سينما أميركا اللاتينية: من قمع الديكتاتوريات إلى التطلع لصنع موجات جديدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سينما أميركا اللاتينية: من قمع الديكتاتوريات إلى التطلع لصنع موجات جديدة


    سينما أميركا اللاتينية: من قمع الديكتاتوريات إلى التطلع لصنع موجات جديدة


    30 July، 2022


    إعداد: أحمد عبد اللطيف

    وصلت السينما إلى أميركا اللاتينية عام 1896، بعد عام واحد من العرض الأول الذي قدمه الأخوان لومير في باريس. ومنذ ذلك الحين تزاحمت فرق التصوير والعرض والسينمائيون المعنيون ببداية تطوير الإنتاج في هذه المنطقة.

    في القرن العشرين زاد انتشار هذا الفن، خاصة في الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، وبداية من عقد 1930 التفت كثير من المخرجين الأجانب الذين كانوا يبحثون عن مناظر طبيعية وإضاءة وموضوعات “غريبة” لأفلامهم لأميركا اللاتينية، كما فعل سيرجي آينشتاين الذي صوّر “لتحيا المكسيك”. ظهرت كذلك شركات إنتاج سينمائي بعضها بدعم حكومي مثل شركة “مكسيكو فيلم”، وأخرى بمبادرات مستقلة مثل “الأفلام الكوبية”. سينما تلك الفترة، في مجملها، كانت تتطلع لتقديم أميركا لاتينية تروق للأجانب، بمناظر طبيعية خلابة ونساء حسناوات.

    شهدت الأربعينيات توهج “سينما الدموع” بالتوازي مع إنتاج كثير من الأفلام الكوميدية مثل أفلام الريف المكسيكي التي تناولت حياة القرية، ونشرت خطابًا قوميًا. وفي البرازيل، كان هذا العقد وعقد الخمسينيات مثل “الفترة الذهبية” للإنتاج الميلودرامي والكوميديا بالأساس. ظهرت كذلك مؤسسات لاتينية مثل “تشوروبوسكو” في المكسيك و”سونو فيلم” بالأرجنتين، وكان لها بِنية تحتية هائلة ونظام استقطاب للنجوم ساهم في جذب الجمهور اللاتيني من القارة بأسرها، بما فيهم سكان جنوب الولايات المتحدة.

    وكان الجمهور اللاتيني مستعدًا لتبني أيقونات محلية بجانب أيقونات هوليوود، هكذا هيمنت نجمات مثل ماريا فليكس، ونينون سيبيا، وريتا مونتانر، ودولورس دل ريو، بجانب النجوم بدرو أرمنداريث، وفرناندو سولر، وأرتورو كوردوبا، وبدرو إنفانتي. في السياق نفسه، اكتشف مخرجون مكرسون من تلك الحقبة، مثل خوان أورول، ورامون بيون، والثنائي إميليو إنديو، والكاميرا مان جابرييل فيجيروا، أشكالًا مختلفة في الدراما الإنسانية استلهموها من المسلسلات الإذاعية والمسرح المكتوب والإنتاج الأميركي، من ناحية قصص الحب المستحيلة والتراجيديات الفردية. ومع قدوم الفيلم الصوتي تكاثرت الأفلام الموسيقية، وغدت الموسيقى التصويرية مكونًا رئيسيًا في بنية الفيلم، ومن خلالها أعيد إنتاج الموسيقى اللاتينية مثل الرامبو والمامبو والتانجو وثارثويلا.
    نحو سينما لاتينية جديدة




    عقب الحرب العالمية الثانية، تجلت سينما جديدة في القارة اللاتينية، بينما كان الإنتاج الهوليوودي يكتسح العالم. حدث انفتاح لأندية السينما اللاتينية وكثير منها ارتبط بمجلات السينما والجامعات والجمعيات الكاثوليكية والأحزاب الاشتراكية، وأبدى الجمهور انفتاحه على السينما البديلة والتجديدات في المحتوى السينمائي. كانت تلك لحظة انطلاق مؤسسات أرشفة السينما، وباتت الواقعية الجديدة الإيطالية مرجعية للسينمائيين، فاستلهموا شكلها وتناولاتها لصنع واقعية لاتينية. بعد ذلك استعاروا أسلوب الرواية الفرنسية لتملأ الشاشات.

