باكثير (علي احمد)
Bakathir (Ali Ahmad-) - Bakathir (Ali Ahmad-)
باكثير (علي أحمد ـ)
(نحو1910 ـ 1969)
علي أحمد باكثير أديب مسرحي وروائي وشاعر، من الرواد في الأدب العربي الحديث ومن رجال النهضة، ودعاة الإصلاح الاجتماعي، ومن المجددين في أساليب التعليم، والمتأثرين بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد عبد الوهاب.
ولد باكثير في سورابايا بجزيرة جاوة بإندونيسية لأبوين عربيين من حضرموت. ويرجع نسبه إلى كِنْدةَ القبيلة اليمنية المعروفة. وقد ذكر باكثير هذا النسب في غير موضع من شعره:
ولي بعدُ بالضّلِّيل جَدَّيَ أُسْوةٌ
ومن يَتَقَيَّلْ جَدَّه لا يُضَلَّلِ
أرسله والده إلى سيوون (سيئون) بلده بحضرموت، على عادة الحضارمة، ليستقيم لسانه على العربية، وليتزود زاده الثقافي العربي، وكان في نحو العاشرة من عمره حينذاك.
وحبب إليه الشعر، فأقبل يلتهم ما يقع في يده من دواوينه، وكان مثله الأعلى من القدماء المتنبي، ومن المحدثين شوقي. وسرعان ما بلغت بالفتى مواهبه وأعراقه، والشعر في أسرته ملمح ظاهر، ففاض لسانه بالشعر، فقال الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وانقادت له القوافي والأوزان. ومع استحكام أصل الشعر في قلبه وفي طبيعته، استبد به هوى فني آخر، هو المسرح، ستكون له الغلبة فيما بعد على فن باكثير، وسيتأثر بهواجسه التي يريد أن يفرغها في منشآته وآثاره.
وكانت لقلب الشاعر تجربة وجد ستكون بوجهيها المشرق والقاتم ينبوع شعر ومصدر إلهام، وستلون بألوانها أيامه إلى آخر حياته. فقد كانت له قصة حب آسر كقصص القدماء، ثم أتيح له أن يقترن بمن يحب، إلا أن الموت غالها إثر مرض عضال، وغال ابنة له منها.
وكان واقع الناس الممض حوله رافداً فياضاً من روافد شعره وفكره، وأصلاً عظيماً من أصول حياته، لا جرم كان «ممتلئاً بالثورة على ما كان عليه بلده حضرموت من التخلف عن ركب الحضارة» فانغمس في العمل الاجتماعي، وتولى وهو دون العشرين إدارة (مدرسة النهضة العلمية) بسيوون وجدد نظام تدريسها. ثم أصدر سنة 1349هـ مجلة «التهذيب» مع نخبة من الأدباء الشبان، وبقيت تصدر لمدة عام، وكانت منبراً للإصلاح الاجتماعي وللأدب في آن.
وفي سنه المبكرة تلك راسل طائفة من كبار كتاب عصره وأدبائه أمثال شكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب. وقد بات واضحاً أن عالم الأدب هو عالمه الأعمق والأرحب.
وكانت مصر، بلد أمير الشعر شوقي، قد لاحت له أفقاً يرتحل إليه، يقضي به زمام الشعر وأمير الشعر شوقي، وكان شديد الإعجاب به. إلا أن القدر فاته به، فقد توفي شوقي في سنة 1932 فشيعه من بعيد بـ «دمعة حضرموت على أمير الشعراء»:
سائلوا الدنيا وصيحوا في البشر
ما دهى الشمس وما غال القمر
وكان حينذاك في عدن في طريقه إلى مصر، فكسر ذلك عزمه، وبقي مهوماً سنتين يضرب في أطراف اليمن، ويلم بالحبشة والصومال، متلبثاً من مدنهما في بربرة وأديس أبابا وجيبوتي، ويلقي عصا ترحاله في الحجاز أمداً وفي مكة المكرمة عند أخواله من آل بابسيط، وفي المدينة المنورة والطائف عند أصدقائه.
وكانت سمعته شاعراً قد سبقته إلى الحجاز، فرحبت بمقدمه بعض صحفها هناك بوصفه شاعر حضرموت.
