الفوتوغرافي فادي عبداللّه ثابت: خصوصية مدينة غزة هي مشروعي الفني الدائم
عدسة تصور روح المكان ووجوه المدينة والضوء المنفلت من غزّة.
الاثنين 2023/09/04
عدسة توثق جماليات التراجيديا اليومية
من اللحظات المتنوعة في غزة، وواقع الأمكنة والشخوص، رسم الفنان الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عبدالله ثابت هويته الفنية ليكون سفيرا لغزة ولأهاليها، يحمل كاميرته سلاحا يوثق به اللحظات والمشاعر والأحداث النادرة دون الاعتماد على منهج وحيد أو مدرسة جمالية واحدة، بل هو منفتح على كل الأساليب والمدارس، هدفه من ذلك التعريف بخصوصية مدينة غزة.
التصوير الفوتوغرافي الفنّي عملة نادرة وسط الكمّ الهائل من الصور الملتقطة. لا يصير المنجز فنّا بدون رؤى الجوهر والرمز وإجراء معادلة الفعل عبر هذا التمشّي. في هذا الإطار نلفت الانتباه إلى مشروع جمالي حقيقي يمشي في تشييده الفنان الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عبداللّه ثابت بخطى واثقة، حيث يتشكل الفعل المكاني (غزّة) بمتعلّقاته مع ملامح الإنسان (مواطن غزّة) باختلاجاته وتبعاته المتعدّدة، هذه الثنائيّة الغزّاويّة – إن صحّت العبارة – تخلق مشهديّة حركيّة في ذهن المتلقّي.
إنه يقدم منجزا يحتوي مساحة فنيّة تتجاوز منطق الالتقاط إلى تشكيل مشهدية للصدى والبوح من خلف التثبيت الجامد. هذا ينخرط ضمن المنحى الإبداعي الذي يتجاوز المعطى اللحظي إلى بناء صورة دائمة متسائلة كي تحمل قضية ورأيا للتعبير والمقاومة. من هنا يمكن الحديث عن فن التصوير الفوتوغرافي وليس مهنة التصوير الفوتوغرافي. صور ثابت وعوالمها بطاقات نفسيّة وجماليّة، تفيض على واقع اللحظة لتسحب إليها اهتمام الآخر وتعرّف بجوهر غزّة المدينة وباختلاجات سكّانها.
فادي عبدالله ثابت فلسطيني من مدينة غزّة كما يسميها الفنّان “مدينة الأحلام المؤجّلة والعتمة التي أنهكها الحصار والقصف والدمار والألم “، متزوّج وأب لخمسة أبناء، درس بكالوريوس التربية الفنيّة ويعمل معلّما لمادة التربية الفنية في مدارس الأونروا للاجئين الفلسطينيّين. انبلجت فسائل رغبته الفنيّة مبكّرا من خلال الرسم والخط العربي، ثم الغناء والموسيقى إلى جانب الكتابة. مارس الفن وبحث فيه كدراسة أكاديميّة في سياقات مختلفة كالنحت والرسم والتصوير والخط العربي والمسرح والتصميم وتاريخ الفنون ومدارس الفنون.
بدأ في عالم التصوير متأخّرا في حدود سنة 2006 وكانت المفاجأة هي طريقه إلى ولوج هذا الفن، عن هذه المرحلة يتحدّث “حصل معي موقف في إحدى الرحلات مع الأصدقاء حيث سمعت صوتا أيقظ في داخلي شيئا غريبا ‘صوت شتر الكاميرا’ وكأنّ هذا الصوت عبارة عن دلو ماء بارد سُكب على رأس فوتوغرافي كان ينام في أحشائي، فاستيقظ يجري وبيده كاميرا مطاردا الضوء في كلّ اتجاه. من هنا بدأت رحلة الشغف وملاحقة الضوء ودهشة الأشياء الأولى. عاش ظروفا صعبة لكن الفوتوغرافيا أخذت بيده واستطاعت تحويل مساره إيجابيّا. كنت في عزلة تامّة وصمت مطبق لكن الفوتوغرافيا مدّتني بجسور من الحوار والتواصل العظيم”.