    ثمة لحظة فارقة في تاريخ السينما اللاتينية: الثورة الكوبية ذاتها، إذ بداية من عام 1959 ظهرت السينما المسيّسة في المنطقة، كذلك شارك في الإنتاج مؤسسات حكومية مثل المعهد الكوبي للفن والصناعة السينمائية، واستمر حتى اليوم، ليتكوّن بذلك “جيل انفجار” سينمائي كوبي يضاهي جيل الانفجار الروائي. أطّر هذا الإنتاجَ أفلام كلاسيكية مثل أفلام سانتياجو ألباريث الوثائقية وأفلام توماس جوتيريث الروائية الطويلة. ومن بين المؤسسات التي ساهمت في تأسيس تاريخ السينما اللاتيني المعهد القومي للسينما في الأرجنتين، و”تشيلي فيلم”، و”إمبرا فيلم” في البرازيل. واكب هذا التطور تأسيس مجلات متخصصة مثل “السينما الكوبية”، والمجلة البيروانية “لنتحدث عن السينما”، والفنزويلية “سينما اليوم”، والأوروجوانية “سينماتيكا”، والأرجنتينية “سينما وإعلام”.

    كانت سنوات الستينيات بالنسبة للسينما اللاتينية شديدة الأهمية، إذ في تلك الحقبة التزم الإنتاج الإبداعي والتوثيقي بمقترح الضمير السياسي، واستخدام دوائر انتشار بديلة بأفكار تبنتها المقالات النظرية حول السينما وأُنتجت في عقدي الستينيات والسبعينيات مثل: “جماليات الشكل وجماليات المضمون” لـجلوبير روتشا، و”نحو سينما ثالثة للأرجنتينيين” لـفرناندو سولاناس وأوكتابيو خيتينو، و”السينما الناقصة” للكوبي خوليو جارثيا إسبينوسا.

    في البرازيل ظهرت حركات قومية متعددة مثل “السينما الجديدة”. وفي الأرجنتين كانت مجموعة “سينما التحرر” تتبنى فكرة “السينما الثالثة” (المختلفة عن هوليوود والسينما الأوروبية) لرسم ملامح واضحة لسينما أميركية لاتينية تجسدت مثلا في فيلم “ساعة الأفران” (1968). وفي بوليفيا، أنتج السينمائي خورخي سانخينيس أفلامًا وثائقية تتحدث بلغة الأيمارا (لغة السكان الأصليين) واللغة الإسبانية، وتتناول إشكاليات القبائل الأصلية، مستخدمًا أشخاصًا عاديين كممثلين، كما فعل في فيلم “أوكاماو” (1966) وهو اسم الفرقة التي كوّنها. وفي الأوروجواي ظهرت سينما “العالم الثالث” (1969-1973) وكان شعارها قبضة يد وكاميرا في شكل رشاش، وكانت تتطلع لخلق تاريخ سينمائي مختلف عبر جمع ونشر أفلام لاتينية ذات طابع ناقد ومعارض.

    في تلك الفترة نفسها، انطلقت المهرجانات السينمائية، وأصبحت نقاط التقاء مهمة وفضاءً للمناقشات حول الطرق الجمالية والأيديولوجية التي يجب تناولها في سينما تعبّر عن القارة اللاتينية، بحثًا عن صدق فني أكبر. بدأ التلفزيون يكسب أرضًا بداية من الخمسينيات، لكن السينما ظلت عربة ثقافية مؤثرة، وأدت دورها كوسيلة للترفيه والتلاقي الاجتماعي، إضافة إلى إثارة نقاشات حول هوية المنطقة. بعض المهرجانات ستكون أساسًا لما سيسمى بعد ذلك “سينما أميركا اللاتينية الجديدة”، مثل مهرجانات بينيا دل مار في تشيلي، ومويستراس دي سينما دوكومنتال في ميريدا، فنزويلا.
    عقب الحرب العالمية الثانية، تجلت سينما جديدة في القارة اللاتينية، وأبدى الجمهور انفتاحه على السينما البديلة والتجديدات في المحتوى السينمائي. وباتت الواقعية الجديدة الإيطالية مرجعية للسينمائيين.