واستكمل باكثير تحصيله العلمي والأدبي في رحلته تلك، وقال الشعر، شأنه أبداً، شجناً شخصياً وهاجساً عاماً، وضمن همومه حتى شعر المناسبات والإخوانيات. قال مخاطباً صديقه عمر بلخير في أعقاب حفل مدرسي:
آه على بلاد
مهيضة الجناح
أودت بها نفوس
عطشى من الصلاح
وليس هذا شعري
لكنه جراحي
نَكَأتها فسالت
كمبضع الجرّاح
إلا أنه في الطائف في الحجاز، وقف لأول مرة، على مسرح شوقي الشعري، وكان ذلك كشفاً مباغتاً له، وكان لاطلاعه على مسرح شوقي هذا «أثر كبير في نفسه، هزه من الأعماق، وأراه لأول مرة في حياته كيف يمكن للشعر أن يكون ذا مجال واسع في الحياة، حين يخرج عن نطاق ذاتية قائله إلى عالم فسيح يتسع لكل قصة في التاريخ أو حدث من الأحداث». وقد شعر برغبة جامحة في محاكاة هذا اللون الجديد الذي وجده عند شوقي.
وهكذا ولدت «همام أو في عاصمة الأحقاف» في الصيف في الطائف، معبراً باكثير بها شعراً منظوماً عن هاجسيه الكبيرين: حبه العذري لزوجه وأحوال بلاده، لتكون الخطوة الأولى في انتقاله الكامل من أفق من آفاق الفن إلى أفق آخر أرحب وأشمل، وسيكون ذلك، بأسبابه ودواعيه، في مصر التي ارتحل إليها أواخر سنة 1933 أو أوائل سنة 1934 وحياها بقصيدة عالية العبارة جياشة العاطفة.
يا مصر هاج البلبل التغريد
والأيك أنت وماؤك المورود
وافاك من أقصى الجزيرة شاعر
تطوى البحار له وتطوى البيد
من حيث عاد في القديم تجبرت
وتلا أناجيل الهداية هود
وهاهو ذا على عتبة عالمه الجديد سيلتفت إلى الأزهر شيئاً، يرجو أن يتمم فيه تحصيله العلمي الأول، إلا أن الشاعر، حزم أمره فالتحق بقسم اللغة الإنكليزية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) «لّما بَلَغه أنه غني بالشعر الرفيع» وكان لا يزال يعد نفسه ليكون شاعراً كبيراً، فرجا «أن تفتح له هذه الدراسة آفاقاً جديدة في الشعر». إلا أن ما انتهى إليه كان أكبر مما كان يقدره، وأكثرمن مجرد وقوف على «نماذج من الشعر الرفيع»، وذلك أن هذه الدراسة قدغيرت من نظرته لمفهوم الأدب كله وحملته «على إعادة النظر في المقاييس الأدبية التي كانت عنده بتأثير ثقافته العربية»، واكتشف فيما اكتشف «انجذاب قلبه إلى المسرحية أكثر من انجذابه إلى فنون الأدب الأخرى». «وفتنه شكسبير واستهوته أعماله، لكونه يجمع بين الفن القديم الذي يحبه وبين هذا الفن الجديد الذي بدأ يكتشف في نفسه الاستجابة إليه، وهو فن المسرحية»، فترجم فصولاً من (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، ترجمها شعراً موزوناً مقفّى ونشرها في مجلة «الرسالة» التي كان يصدرها الزيات، إلا أنه بإزاء شكل جديد من أشكال الشعر ليس للعربية مثله، وقد كان هذا تحدياً استجاب له باكثير استجابة مضاعفة، اصطنع هذا الشكل الجديد في العربية، وطوع به نصاً من جنسه بالإنكليزية، وقد كان هذا من مسرح شكسبير خاصة، ومن مسرحية «روميو وجولييت».
وقد أغرى باكثير نجاح تجربته، فاصطنع نصاً مسرحياً مؤلفاً هذه المرة، عبر فيه عن توجهه القومي، وقد كان هذا في مسرحيته «أخناتون ونفرتيتي» التي كتبها سنة 1938 ونشرها سنة 1940. وقد استوى باكثير منذ ذلك الحين على طريقه في الأدب، متطوراً بهذا الفن، شكلاً ومضموناً، بالقدر الذي تعين عليه طاقاته الأدبية والثقافية وأوضاع عصره.