تشكيل للذات
كان الوضع في مدينة غزّة صعبا وعلاقة الفنان بالآخرين تكون شبه منعدمة، كان أقرب إلى الأشياء وتفاصيلها، وسط هذا الوضع كانت الحيرة تتملّكه والأسئلة تطوف بذهنه عن كيفيّة الفعل. “كان الواقع يشعّ قسوة ومذلّة، انكسار، حصار، استبداد. وصعب أن تبقى الروح الحرّة المتّصلة المتطوّرة صامتة دون فعل شيء. كان هناك شيء داخلي يحكي لي ‘أنت مش عادي لازم تعمل شيء أي شيء’ فكانت الفوتوغرافيا”.
كان التصوير الفوتوغرافي مساحة لاستيعاب العالم من حوله وتجديدا لرؤيته حول الأمكنة والنّاس. أعاد تشكيل ارتباطه بالآخرين عبر الكاميرا وربط خيط المعنى مع تمثّلات الواقع من حولهم، في مستوى طرح قضاياهم ومن ناحية أخرى عبر إعادة حضوره كفاعل بينهم من خلال حمل قضاياهم والتعريف بها، وحسب تعبيره “التصوير علّمني أن أحبّ الناس وأتعاطف مع قضاياهم، وأكون بنفس خندقهم الذي يقاتلون فيه من أجل حرّيتهم المسلوبة. التصوير مقاومة مؤثّرة. كنت أشعر أن هذا العالم الجديد يبعث الرعب ويتسلّى بالبسطاء ويطبق عليهم أحلامهم في غرف تشبه علب السردين العفن”.
• صور الفوتوغرافي ثابت وعوالمها بطاقات نفسيّة وجماليّة، تفيض على واقع اللحظة لتسحب إليها اهتمام الآخر
الفوتوغرافيا غيّرت مسار حياته حيث آمن بالأرواح وتقاطعها وتجاذبها وتقابلها وأنّ هناك طاقة أكبر تحرّك مسار الحياة. لا يوجد شيء صدفة أو اعتباطا، كلّ شيء محسوب ومدروس باللحظة والرمشة وارتداد الطرف، ناهيك عن امتلاء الروح بالتأمّل والشغف والدهشة والضوء؛ كتل من ضوء وحب وتواصل وحياة. تحوّلت معه الكاميرا إلى عاشقة صوفيّة ومناضلة ميدانيّة، ويضيف في هذا السياق “الفوتوغرافيا طقوس صلاة وعبادة وروح سامية موصولة بعالم غير عالم العاديين. أنا عمليّا ما بدّي شيء كتير، بدّي أوصل رسالة البسطاء والكادحين وأكون بصفهم وجنبهم، رسالتي إنسانيّة بحتة لا أريد منصبا ولا شهرة. الفوتوغرافيا تعلّم الإيمان الحقيقي الخالص”.
خصوصية غزة
في صور ثابث طرح مهمّ وتركيز على الملامح والهامشي وتثبيت لتصوير الإحساس البشري. صوره دلالة على مسيرة الحياة عبر الوجوه البشريّة؛ هذه الرؤية التي تبحث في الوجوه من خلال تفاصيلها: الخطوط، الألوان، التعبيرات، الحزن، الألم، الفرح المسلوب.. يجريها الفنّان من خلال الاشتباك الساخن بين الفكرة والملمح، هذه الإجرائيّة التصويريّة تفتح مشهديّة تساؤليّة إنسانيّة؛ بين صوت “الشتر” وصوت ونبض وأنفاس الوجوه حوار معقّد بين الكاميرا والضوء والروح والقلب والجسد.
وفي تعبيره عن هذا التمشّي يقول “لن تموت الأحلام التي رسمت على الجدران، ملامح غزّة جزء من هذا الكون. تتلاقى الألوان فيها وتغيب وتتداخل في تفاصيل الوقت على جدرانها وتشقّقات البؤس على أسفلتها. تلك الملامح هي لأطفال بعيون ملوّنة وبشرة ملوّحة بالشمس مرطّبة بالبحر. وجوه كاميرتي المعنونة دائما بغزة ليست مجرّد صور لوجوه جميلة، بل لغة جديدة لغزّة المحاصرة، لغة بعيدة كل البعد عن اللغات التي يصدرّها الإعلام للعالم، لغة تقول ما لا يريد العالم أن يسمعه وما لا يجرؤ البؤس والدمار على تشويه جماليته”.