    كانت سنوات الستينيات بالنسبة للسينما اللاتينية شديدة الأهمية، إذ في تلك الحقبة التزم الإنتاج الإبداعي والتوثيقي بمقترح الضمير السياسي، واستخدام دوائر انتشار بديلة بأفكار تبنتها المقالات النظرية حول السينما.
    من الرقابة إلى الحرية


    في السبعينيات، فرضت الديكتاتورية العسكرية قبضتها على سينما أميركا اللاتينية، واختار الكثير من السينمائيين المنفى، بخاصة إلى أوروبا. بعض الفرق واصلت الحياة مثل فرقة “سينما الأساس” الأرجنتينية، وكانت تدافع عن التضامن الدولي وتوزع أفلامها سرًا. في تلك الفترة سجلت السينما التشيلية انقلاب الجنرال بينوتشيه، وظهر في العديد من الأعمال مثل “معركة تشيلي” (1975-76). في عام 79 ولد المهرجان الدولي “سينما أميركا اللاتينية الجديدة” في هافانا، وأصبح ملتقى سنويًا كبيرًا للسينمائيين اللاتينيين، وسعى هذا المهرجان للحفاظ على المقترح المطروح في 1967، وهو عام تأسيس السينما الجديدة.

    في الثمانينيات، أدت صعوبات الإنتاج المعتادة والمنافسة مع الإنتاج الهوليوودي إلى ركود إبداعي وابتعاد الجمهور اللاتيني عن المنتج المحلي. في تلك الفترة، بحث كثير من السينمائيين عن استعادة الذوق الشعبي ولجؤوا إلى سرديات متنوعة، وتحويل أعمال أدبية وصنع أفلام تاريخية وأعمال كوميدية تجذب بسهولة جمهورًا كبيرًا. ثم كانت التبعية للدولة (أو لمؤسسات الدولة أو لقوانين الحوافز) من أجل الحصول على موارد مالية ودعم من أجل العرض، وهي الطرق الوحيدة المتاحة للسينما اللاتينية إن أرادت البقاء.

    في نهايات القرن الـ20 تكوّنت “موجة إبداعية جديدة”، وقدم الإنتاج السينمائي في كل من الأرجنتين والأوروجواي وتشيلي والمكسيك والبرازيل أفلامًا ترسم بواقعية أكبر وضع السكان المهمشين. دراما تستعرض المجتمع الحديث، وأفلام ذات بعد تذكاري تستهدف إعادة قراءة فترة الديكتاتوريات العسكرية، من بين مواضيع أخرى. مخرجون مثل لوكريثيا مارتل، بابلو ترابيرو، ودانييل دورمان (الأرجنتين)، وأندريس وود (تشيلي)، وخوان بابلو، وبابلو ستول (الأوروجواي)، وفرناندو ميرلس، وكلاوديو أسيس، وكريم أينوز (البرازيل)، وألخاندرو جونثالث إنياريتو (المكسيك) من بين أسماء أخرى أعطت دفعةً جديدة للسينما اللاتينية. لقد حققت هذه السينما مشهدية عالية في الخارج، وتلقت جوائز عديدة في مهرجان “مويسترات إنترناثيونالس”، وحققت إيرادات معقولة لمخرجيها، وساهمت في ظهور سينمائيين شباب، ومنحت أملًا في سينما لاتينية في القرن الـ21.
    في البرازيل ظهرت حركات قومية متعددة مثل “السينما الجديدة”. وفي الأرجنتين كانت مجموعة “سينما التحرر” تتبنى فكرة “السينما الثالثة” (المختلفة عن هوليوود والسينما الأوروبية) لرسم ملامح واضحة لسينما أميركية لاتينية.
    السينما الأرجنتينية كذاكرة