تخرج باكثير في الجامعة سنة 1939 وفي معهد المعلمين سنة 1940، وبقي يدرس أربع عشرة سنة، وكان ماضياً في كتابة أكثر من شكل أدبي في أثناء ذلك، ومشاركاً في الحياة الأدبية من وجهها الإنساني وكانت له صداقات كثيرة مع أدباء عصره وشعرائه، ومع رواد (ندوة كازينو أوبرا) التي كان قطبها نجيب محفوظ، ولباكثير فيه قصائد ينزله فيها في منزلته من الأدب، وألف معه ومع عادل كامل وعبد الحميد جودة السحار لجنة النشر للجامعيين، وكان من رواد الندوة، مع عادل كامل، ومحمد عفيفي وأمين يوسف غراب، وكان باكثير حينذاك أكثرهم إنتاجاً، وله في المسرح أعمال ناجحة.
وكان في أثناء ذلك قد تزوج سيدة مصرية سنة1942 بقي معها إلى أن توفي، ثم حصل على الجنسية المصرية سنة 1953. وكانت هذه الحقبة حقبة أوج في حياته الأدبية، فقد كان المسرح القومي ابتداء من سنة 1947 يفتتح بأعمال باكثير، من مثل: «سر الحاكم بأمر الله» و«مسمار جحا» و«سر شهرزاد» و«أبو دلامة مضحك الخليفة»، وبقي هذا حتى سنة 1954.
وفي سنة 1954 سافر في بعثة دراسة حرة إلى فرنسة، وزار سنة 1956 رومانية والاتحاد السوفييتي (سابقاً) عضواً في وفد أدباء مصر بدعوة من اتحاد الكتاب في البلدين المذكورين. وفي سنة 1958 سافر إلى طشقند ممثلاً الجمهورية العربية المتحدة في مؤتمر كتاب آسيا وإفريقية الأول.
وفي نيسان 1959 كتب مسرحية «الزعيم الأوحد» بطلب من المؤتمر القومي للثقافة والفنون، وفيها مثل مصر في مهرجان الشعر بدمشق. وفي سنة 1961 أحرز وسام العلوم والفنون، وفي سنة 1962 أحرز جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته «هاروت وماروت» وفي سنة 1963 أحرز وسام عيد العلم.
منحته الدولة منحة تفرغ لمدة ستنتين 1962ـ1964 من أجل إنجاز ملحمته الكبرى «ملحمة عمر». كان عضواً في مجلس الشعر والقصة، والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ونادي القصة وكان عباس محمود العقاد سنداً مكيناً له في المجلس الأعلى، وسيرثيه باكثير سنة وفاته 1964بقصيدته التي مطلعها:
كيف نرثيك يا أبا الشعراء
أنت فوق الرثاء فوق العزاء
نقل باكثير في سنواته الأخيرة إلى مصلحة الفنون مديراً للرقابة على المصنفات الفنية فجمد نفسه فنياً أولاً، بتوجيه الأديب الكبير يحيى حقي الذي كان رأس المصلحة، من أجل ألا يتهم بمحاباة نفسه، ثم جمد وظيفياً فيما بعد.
وفي نيسان سنة 1968 زار وطنه الأصلي حضرموت بعد استقلال اليمن الجنوبي يائساً من حياته الأدبية في القاهرة، ثم رجع من حضرموت أكثر يأساً. وفي جو اليأس هذا كان قد كتب مسرحيته «التوراة الضائعة»، وهي آخر أعماله المسرحية، كتبها بعد نكسة 1967، ونشرت بعد وفاته بأسابيع.
وكثرت أسفاره سنة 1969 وحضر في نيسان منها مؤتمر الأدباء العرب السابع في بغداد، وكان قد شارك قبله في مهرجان الشعر الخامس في الاسكندرية وزار تركية للتعرف على مدينة القسطنطينية وأسوارها، ممنياً النفس بكتابة ملحمة عن حصار محمد الفاتح لها.
وزار لندن، وتلقى عرضاً من صديقه المستشرق سارجنت للتدريس بقسم الدراسات الشرقية بجامعة كمبردج، وعرضاً من القسم الأدبي (العربي) بهيئة الإذاعة البريطانية. ورجع إلى القاهرة ليعد العدة للرحيل، إلا أنه ارتحل رحلة أخرى، فقد توفي في العاشر من تشرين الثاني إثر نوبة قلبية حادة.