في صور ثابت تصبح الملامح الحكّاء البصري الوحيد الذي يحكي غزّة بالجماليات المتفجّرة من بين الركام. في تعقّب تلك الملامح والوجوه اكتشاف لجماليات التراجيديا اليوميّة من خلال معاناة الأطفال وثيابهم الرثّة، ومحاربتهم من أجل خبزهم اليومي. هذا إلى جانب تفاصيل ضحايا الاعتداءات والحروب المتكرّرة والمتواصلة ومعاناتهم اليوميّة. في صور ثابث جوهر مقاومي يحاول تسليط الضوء على الجانب المشرق الذي يسكن أرواحهم ويأبى الاستسلام للعتمة. كلّها معان تتضمّنها الوجوه لتتمكّن تلك الصور من الكلام، فيستمع من يراها إلى صرير العجلات وقهقهات العجائز وأصوات الباعة المتجوّلين والأطفال وهم يلعبون، حتّى الصمت الذي يرتسم على ملامح بورتريهات المدينة يمكن سماع صوته؛ فلكلّ وجه تأمّلات وأحلام وأفكار وآراء مختلفة يلتقطها المصور من خلال تثبيت اللحظة التي تقول كلّ شيء.
عن خلاصة مشروعه الفنّي تحدّث فادي، قائلا “مشروعي الفنّي الدائم هو وجوه المدينة وروح المكان، خصوصية مدينة غزّة بغضّ النظر عن الأساليب والمدارس الفنيّة. أنا أجرّب ولا أجعل للضوء أي مهرب منّي؛ لذلك أحاول التجريب مرّة تلو الأخرى. الصور تأتي لوحدها، هناك من يُرسلها إليّ عبر الأثير بصفاتها وألوانها ومنظورها وكُنهها وتفاصيلها، صدقا لم أتأثّر بأي مدرسة. لا زلت قيد البحث فلم أتخصّص ولا أنوي التخصّص. أنا مختلف قليلا وللحكاية بقية”.
وباعتبار أنّ الفنّ رسالة إنسانيّة سامية، فإنّ الفنّان من خلال عمله وموهبته يطلق العنان لطاقة الحب ونشر الخير وبث روح العطاء وزرع بذور الأمل في كلّ مكان. يصبح هذا الدور مضاعفا خلال المراحل الاستثنائيّة واللحظات الحرجة ولعلّ النشاط في مدينة كغزّة يتوجّب توجّها خاصّا، وهذا ما يعرّفه فادي ثابت بقوله “كان لا بدّ من تبنّي موقف أو قضية – خصوصا – في مدينة كمدينة غزّة، التي أرهقها الموت والظلمة والحصار وانقطاع الكهرباء، وكأنّ الله يريد لمن يعيش في ظروف غير عاديّة أن يكون أيضا غير عادي؛ ليحاول جاهدا حمل جزء من الدفاع عن قضايا وطنه وأهله، فدور الفنون والرهان عليها مهمّان جدّا في إيقاظ الشعوب ولا يقلّ دورها عن أي دور آخر”.
ويشير ثابت إلى أهميّة رسالة الفوتوغرافيا كدرب من دروب الحكمة باعتبارها صراعا ساخنا بين الروح والعقل والجسد من جهة، والطبيعة وأسرارها وخفاياها من جهة أخرى. ويضيف “هدف الفنان هو تسليط الضوء من خلال عدسته على قضايا الناس وظروفهم، لتوثيق اللحظة التي يعيشونها سواء كانت فرحا أو سعادة أو ألما أو حربا، فأنت تجمّد اللحظات من عمر الوقت لتكون الصور خير شاهد على هذه الظروف”.
هذا ما نجد له ترجمة في صور ثابت من خلال إظهار قصص الأطفال الذين أكلتهم الحرب وأعيتهم الصدمات النفسيّة من الواقع الأليم الذي تخلّفه الحروب وصوت الطائرات الحربيّة والقصف المُركّز وأصوات الانفجارات المتتالية.