    بانتهاء الديكتاتورية الأرجنتينية عام 1983، خطت السينما الأرجنتينية خطوة جديدة لحفظ الذاكرة، لقد خرجت من ظلام الرقابة والرقابة الذاتية والتسطيح والفراغ والدعاية للقيم المسيحية والإعجاب بالمؤسسات السياسية والجنس المبتور، وكلها من متطلبات عصر الديكتاتورية، إلى نور حرية التعبير والإبداع. حينها كانت الأولوية لتشييد ذاكرة للشعب عن الجرائم المرتكبة خلال سنوات القمع. بالرجوع قليلًا لفترة السبعينيات، نلتفت لتحالف مجموعة من المخرجين والممثلين والمنتجين لعمل أفلام دعائية لتحسين صورة الأرجنتين في الخارج، أفلام تطلعت كذلك لدحض دعاوي المعارضين بالداخل أو محاولات كشف المستور بالخارج في تبنٍ لخطاب السلطة. وبحسب الناقدة سوسانا قيصر، كانت أجواء القمع طاردة لفنانين موهوبين اضطروا للهجرة بعد اختفاءات قسرية تعرض لها منتج ومخرجان وواحد وعشرون ممثلًا.
    في السبعينيات، فرضت الديكتاتورية العسكرية قبضتها على سينما أميركا اللاتينية، واختار الكثير من السينمائيين المنفى.

    في الزمن الجديد، سعت الأفلام لتسجيل إرهاب الدولة في حوادث الاختفاءات القسرية والاعتقالات، لكنها لم تجذب جمهورًا كبيرًا، ولعل السبب في ذلك يرجع لحجم “الواقع” الذي يحتمله المشاهد. ومن بين أكثر من عشرين فيلمًا حقق نجاحًا في الفترة من 1984-2004 كان فيلم “الحكاية الرسمية” الأكثر مباشرة في تناول الحقبة العسكرية، واحتل المركز الرابع في الإيرادات، بينما احتل فيلم “كاميلا” المركز الثاني لتناوله نفس الحقبة بطريقة مجازية.
    واقع كولومبيا: عنف ومخدرات


    قدمت السينما الأميركية الأرضَ الكولومبية باعتبارها أرضًا للمخدرات. هذا التنميط أدى لغياب حقائق أخرى حول هذا المجتمع السحري الذي تناوله جابرييل جارثيا ماركيز في رواياته، ليس لنفي المخدرات كعنصر أساسي في المجتمع يقوم عليه اقتصاد الدولة، وإنما لتناول أبعاد أخرى في حياة الأفراد والعائلات والقبائل الأصلية التي لم تدخل حتى معترك الدولة الحديثة. من هنا تأتي أهمية فيلم “عصافير الصيف” للمخرجَين ثيرو جيرّا وكريستينا جاييجو.

    تنطلق فلسفة الفيلم من رواية مضادة للرواية الأميركية، وتسعى مع تتابع المشاهد لكشف الاستفادة الرأسمالية من زراعة الماريجوانا، وإلى استغلال أفراد يطمحون إلى مجرد حياة بسيطة. يعود الفيلم، إذن، إلى أصل كل شيء، وفي هذه العودة نلاحظ أنه ليس فيلمًا عن المخدرات، كما تقول الناقدة بيجونيا بينيا، بقدر ما يحكي تراجيديا كلاسيكية، حول تمزق الهوية الكولومبية بأيد أميركية، ونقدًا للرأسمالية المتوحشة في مجتمع شديد القدم. يسعى الفيلم لرسم صورة عن عائلة تمثل مجازًا كولومبيا، ولاكتشاف ثقافة “الوايو”، وهم سكان أصليون تدور حيواتهم بين الأحلام والموتى والأرواح، فيسير الفيلم بذلك في ظل ماركيز. يدور الفيلم في السبعينيات، تتراكم المشاهد لنرى كيف حوّلت ثقافة الهيبي الأميركية المواطنين الأصليين من مزارعين للبن إلى مزارعين للماريجوانا. صنعوا من سكان وايو وحوشًا، وحوّلوا حياتهم من حياة مسالمة إلى دم وموتى. وكان ذلك بداية كل شيء، لتنتقل الأرض من زراعة البن إلى الماريجوانا ثم الكوكا. هذه رواية تختلف عن رواية سينما هوليوود.