عز الدين النجار
Bakathir (Ali Ahmad-) - Bakathir (Ali Ahmad-)
باكثير (علي أحمد ـ)
(نحو1910 ـ 1969)
علي أحمد باكثير أديب مسرحي وروائي وشاعر، من الرواد في الأدب العربي الحديث ومن رجال النهضة، ودعاة الإصلاح الاجتماعي، ومن المجددين في أساليب التعليم، والمتأثرين بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد عبد الوهاب.
ولد باكثير في سورابايا بجزيرة جاوة بإندونيسية لأبوين عربيين من حضرموت. ويرجع نسبه إلى كِنْدةَ القبيلة اليمنية المعروفة. وقد ذكر باكثير هذا النسب في غير موضع من شعره:
ولي بعدُ بالضّلِّيل جَدَّيَ أُسْوةٌ
ومن يَتَقَيَّلْ جَدَّه لا يُضَلَّلِ
أرسله والده إلى سيوون (سيئون) بلده بحضرموت، على عادة الحضارمة، ليستقيم لسانه على العربية، وليتزود زاده الثقافي العربي، وكان في نحو العاشرة من عمره حينذاك.
وحبب إليه الشعر، فأقبل يلتهم ما يقع في يده من دواوينه، وكان مثله الأعلى من القدماء المتنبي، ومن المحدثين شوقي. وسرعان ما بلغت بالفتى مواهبه وأعراقه، والشعر في أسرته ملمح ظاهر، ففاض لسانه بالشعر، فقال الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وانقادت له القوافي والأوزان. ومع استحكام أصل الشعر في قلبه وفي طبيعته، استبد به هوى فني آخر، هو المسرح، ستكون له الغلبة فيما بعد على فن باكثير، وسيتأثر بهواجسه التي يريد أن يفرغها في منشآته وآثاره.
وكانت لقلب الشاعر تجربة وجد ستكون بوجهيها المشرق والقاتم ينبوع شعر ومصدر إلهام، وستلون بألوانها أيامه إلى آخر حياته. فقد كانت له قصة حب آسر كقصص القدماء، ثم أتيح له أن يقترن بمن يحب، إلا أن الموت غالها إثر مرض عضال، وغال ابنة له منها.
وكان واقع الناس الممض حوله رافداً فياضاً من روافد شعره وفكره، وأصلاً عظيماً من أصول حياته، لا جرم كان «ممتلئاً بالثورة على ما كان عليه بلده حضرموت من التخلف عن ركب الحضارة» فانغمس في العمل الاجتماعي، وتولى وهو دون العشرين إدارة (مدرسة النهضة العلمية) بسيوون وجدد نظام تدريسها. ثم أصدر سنة 1349هـ مجلة «التهذيب» مع نخبة من الأدباء الشبان، وبقيت تصدر لمدة عام، وكانت منبراً للإصلاح الاجتماعي وللأدب في آن.
وفي سنه المبكرة تلك راسل طائفة من كبار كتاب عصره وأدبائه أمثال شكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب. وقد بات واضحاً أن عالم الأدب هو عالمه الأعمق والأرحب.
وكانت مصر، بلد أمير الشعر شوقي، قد لاحت له أفقاً يرتحل إليه، يقضي به زمام الشعر وأمير الشعر شوقي، وكان شديد الإعجاب به. إلا أن القدر فاته به، فقد توفي شوقي في سنة 1932 فشيعه من بعيد بـ «دمعة حضرموت على أمير الشعراء»:
سائلوا الدنيا وصيحوا في البشر
ما دهى الشمس وما غال القمر
وكان حينذاك في عدن في طريقه إلى مصر، فكسر ذلك عزمه، وبقي مهوماً سنتين يضرب في أطراف اليمن، ويلم بالحبشة والصومال، متلبثاً من مدنهما في بربرة وأديس أبابا وجيبوتي، ويلقي عصا ترحاله في الحجاز أمداً وفي مكة المكرمة عند أخواله من آل بابسيط، وفي المدينة المنورة والطائف عند أصدقائه.
وكانت سمعته شاعراً قد سبقته إلى الحجاز، فرحبت بمقدمه بعض صحفها هناك بوصفه شاعر حضرموت.