ويؤكّد ثابت “نحن في غزّة عشنا ونعيش ظروفا صعبة للغاية، كلّ شيء معقّد جدا، حرمنا من أبسط الحقوق التي كفلتها مواثيق حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف للأطفال؛ لذلك كأنّ الله يريد أن تصل رسالة هؤلاء الأبرياء ولو عن طريق مصور فوتوغرافي (…) والعلاقة بين عدستي وهؤلاء الأطفال – أقولها بكلّ صدق – أصبحت سفيرا لهم ولبؤسهم وأنا أعتزّ وأتشرّف بهذا التكليف الذي فرضته الكاميرا عليّ، لأكون منهم ويكونوا منّي. الفوتوغرافيا مسؤولية لمن أخذها بحقها وأكرّر هي ليست للتسلية وقضاء الوقت. هذه رسالة وهدف كبيران”.
سفير الصورة الفلسطينية
• في صور ثابت تصبح الملامح الحكّاء البصري الوحيد الذي يحكي غزّة بالجماليات المتفجّرة من بين الركام
يمكن القول إن مشروع ثابت هو إقامة دائمة في نظريّة الفنّ بما هو رسالة. يتجاوز منطقة الفن للفن إلى رقعة النضال الاجتماعي والإنساني. في تفسير هذا التوجّه يشير إلى أنّ “الفوتوغرافيا هي رسالة الشعوب، والفن لا بدّ أن يخرج من كونه مخمليّا إلى الاحتكاك بحياة العامّة؛ ليوصل الرسالة المطلوبة منه بصدق وشفافيّة، لتعثر على أبطالك الحقيقيّين الأبطال غير المزيّفين، ممن يستحقّون أن يطلق الغالق صلياته فخرا واعتزازا بهم وتحايا لهم. هؤلاء الأطفال هم ‘موديلز’ الظروف البشعة ونماذج الفقر والبؤس وأيضا في عيونهم ألف نموذج للأمل والمستقبل الواعد الجميل، في ظلّ تخلّي نماذج البدلات الباذخة وربطات العنق الملوّنة ستبقى العدسة تنصفهم على أنّهم أجمل وأبهى ما خلق الله. القدر وطاقة الكون الإيجابية هما من يرسلانهم في طريقي وأخشى أن أدّعي أن الفوتوغرافيا نبوة فيرجموني أو يصلبوني”.
• في صور ثابث تركيز على الملامح وتثبيت لتصوير الإحساس البشري، ودلالة على مسيرة الحياة عبر الوجوه البشرية
مشروع ثابت ينتمي إلى سياق ما طرحه غرامشي حول المثقّف العضوي. هذا التمشّي الذي ينحت معالمه ثابت ينطلق من المجتمع في تمفصلاته ليرسم عبر التقاطات الحياة والجدوى في رهان مكاني يدفع نحو اللامعنى. هذا النطاق الفنّي ينسج معادلة المكان والملمح البشري ليشي بجوهر مقاومي يرفع الفنّ إلى نطاق التمثيل الجمعي في ظلّ تهاوي مختلف الرؤى الأخرى. بهذا الجهد أصبحت صور ثابت لغة وجوهرا تعريفيّا لواقع غزة.
عن هذا التوجّه وعن دوره كسفير للصورة الفلسطينيّة يشرح ثابت، قائلا “أنا حملت صور الناس في غزّة وجبت العالم لتوصيل رسالتهم الإنسانيّة سواء بالمعارض أو المقالات أو اللقاءات التلفزيونية. ورغم الحصار والمنع كنّا نفتح نوافذ وشبابيك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لنعبر كلّ الفضاءات والمدارات لتصل الصورة والرسالة. بالنسبة إلى المسمّى أطلقته عليّ وسائل الإعلام عندما زرت لبنان ونظّمت أكثر من معرض تحت مسمّى ‘ضوء من غزة’. ما أعرفه أنّني رسول وسفير لهؤلاء الأطفال أحملهم في عيني وبين يدي وأحمل قضاياهم إلى العالم أجمع، ليرى العالم الذي يتشدّق بالحقوق والحريات أنّ هناك بقعة في الكون اسمها غزّة تستحقّ العيش والحياة كباقي مدن العالم”.