    يلتفت الناقد بدرو أدريان ثولواجا إلى أحد المظاهر المهمة المختفية من السينما الكولومبية، وهي حروب العصابات، فيقول: “برغم أن حرب العصابات كانت من أهم الصراعات في الواقع الكولومبي إلا أنها نادرًا ما ظهرت في التناول السينمائي”. يُرجع ثولواجا ذلك إلى انشغال السينمائيين بتقديم “صورة عذبة” عن كولومبيا، ويستشهد بأفلام من حقبة العشرينيات إلى الأربعينيات كانت تأسيسًا لهذا الاتجاه مثل: “تراجيديا الصمت” و”كما الموتى”. حاولت العقود التالية إذابة الثلج عن هذا الاتجاه، كما في فيلم “أما هذا فطريقي” لـجونثالوا كنال راميريث، إذ تناول العنف لكنه أرجعه إلى أسباب ميتافيزيقية.

    انتقد ماركيز ذات مرة السينما الكولومبية حين أدلى بتصريح أشار فيه إلى “متذرعين بنقص المادة، ابتلعت الأرض السينمائيين عند وصف المذبحة، فلم يسمحوا لأنفسهم بالتمهل ليسألوا أنفسهم إن كان الأهم، على المستوى الإنساني والفني، هو الموتى أم الأحياء”، وكانت وجهة نظر ماركيز أن تناول حياة الأحياء وآثار العنف عليهم أهم من تسليط الضوء على أسباب العنف. ومع بداية نهضة السينما الكولومبية في الستينيات، واجهت السلطة التي فرضت رقابة حديدية، ولعل منع فيلم “الأخ قابيل” دليل على ذلك، إذ تحججت الرقابة بأن أحداث المذبحة لا تزال حية في الذاكرة، ولا يمكن تناولها الآن.

    “ما من فيلم روائي طويل استطاع خلق سردية تبلغ جذور الأحداث والشخصيات الرئيسية لفهم النصف الأخير في التاريخ الكولومبي”، يؤكد ثولواجا في إشارته إلى غياب “الفارك” (الجماعة المسلحة) عن التناول السينمائي بشكل يسمح للمشاهدين بتكوين وجهة نظر، أو على الأقل تقديم سردية مختلفة عن سردية السلطة. ويدحض التفسير الذي يرى أن القرب الزمني واستمرار الصراع كان مانعًا لتصويره سينمائيًا لأن الأحداث كانت مشتعلة ولم تغلق بعد، إذ صورت السينما أحداث عنف أخرى كانت مشتعلة أيضًا لأسباب تخص الفقر والبطالة.

    يميل ثولواجا إلى إرجاع السبب للبعد الجغرافي والثقافي، إذ السينمائي الكولومبي، بحسب التحليل السوسيولوجي الإمبريقي، ابن الطبقة الوسطى منبتة الصلة عن الأماكن الريفية حيث تدور المعارك، وبالتالي يتصور هذه الأراضي من منظور النوستالجيا وعدم المعرفة الحقيقية. ويضيف إلى ذلك سببًا براجماتيًا هو أن ندرة الدعم الحكومي للسينما دفعت المخرجين لتناول المدينة لأسباب إنتاجية، في حين أن تصوير فيلم عن “الفارك” ستكون تكلفته عالية جدًا على الميزانية المرصودة، ولن تتلقى أي دعم من جانب الدولة. يمكن أن نقول إن السينما، خاصة، منذ النصف الثاني من التسعينيات تأثرت في استقلاليتها مع تخصيص الدولة ميزانية أكبر لها، إذ فرض ذلك التزامًا سياسيًا بمعنى تقليل حجم النقد للسلطة، وإعادة بناء السردية التاريخية بما يتوافق مع منظور السلطة. هكذا يتبنى السينمائيون المنظور الأدبي لـماركيز في تفكيره في الأحياء، بحسب ثولواجا، وباتت الأفلام الجديدة تسلط الضوء على آثار العنف على الأجساد والمناظر الطبيعية أكثر من تسليطها على العنف كحدث، كما في فيلم “الستائر” لـوليم بيجا، و”حيوان غامق” لـفليبي جيريرو.