واستكمل باكثير تحصيله العلمي والأدبي في رحلته تلك، وقال الشعر، شأنه أبداً، شجناً شخصياً وهاجساً عاماً، وضمن همومه حتى شعر المناسبات والإخوانيات. قال مخاطباً صديقه عمر بلخير في أعقاب حفل مدرسي:
آه على بلاد
مهيضة الجناح
أودت بها نفوس
عطشى من الصلاح
وليس هذا شعري
لكنه جراحي
نَكَأتها فسالت
كمبضع الجرّاح
إلا أنه في الطائف في الحجاز، وقف لأول مرة، على مسرح شوقي الشعري، وكان ذلك كشفاً مباغتاً له، وكان لاطلاعه على مسرح شوقي هذا «أثر كبير في نفسه، هزه من الأعماق، وأراه لأول مرة في حياته كيف يمكن للشعر أن يكون ذا مجال واسع في الحياة، حين يخرج عن نطاق ذاتية قائله إلى عالم فسيح يتسع لكل قصة في التاريخ أو حدث من الأحداث». وقد شعر برغبة جامحة في محاكاة هذا اللون الجديد الذي وجده عند شوقي.
وهكذا ولدت «همام أو في عاصمة الأحقاف» في الصيف في الطائف، معبراً باكثير بها شعراً منظوماً عن هاجسيه الكبيرين: حبه العذري لزوجه وأحوال بلاده، لتكون الخطوة الأولى في انتقاله الكامل من أفق من آفاق الفن إلى أفق آخر أرحب وأشمل، وسيكون ذلك، بأسبابه ودواعيه، في مصر التي ارتحل إليها أواخر سنة 1933 أو أوائل سنة 1934 وحياها بقصيدة عالية العبارة جياشة العاطفة.
يا مصر هاج البلبل التغريد
والأيك أنت وماؤك المورود
وافاك من أقصى الجزيرة شاعر
تطوى البحار له وتطوى البيد
من حيث عاد في القديم تجبرت
وتلا أناجيل الهداية هود
وهاهو ذا على عتبة عالمه الجديد سيلتفت إلى الأزهر شيئاً، يرجو أن يتمم فيه تحصيله العلمي الأول، إلا أن الشاعر، حزم أمره فالتحق بقسم اللغة الإنكليزية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) «لّما بَلَغه أنه غني بالشعر الرفيع» وكان لا يزال يعد نفسه ليكون شاعراً كبيراً، فرجا «أن تفتح له هذه الدراسة آفاقاً جديدة في الشعر». إلا أن ما انتهى إليه كان أكبر مما كان يقدره، وأكثرمن مجرد وقوف على «نماذج من الشعر الرفيع»، وذلك أن هذه الدراسة قدغيرت من نظرته لمفهوم الأدب كله وحملته «على إعادة النظر في المقاييس الأدبية التي كانت عنده بتأثير ثقافته العربية»، واكتشف فيما اكتشف «انجذاب قلبه إلى المسرحية أكثر من انجذابه إلى فنون الأدب الأخرى». «وفتنه شكسبير واستهوته أعماله، لكونه يجمع بين الفن القديم الذي يحبه وبين هذا الفن الجديد الذي بدأ يكتشف في نفسه الاستجابة إليه، وهو فن المسرحية»، فترجم فصولاً من (الليلة الثانية عشرة) لشكسبير، ترجمها شعراً موزوناً مقفّى ونشرها في مجلة «الرسالة» التي كان يصدرها الزيات، إلا أنه بإزاء شكل جديد من أشكال الشعر ليس للعربية مثله، وقد كان هذا تحدياً استجاب له باكثير استجابة مضاعفة، اصطنع هذا الشكل الجديد في العربية، وطوع به نصاً من جنسه بالإنكليزية، وقد كان هذا من مسرح شكسبير خاصة، ومن مسرحية «روميو وجولييت».
وقد أغرى باكثير نجاح تجربته، فاصطنع نصاً مسرحياً مؤلفاً هذه المرة، عبر فيه عن توجهه القومي، وقد كان هذا في مسرحيته «أخناتون ونفرتيتي» التي كتبها سنة 1938 ونشرها سنة 1940. وقد استوى باكثير منذ ذلك الحين على طريقه في الأدب، متطوراً بهذا الفن، شكلاً ومضموناً، بالقدر الذي تعين عليه طاقاته الأدبية والثقافية وأوضاع عصره.