حامد محضاوي
عدسة تصور روح المكان ووجوه المدينة والضوء المنفلت من غزّة.
الاثنين 2023/09/04
عدسة توثق جماليات التراجيديا اليومية
من اللحظات المتنوعة في غزة، وواقع الأمكنة والشخوص، رسم الفنان الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عبدالله ثابت هويته الفنية ليكون سفيرا لغزة ولأهاليها، يحمل كاميرته سلاحا يوثق به اللحظات والمشاعر والأحداث النادرة دون الاعتماد على منهج وحيد أو مدرسة جمالية واحدة، بل هو منفتح على كل الأساليب والمدارس، هدفه من ذلك التعريف بخصوصية مدينة غزة.
التصوير الفوتوغرافي الفنّي عملة نادرة وسط الكمّ الهائل من الصور الملتقطة. لا يصير المنجز فنّا بدون رؤى الجوهر والرمز وإجراء معادلة الفعل عبر هذا التمشّي. في هذا الإطار نلفت الانتباه إلى مشروع جمالي حقيقي يمشي في تشييده الفنان الفوتوغرافي الفلسطيني فادي عبداللّه ثابت بخطى واثقة، حيث يتشكل الفعل المكاني (غزّة) بمتعلّقاته مع ملامح الإنسان (مواطن غزّة) باختلاجاته وتبعاته المتعدّدة، هذه الثنائيّة الغزّاويّة – إن صحّت العبارة – تخلق مشهديّة حركيّة في ذهن المتلقّي.
إنه يقدم منجزا يحتوي مساحة فنيّة تتجاوز منطق الالتقاط إلى تشكيل مشهدية للصدى والبوح من خلف التثبيت الجامد. هذا ينخرط ضمن المنحى الإبداعي الذي يتجاوز المعطى اللحظي إلى بناء صورة دائمة متسائلة كي تحمل قضية ورأيا للتعبير والمقاومة. من هنا يمكن الحديث عن فن التصوير الفوتوغرافي وليس مهنة التصوير الفوتوغرافي. صور ثابت وعوالمها بطاقات نفسيّة وجماليّة، تفيض على واقع اللحظة لتسحب إليها اهتمام الآخر وتعرّف بجوهر غزّة المدينة وباختلاجات سكّانها.
فادي عبدالله ثابت فلسطيني من مدينة غزّة كما يسميها الفنّان “مدينة الأحلام المؤجّلة والعتمة التي أنهكها الحصار والقصف والدمار والألم “، متزوّج وأب لخمسة أبناء، درس بكالوريوس التربية الفنيّة ويعمل معلّما لمادة التربية الفنية في مدارس الأونروا للاجئين الفلسطينيّين. انبلجت فسائل رغبته الفنيّة مبكّرا من خلال الرسم والخط العربي، ثم الغناء والموسيقى إلى جانب الكتابة. مارس الفن وبحث فيه كدراسة أكاديميّة في سياقات مختلفة كالنحت والرسم والتصوير والخط العربي والمسرح والتصميم وتاريخ الفنون ومدارس الفنون.
بدأ في عالم التصوير متأخّرا في حدود سنة 2006 وكانت المفاجأة هي طريقه إلى ولوج هذا الفن، عن هذه المرحلة يتحدّث “حصل معي موقف في إحدى الرحلات مع الأصدقاء حيث سمعت صوتا أيقظ في داخلي شيئا غريبا ‘صوت شتر الكاميرا’ وكأنّ هذا الصوت عبارة عن دلو ماء بارد سُكب على رأس فوتوغرافي كان ينام في أحشائي، فاستيقظ يجري وبيده كاميرا مطاردا الضوء في كلّ اتجاه. من هنا بدأت رحلة الشغف وملاحقة الضوء ودهشة الأشياء الأولى. عاش ظروفا صعبة لكن الفوتوغرافيا أخذت بيده واستطاعت تحويل مساره إيجابيّا. كنت في عزلة تامّة وصمت مطبق لكن الفوتوغرافيا مدّتني بجسور من الحوار والتواصل العظيم”.