    لكن رأي ثولواجا مع ذلك يتجاهل عنصرًا هامًا: أن السينما فن، وسؤال السينما كفن هو سؤال جمالي بالأساس، والمشاهد حين يدخل السينما لا يبحث عن إعادة إنتاج الواقع الذي يعيشه، بقدر ما يبحث عن رؤية لهذا الواقع، هدنة وتأمل، وربما يبحث حتى عن واقع بديل. ورغم أن للسينما دورًا توثيقيًا، خاصةً في الأراضي الملتهبة بالصراعات، إلا أن أهداف الفيلم الروائي تختلف عن مساعي الفيلم التوثيقي، إضافة لذلك، فالسينما تطورت في العالم كله، كما تطور الأدب، بحيث بات التناول المباشر للحدث يناقض القيمة الجمالية للعمل. من هنا لا نتفق تمام الاتفاق مع ثولواجا في أن الدعم الحكومي للسينما السبب الرئيسي في تراجع النقد أو عدم تسليط الضوء على قضايا العنف ومن قبلها المخدرات، وإن كنا نصدق أن “المنتِج” يتمتع بسلطة لا يمكن تجاهلها في هذا السياق.
    السينما المكسيكية: المخدرات والهجرة


    من ناحية أخرى، اختلف تناول السينما المكسيكية لمسألة المخدرات عن التناول الكولومبي، يتجلى ذلك في ثلاث نماذج: “هيلي” لأمات إسكالانتي، و”ميس بالا” لـخيراردو نارانخو” و”600 ميل” لـجابرييل ريبستين. الأفلام الثلاثة، بحسب جوستابو أمبروسيو، قدمت تناولًا شديد الواقعية للعنف المكسيكي والتأثير القوي لوسائل الإعلام. لذلك، فهي أفلام نقلت الواقع والأحداث لكنها لم تتأمل فيها، وتأثر فيها الإبداع بالريبورتاج الصحفي والصور والمقالات والفيديوهات أكثر مما تأثر بالاحتكاك المباشر، فغدت نتاجًا للواقع المنقول، من زاوية واحدة أقرب للتوثيق، أكثر استسلامًا لوسائل التواصل الاجتماعي. المحصلة لمتابع السينما المكسيكية أنها مشغولة بتقديم العنف للعنف، إذ تركزت الكاميرا على الحاضر كلحظة راهنة بدون رؤية حقيقية وعميقة لماضيها ولا مستقبلها.

    في السياق نفسه، قامت أفلام المخدرات المكسيكية على قصص حقيقية. يتناول فيلم “صاحب البئر” لـخوان مانويل روميرو، قصة المجرم سانتياجو ميثا لوبيث، وهو رجل كان يعمل بمزرعة مخدرات تقع على الحدود المكسيكية-الأميركية، ونال شهرة واسعة عقب اعترافه عند القبض عليه بأنه ذوّب 300 جثة في سائل حمضي. وفيلم “مقابر المخدرات” لـميجيل مارتي، حكاية خيالية عن مقبرة جماعية عثروا على عشرات منها بالمكسيك في السنوات الأخيرة، وكانت مزارع المخدرات تستخدمها لدفن ضحاياها.

    هل يتولى تجار المخدرات تمويل هذه الأفلام؟ السؤال طرحه خوليان ميجليريني، صحفي جريدة بي بي سي موندو المكسيك، على مخرج “مقابر المخدرات”، ونفي ميجيل مارتي هذا “الاتهام” مؤكدًا أنه “لم يتعرف قط ولا تواصل مع أي تاجر مخدرات”، مع ذلك يرى أن “تجار المخدرات شخصيات مثالية، لأنهم عنيفون ويستخدمون السلاح ولديهم حافلات ونساء”.