تخرج باكثير في الجامعة سنة 1939 وفي معهد المعلمين سنة 1940، وبقي يدرس أربع عشرة سنة، وكان ماضياً في كتابة أكثر من شكل أدبي في أثناء ذلك، ومشاركاً في الحياة الأدبية من وجهها الإنساني وكانت له صداقات كثيرة مع أدباء عصره وشعرائه، ومع رواد (ندوة كازينو أوبرا) التي كان قطبها نجيب محفوظ، ولباكثير فيه قصائد ينزله فيها في منزلته من الأدب، وألف معه ومع عادل كامل وعبد الحميد جودة السحار لجنة النشر للجامعيين، وكان من رواد الندوة، مع عادل كامل، ومحمد عفيفي وأمين يوسف غراب، وكان باكثير حينذاك أكثرهم إنتاجاً، وله في المسرح أعمال ناجحة.
وكان في أثناء ذلك قد تزوج سيدة مصرية سنة1942 بقي معها إلى أن توفي، ثم حصل على الجنسية المصرية سنة 1953. وكانت هذه الحقبة حقبة أوج في حياته الأدبية، فقد كان المسرح القومي ابتداء من سنة 1947 يفتتح بأعمال باكثير، من مثل: «سر الحاكم بأمر الله» و«مسمار جحا» و«سر شهرزاد» و«أبو دلامة مضحك الخليفة»، وبقي هذا حتى سنة 1954.
وفي سنة 1954 سافر في بعثة دراسة حرة إلى فرنسة، وزار سنة 1956 رومانية والاتحاد السوفييتي (سابقاً) عضواً في وفد أدباء مصر بدعوة من اتحاد الكتاب في البلدين المذكورين. وفي سنة 1958 سافر إلى طشقند ممثلاً الجمهورية العربية المتحدة في مؤتمر كتاب آسيا وإفريقية الأول.
وفي نيسان 1959 كتب مسرحية «الزعيم الأوحد» بطلب من المؤتمر القومي للثقافة والفنون، وفيها مثل مصر في مهرجان الشعر بدمشق. وفي سنة 1961 أحرز وسام العلوم والفنون، وفي سنة 1962 أحرز جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته «هاروت وماروت» وفي سنة 1963 أحرز وسام عيد العلم.
منحته الدولة منحة تفرغ لمدة ستنتين 1962ـ1964 من أجل إنجاز ملحمته الكبرى «ملحمة عمر». كان عضواً في مجلس الشعر والقصة، والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ونادي القصة وكان عباس محمود العقاد سنداً مكيناً له في المجلس الأعلى، وسيرثيه باكثير سنة وفاته 1964بقصيدته التي مطلعها:
كيف نرثيك يا أبا الشعراء
أنت فوق الرثاء فوق العزاء
نقل باكثير في سنواته الأخيرة إلى مصلحة الفنون مديراً للرقابة على المصنفات الفنية فجمد نفسه فنياً أولاً، بتوجيه الأديب الكبير يحيى حقي الذي كان رأس المصلحة، من أجل ألا يتهم بمحاباة نفسه، ثم جمد وظيفياً فيما بعد.
وفي نيسان سنة 1968 زار وطنه الأصلي حضرموت بعد استقلال اليمن الجنوبي يائساً من حياته الأدبية في القاهرة، ثم رجع من حضرموت أكثر يأساً. وفي جو اليأس هذا كان قد كتب مسرحيته «التوراة الضائعة»، وهي آخر أعماله المسرحية، كتبها بعد نكسة 1967، ونشرت بعد وفاته بأسابيع.
وكثرت أسفاره سنة 1969 وحضر في نيسان منها مؤتمر الأدباء العرب السابع في بغداد، وكان قد شارك قبله في مهرجان الشعر الخامس في الاسكندرية وزار تركية للتعرف على مدينة القسطنطينية وأسوارها، ممنياً النفس بكتابة ملحمة عن حصار محمد الفاتح لها.
وزار لندن، وتلقى عرضاً من صديقه المستشرق سارجنت للتدريس بقسم الدراسات الشرقية بجامعة كمبردج، وعرضاً من القسم الأدبي (العربي) بهيئة الإذاعة البريطانية. ورجع إلى القاهرة ليعد العدة للرحيل، إلا أنه ارتحل رحلة أخرى، فقد توفي في العاشر من تشرين الثاني إثر نوبة قلبية حادة.
عز الدين النجار