تشكيل للذات
كان الوضع في مدينة غزّة صعبا وعلاقة الفنان بالآخرين تكون شبه منعدمة، كان أقرب إلى الأشياء وتفاصيلها، وسط هذا الوضع كانت الحيرة تتملّكه والأسئلة تطوف بذهنه عن كيفيّة الفعل. “كان الواقع يشعّ قسوة ومذلّة، انكسار، حصار، استبداد. وصعب أن تبقى الروح الحرّة المتّصلة المتطوّرة صامتة دون فعل شيء. كان هناك شيء داخلي يحكي لي ‘أنت مش عادي لازم تعمل شيء أي شيء’ فكانت الفوتوغرافيا”.
كان التصوير الفوتوغرافي مساحة لاستيعاب العالم من حوله وتجديدا لرؤيته حول الأمكنة والنّاس. أعاد تشكيل ارتباطه بالآخرين عبر الكاميرا وربط خيط المعنى مع تمثّلات الواقع من حولهم، في مستوى طرح قضاياهم ومن ناحية أخرى عبر إعادة حضوره كفاعل بينهم من خلال حمل قضاياهم والتعريف بها، وحسب تعبيره “التصوير علّمني أن أحبّ الناس وأتعاطف مع قضاياهم، وأكون بنفس خندقهم الذي يقاتلون فيه من أجل حرّيتهم المسلوبة. التصوير مقاومة مؤثّرة. كنت أشعر أن هذا العالم الجديد يبعث الرعب ويتسلّى بالبسطاء ويطبق عليهم أحلامهم في غرف تشبه علب السردين العفن”.
• صور الفوتوغرافي ثابت وعوالمها بطاقات نفسيّة وجماليّة، تفيض على واقع اللحظة لتسحب إليها اهتمام الآخر
الفوتوغرافيا غيّرت مسار حياته حيث آمن بالأرواح وتقاطعها وتجاذبها وتقابلها وأنّ هناك طاقة أكبر تحرّك مسار الحياة. لا يوجد شيء صدفة أو اعتباطا، كلّ شيء محسوب ومدروس باللحظة والرمشة وارتداد الطرف، ناهيك عن امتلاء الروح بالتأمّل والشغف والدهشة والضوء؛ كتل من ضوء وحب وتواصل وحياة. تحوّلت معه الكاميرا إلى عاشقة صوفيّة ومناضلة ميدانيّة، ويضيف في هذا السياق “الفوتوغرافيا طقوس صلاة وعبادة وروح سامية موصولة بعالم غير عالم العاديين. أنا عمليّا ما بدّي شيء كتير، بدّي أوصل رسالة البسطاء والكادحين وأكون بصفهم وجنبهم، رسالتي إنسانيّة بحتة لا أريد منصبا ولا شهرة. الفوتوغرافيا تعلّم الإيمان الحقيقي الخالص”.
خصوصية غزة
في صور ثابث طرح مهمّ وتركيز على الملامح والهامشي وتثبيت لتصوير الإحساس البشري. صوره دلالة على مسيرة الحياة عبر الوجوه البشريّة؛ هذه الرؤية التي تبحث في الوجوه من خلال تفاصيلها: الخطوط، الألوان، التعبيرات، الحزن، الألم، الفرح المسلوب.. يجريها الفنّان من خلال الاشتباك الساخن بين الفكرة والملمح، هذه الإجرائيّة التصويريّة تفتح مشهديّة تساؤليّة إنسانيّة؛ بين صوت “الشتر” وصوت ونبض وأنفاس الوجوه حوار معقّد بين الكاميرا والضوء والروح والقلب والجسد.
وفي تعبيره عن هذا التمشّي يقول “لن تموت الأحلام التي رسمت على الجدران، ملامح غزّة جزء من هذا الكون. تتلاقى الألوان فيها وتغيب وتتداخل في تفاصيل الوقت على جدرانها وتشقّقات البؤس على أسفلتها. تلك الملامح هي لأطفال بعيون ملوّنة وبشرة ملوّحة بالشمس مرطّبة بالبحر. وجوه كاميرتي المعنونة دائما بغزة ليست مجرّد صور لوجوه جميلة، بل لغة جديدة لغزّة المحاصرة، لغة بعيدة كل البعد عن اللغات التي يصدرّها الإعلام للعالم، لغة تقول ما لا يريد العالم أن يسمعه وما لا يجرؤ البؤس والدمار على تشويه جماليته”.