    في سياق آخر، شغلت الهجرة، وخاصة إلى الولايات المتحدة، حيزًا لافتًا في السينما المكسيكية. بدأ هذا النوع من الأفلام بتقديم الصورة النمطية للمهاجر الذي يعاني أثناء عبور الحدود ثم الوصول إلى بلد بلا قلب، لا يمنح له الحياة ولا يسمح له بتشييد حياة: صعوبات في تصاريح العمل، صعوبات في العمل بكل الأشكال، تمييز، إقصاء، المهاجر يتلقى معاملة كلص وكاذب وقذر. هذه الصورة نجدها في فيلم “ظهر مبلل” (1953) للمخرج أليخاندرو جاليندو. في عام 2008 يستعرض فيلم “7 شموس” لـبدرو أولتريراس منظورًا آخر يتناول مافيات التجارة في المهاجرين، هؤلاء الذين يقومون بمهمة تهريبهم من الحدود للوصول إلى أميركا، بما في ذلك من مغامرة بحياتهم ذاتها. وفي “على الضفة الأخرى” يحاول جوستابو لوثا تسليط الضوء على خسارات العبور البشرية، التضحيات التي يقدمها المهاجرون للوصول إلى أرض الحلم.

    يمكن أن نقول إن السينما المكسيكية، بدايةً من الألفية الجديدة، اتجهت لتناول الهجرة بشكل مختلف. في فيلم “يوم بدون مكسيكيين” (2004) يطرح المخرج سيرخيو أراو عمل المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة، لكن، ليس عبر التراجيديا، وإنما من خلال الكوميديا والفانتازيا؛ سحابة وردية تخفي من كاليفورنيا كل المكسيكيين فتتعطل الولاية لأنها بدون هؤلاء المهاجرين ليس بوسعها فعل شيء. وفي “أبناء الحرام” (2009) يستعرض أمات إسكالانتي مفهوم العبودية الحديثة التي يعيشها المهاجرون بدون أوراق، يستعرض التهميش والإقصاء من خلال حياة فاوستو وخيسوس، كل منهما ضحية وكل منهما جلاد.
    شغلت الهجرة، وخاصة إلى الولايات المتحدة، حيزًا لافتًا في السينما المكسيكية. بدأ هذا النوع من الأفلام بتقديم الصورة النمطية للمهاجر الذي يعاني أثناء عبور الحدود ثم الوصول إلى بلد بلا قلب.
    ما ينقص السينما اللاتينية


    تتبنى السينما اللاتينية، بشكل إجمالي وعمومي، القضايا الكبرى، ونادرًا ما تلتفت للفرد وهواجسه الشخصية بعيدًا عن ربطه بسياق كبير من الفشل السياسي، فشل يدفع لتكوين جماعات مسلحة أو يسمح بانتشار المخدرات أو يورّط رجال الشرطة في التواطؤ مع الفساد، أو يجعل قبلة الشباب الهجرة وعبور الحدود. لا شك أن أزمات أميركا اللاتينية قديمة وممتدة حتى بعد انتهاء زمن الديكتاتوريات، إذ إن الديمقراطيات هناك عادة ما يشوبها التزوير الانتخابي، وكثيرًا ما نرى أثر اليد الأميركية المسيطرة على ثروات البلدان المتعددة، بل وتمتد لتغيير رؤساء والإتيان برؤساء آخرين.

    هذا الصراع لا يترك للسينمائيين الفراغ اللازم لتأمل الفرد إلا في إطار الفقر والجوع والرغبة في الهروب أو التغيير. من هنا تختلف السينما اللاتينية عن السينما الأوروبية، إذ بتجاوز أوروبا زمن الحروب والحروب الأهلية ورسوخ الديمقراطية، بات الفرد هو شاغلها الأول، والفرد لا يعاني إلا أزمات عمل أو علاقات زوجية أو اجتماعية، أو أزمات وجودية. يسير الفيلم الأوروبي بإيقاع مضبوط، بدون عنف كبير ولا محاولة لتوريط المُشاهِد في مشاهد شديدة القسوة. في المقابل، تعمل السينما اللاتينية بمعولها في واقع قاسٍ، حتى حين يحاول الفيلم تجنب النقل المباشر لأسباب جمالية أو رقابية، يبقى السؤال الكبير مهيمنًا.

    ختاما، تقدم السينما اللاتينية محتوى واقعها، ومنتجها الفني في سياقها السياسي والسوسيوثقافي، وهو محتوى مرتفع الجودة على مستوى الشكل والصورة، حتى لو كان متورطًا وملتزمًا في معظم الأحيان.
يعمل...
X