلبة كالحجر. إن كل ما ستراه داخل إطار أفلامه، إنّما هو هناك لسبب محدد، وكل ما هو خارجه هو خارجه لسبب محدد أيضًا. كانت لقطاته تتمتع بالسلطة الاستثنائية الهائلة، التي كأنها تقول لك: اسمعني، سأخبرك بالقصة بهذا الطريقة. وستراها من هذه الزاوية فقط”.
في فيلم “كل هذا الجاز” للمخرج بوب فوس، نرى جو غيدين، المخرج المعذب يسأل نفسه: “هل اكتأب ستانلي كوبريك يومًا؟”. أمّا السؤال الذي قال سكورسيري إنّه يطرحه على نفسه عندما يشعر بالتعب خلال مراحل الإنتاج فهو: “كيف بإمكاني أن أحسّن من هذا العمل؟”. ما كان كوبريك ليترك العمل على هذه الحال! كان ليغيّر من الزاوية هنا، أو كان ليجد طريقة لإمضاء المزيد من الوقت على المشهد، كان ليتابع العمل بجد حتى النهاية. عليّ أن أعترف أنّ هذا مصدر إلهامي”.
ستيفين سبيلبيرغ
لقد كانت علاقة ستيفين سبيلبيرغ بكوبريك فريدة من نوعها من بين صناع الأفلام كافة، إذ بدأ كغيره معجبا بأعمال كوبريك، ثمّ ما لبث أن شكّل معه علاقة صداقة نتج عنها موافقة كوبريك على أن يكون سبيلبيرغ المخرج النهائي لنصه السينمائي لفيلم “إي آي: الذكاء الاصطناعي“. وفي مقابلة أجريت عام 1999 مع صانع الأفلام بول جويس، يصف سبيلبيرغ ذاك اليوم في سنوات مراهقته حين اكتشف نوع السينما الخاص بكوبريك. كان ينتظر في طابور في فينيس آريزونا لحضور عرضٍ لفيلم “دكتور سترينجلوف” عندما تقدّم والده من البقعة التي ينتظر فيها ليعطيه إشعارًا من الخدمة الانتقائية تطلب حضوره للتجنيد العسكري.
يقول سبيلبيرغ متذكرًا: “كانت الرسالة في جيبي، وعندما انتهى فيلم سترينجلوف، وغادرت السينما، جلست على الرصيف أنتظر أن يقلّني والدي. كنت قد نسيت تمامًا أن بحوزتي رسالة تنذر بتجنيدي في القوات المسلحة للولايات المتحدة. وعندها فقط، أدركت للمرة الأولى قوة ستانلي كوبريك. لقد أسرتني القيم الروحية في الفيلم، إضافة إلى الكوميديا السوداء فيه، حدث أن تقمصت حينها شخصية “جورج سي سكوت” وكل ما أداه العظيم بيتر سيليرز، لدرجة أن ذلك جعلني أنسى أنني قد أكون على موعد لمواجهة الصراع نفسه يومًا ما.
كانت كل مكالمة هاتفية أجريها معه مصدر إلهام. بعد أن شاهد فيلم “إنقاذ الجندي ريان” سألني: “من الذي أثر عليك في التعامل مع الكاميرا المحمولة بهذه الطريقة؟”، أجبته أنني جئت بالفكرة من الأفلام الوثائقية الخاصة بالحرب العالمية الثانية التي صُوّرت بوحدات كاميرا سيغنال كوربس، ومنك. سألني: ماذا تعني منّي؟ أجبته: هل تذكر عندما كانوا يحاولون استعادة قاعدة القوات الجوية بيربليسون في فيلمك “دكتور سترينجلوف”، وقمت بتصوير تلك السلسلة السينمائية الواقعية المذهلة باستخدام العدسات الطويلة وكاميرات اليد؟ أجابني: نعم. قلت له: حسنًا، لقد كانت وحدات كاميرا سيغنال كوربس، وتقنية سلسلة لقطاتك الطويلة، هما ما أظهر لي كيفية التقاط صور الكاميرا المحمولة باليد. أجابني: أووه شكرًا، ومن ثمّ غيّر الموضوع سريعا. لم يكن من محبّي الإطراءات على الإطلاق”.
بالنسبة لسبيلبيرغ كان أثر كوبريك الحقيقي بعيد المدى، “إنّ ما ميّزه عن غيره أنّه كان كالحرباء، فلم يكن يصنع الصورة نفسها مرتين. كما كان يقوم بصنعها على فترات زمنية متباعدة، وبتقنيات متباينة وقصص متنوعة، ومجازفات مختلفة أيضًا. تتسم كل قصة له بالغموض في الأساليب التي كانت تروى بها. لذلك فهو يلهمنا أن نكون مختلفين في كل مرّة نقوم خلالها بشيء جديد، وأن نحاول إعادة ابتكار أنفسنا كلما سنحت لنا الفرصة. يؤسفني أن مجموعة أعماله محدودة للغاية، ولكن يكفيه أنه حظي بأعظم تأثير في تاريخ السينما، وعلى كلّ واحد منّا”.
مع اقترابنا من كل موعد لميلاد صانع الأفلام الراحل سيتحدث مخرجون عن أهميّته، وعن سر استمرار الكمال الأسطوري لفيلمي: “2001: و”باري ليندون” حتّى اليوم.
نيكولاس ريفين:” أحببت فيه أنه كان من أصحاب الوسواس القهري وذا غرور كبير. لا بد لك أن تمتلك هذه الصفات حتى تكون فنانًا مبدعًا وقويًا، لأنك بدونها، إما ستضيع أو ستظل ضمن المستوى المتوسط.
سبيلبيرغ: يؤسفني أن مجموعة أعماله محدودة للغاية، ولكن يكفيه أنه حظي بأعظم تأثير في تاريخ السينما، وعلى كلّ واحد منّا.
نيكولاس ريفين:” أحببت فيه أنه كان من أصحاب الوسواس القهري وذا غرور كبير. لا بد لك أن تمتلك هذه الصفات حتى تكون فنانًا مبدعًا وقويًا، لأنك بدونها، إما ستضيع أو ستظل ضمن المستوى المتوسط.
سبيلبيرغ: يؤسفني أن مجموعة أعماله محدودة للغاية، ولكن يكفيه أنه حظي بأعظم تأثير في تاريخ السينما، وعلى كلّ واحد منّا.