في صور ثابت تصبح الملامح الحكّاء البصري الوحيد الذي يحكي غزّة بالجماليات المتفجّرة من بين الركام. في تعقّب تلك الملامح والوجوه اكتشاف لجماليات التراجيديا اليوميّة من خلال معاناة الأطفال وثيابهم الرثّة، ومحاربتهم من أجل خبزهم اليومي. هذا إلى جانب تفاصيل ضحايا الاعتداءات والحروب المتكرّرة والمتواصلة ومعاناتهم اليوميّة. في صور ثابث جوهر مقاومي يحاول تسليط الضوء على الجانب المشرق الذي يسكن أرواحهم ويأبى الاستسلام للعتمة. كلّها معان تتضمّنها الوجوه لتتمكّن تلك الصور من الكلام، فيستمع من يراها إلى صرير العجلات وقهقهات العجائز وأصوات الباعة المتجوّلين والأطفال وهم يلعبون، حتّى الصمت الذي يرتسم على ملامح بورتريهات المدينة يمكن سماع صوته؛ فلكلّ وجه تأمّلات وأحلام وأفكار وآراء مختلفة يلتقطها المصور من خلال تثبيت اللحظة التي تقول كلّ شيء.
عن خلاصة مشروعه الفنّي تحدّث فادي، قائلا “مشروعي الفنّي الدائم هو وجوه المدينة وروح المكان، خصوصية مدينة غزّة بغضّ النظر عن الأساليب والمدارس الفنيّة. أنا أجرّب ولا أجعل للضوء أي مهرب منّي؛ لذلك أحاول التجريب مرّة تلو الأخرى. الصور تأتي لوحدها، هناك من يُرسلها إليّ عبر الأثير بصفاتها وألوانها ومنظورها وكُنهها وتفاصيلها، صدقا لم أتأثّر بأي مدرسة. لا زلت قيد البحث فلم أتخصّص ولا أنوي التخصّص. أنا مختلف قليلا وللحكاية بقية”.
وباعتبار أنّ الفنّ رسالة إنسانيّة سامية، فإنّ الفنّان من خلال عمله وموهبته يطلق العنان لطاقة الحب ونشر الخير وبث روح العطاء وزرع بذور الأمل في كلّ مكان. يصبح هذا الدور مضاعفا خلال المراحل الاستثنائيّة واللحظات الحرجة ولعلّ النشاط في مدينة كغزّة يتوجّب توجّها خاصّا، وهذا ما يعرّفه فادي ثابت بقوله “كان لا بدّ من تبنّي موقف أو قضية – خصوصا – في مدينة كمدينة غزّة، التي أرهقها الموت والظلمة والحصار وانقطاع الكهرباء، وكأنّ الله يريد لمن يعيش في ظروف غير عاديّة أن يكون أيضا غير عادي؛ ليحاول جاهدا حمل جزء من الدفاع عن قضايا وطنه وأهله، فدور الفنون والرهان عليها مهمّان جدّا في إيقاظ الشعوب ولا يقلّ دورها عن أي دور آخر”.
ويشير ثابت إلى أهميّة رسالة الفوتوغرافيا كدرب من دروب الحكمة باعتبارها صراعا ساخنا بين الروح والعقل والجسد من جهة، والطبيعة وأسرارها وخفاياها من جهة أخرى. ويضيف “هدف الفنان هو تسليط الضوء من خلال عدسته على قضايا الناس وظروفهم، لتوثيق اللحظة التي يعيشونها سواء كانت فرحا أو سعادة أو ألما أو حربا، فأنت تجمّد اللحظات من عمر الوقت لتكون الصور خير شاهد على هذه الظروف”.
هذا ما نجد له ترجمة في صور ثابت من خلال إظهار قصص الأطفال الذين أكلتهم الحرب وأعيتهم الصدمات النفسيّة من الواقع الأليم الذي تخلّفه الحروب وصوت الطائرات الحربيّة والقصف المُركّز وأصوات الانفجارات المتتالية.
ويؤكّد ثابت “نحن في غزّة عشنا ونعيش ظروفا صعبة للغاية، كلّ شيء معقّد جدا، حرمنا من أبسط الحقوق التي كفلتها مواثيق حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف للأطفال؛ لذلك كأنّ الله يريد أن تصل رسالة هؤلاء الأبرياء ولو عن طريق مصور فوتوغرافي (…) والعلاقة بين عدستي وهؤلاء الأطفال – أقولها بكلّ صدق – أصبحت سفيرا لهم ولبؤسهم وأنا أعتزّ وأتشرّف بهذا التكليف الذي فرضته الكاميرا عليّ، لأكون منهم ويكونوا منّي. الفوتوغرافيا مسؤولية لمن أخذها بحقها وأكرّر هي ليست للتسلية وقضاء الوقت. هذه رسالة وهدف كبيران”.
سفير الصورة الفلسطينية
• في صور ثابت تصبح الملامح الحكّاء البصري الوحيد الذي يحكي غزّة بالجماليات المتفجّرة من بين الركام
يمكن القول إن مشروع ثابت هو إقامة دائمة في نظريّة الفنّ بما هو رسالة. يتجاوز منطقة الفن للفن إلى رقعة النضال الاجتماعي والإنساني. في تفسير هذا التوجّه يشير إلى أنّ “الفوتوغرافيا هي رسالة الشعوب، والفن لا بدّ أن يخرج من كونه مخمليّا إلى الاحتكاك بحياة العامّة؛ ليوصل الرسالة المطلوبة منه بصدق وشفافيّة، لتعثر على أبطالك الحقيقيّين الأبطال غير المزيّفين، ممن يستحقّون أن يطلق الغالق صلياته فخرا واعتزازا بهم وتحايا لهم. هؤلاء الأطفال هم ‘موديلز’ الظروف البشعة ونماذج الفقر والبؤس وأيضا في عيونهم ألف نموذج للأمل والمستقبل الواعد الجميل، في ظلّ تخلّي نماذج البدلات الباذخة وربطات العنق الملوّنة ستبقى العدسة تنصفهم على أنّهم أجمل وأبهى ما خلق الله. القدر وطاقة الكون الإيجابية هما من يرسلانهم في طريقي وأخشى أن أدّعي أن الفوتوغرافيا نبوة فيرجموني أو يصلبوني”.
• في صور ثابث تركيز على الملامح وتثبيت لتصوير الإحساس البشري، ودلالة على مسيرة الحياة عبر الوجوه البشرية
مشروع ثابت ينتمي إلى سياق ما طرحه غرامشي حول المثقّف العضوي. هذا التمشّي الذي ينحت معالمه ثابت ينطلق من المجتمع في تمفصلاته ليرسم عبر التقاطات الحياة والجدوى في رهان مكاني يدفع نحو اللامعنى. هذا النطاق الفنّي ينسج معادلة المكان والملمح البشري ليشي بجوهر مقاومي يرفع الفنّ إلى نطاق التمثيل الجمعي في ظلّ تهاوي مختلف الرؤى الأخرى. بهذا الجهد أصبحت صور ثابت لغة وجوهرا تعريفيّا لواقع غزة.
عن هذا التوجّه وعن دوره كسفير للصورة الفلسطينيّة يشرح ثابت، قائلا “أنا حملت صور الناس في غزّة وجبت العالم لتوصيل رسالتهم الإنسانيّة سواء بالمعارض أو المقالات أو اللقاءات التلفزيونية. ورغم الحصار والمنع كنّا نفتح نوافذ وشبابيك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لنعبر كلّ الفضاءات والمدارات لتصل الصورة والرسالة. بالنسبة إلى المسمّى أطلقته عليّ وسائل الإعلام عندما زرت لبنان ونظّمت أكثر من معرض تحت مسمّى ‘ضوء من غزة’. ما أعرفه أنّني رسول وسفير لهؤلاء الأطفال أحملهم في عيني وبين يدي وأحمل قضاياهم إلى العالم أجمع، ليرى العالم الذي يتشدّق بالحقوق والحريات أنّ هناك بقعة في الكون اسمها غزّة تستحقّ العيش والحياة كباقي مدن العالم”.
حامد محضاوي