"نيويورك تايمز": أزمة محتملة في علم الكون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "نيويورك تايمز": أزمة محتملة في علم الكون

    اضغط على الصورة لعرض أكبر.   الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٩٠٥_١٣٠٦٢٧.jpg  مشاهدات:	0  الحجم:	107.4 كيلوبايت  الهوية:	154788 جورج عيسى
    صورة لـ"تلسكوب جيمس ويب الفضائي" التابع لـ"ناسا". تظهر الصورة، وسط نتوءات انحراف الضوء الأحمر، نجمين نشطين مترابطين في طور التكوين عمرها بضعة آلاف سنة. (وكالات الفضاء الأميركية والأوروبية والكندية).
    تدين البشريّة لـ"تلسكوب جيمس ويب الفضائيّ" بالحماسة التي تشعر بها مع كلّ صورة جديدة عن كون لا ينفكّ يأسر مخيّلتها. لكن بسببه أيضاً، قد تكون البشريّة أمام واحدة من أعمق الأزمات الوجوديّة منذ ما لا يقلّ عن قرن من الزمن.
    على الرغم من التقدّم المطّرد الذي حقّقه العلماء في فهم نشأة الكون وتطوّره، ننسى أحياناً بعض البديهيّات: من غير الضروريّ أن يسلك فهمنا للكون منحنى تصاعدياً ثابتاً. ربّما كان هذا ما خُيّل إلينا ونحن نجتاز عقبة علميّة تلو الأخرى، منذ ما يقرب من مئة عام. سنة 1929 اكتشف العالم الأميركيّ إدوين هابل (يصادف هذا الشهر الذكرى السبعين لوفاته) أنّ الكون يتوسّع. قبل ذلك، كان العلماء، وفي مقدّمتهم ألبرت أينشتاين، يظنّون أنّ الكون ثابت.
    منذ ذلك الاكتشاف، ومع التطوّر المطّرد في الحسابات وأجهزة الرصد، تمكّن العلماء من وضع "نموذج معياريّ" لطريقة عمله. هذا النموذج غير مكتمل، لكنّه كان النظريّة الأكثر تناسقاً لفهم آليّة عمل الكون. خضع هذا النموذج لتعديلات مستمرّة من أجل ملاءمة الحسابات أو البيانات المستجدّة. حتى وقت قريب، لم تكن بيانات كهذه تفرض الكثير من الجدل. لقد مثّلت بشكل أو بآخر طريقة لسدّ فجوات سابقة في النموذج المعياريّ. لكن ماذا لو كانت البيانات الأحدث، كتلك الصادرة عن "جيمس ويب" تفرض مراجعة لركائز هذا النموذج؟
    هذا ما لا يستبعده أستاذ الفيزياء الفلكيّة في جامعة روتشستر الدكتور آدم فرانك وأستاذ الفيزياء وعلم الفلك في جامعة دارتماوث الدكتور ماريو غلايزر. ليس هذا وحسب. بحسب رأيهما، قد نكون أمام بيانات تتطلّب ثورة جديدة في فهمنا للكون، وأكثر، في طريقة سردنا له.
    وكتبا في صحيفة "نيويورك تايمز":
    بعد فترة قصيرة على بدء تلسكوب جيمس ويب الفضائي إرسال صوره المذهلة للكواكب والسدم من الفضاء الخارجي السنة الماضية، تعيّن على علماء الفلك الاعتراف بوجود خطب ما، على الرغم من انبهارهم بالصور. بعد ثمانية أشهر، وبالاستناد جزئياً إلى ما كشفه التلسكوب، بدأ الأمر يبدو كما لو أنّنا قد نحتاج إلى إعادة تفكير بالسمات الرئيسية لأصل الكون وتطوره.
    إحدى النتائج الرئيسيّة الأولى التي توصّل إليها "ويب" كانت مثيرة بطريقة غير مريحة: لقد اكتشفت وجود مجرّات مكتملة التكوين في وقت أبكر بكثير ممّا كان ينبغي أن يكون ممكناً بحسب ما يسمّى "النموذج المعياريّ" لعلم الكون.
    وفقاً للنموذج نفسه الذي يعدّ الأساس لجميع الأبحاث في هذا المجال، ثمّة تسلسل ثابت ودقيق للحوادث التي تلت الانفجار العظيم: أوّلاً، قامت قوّة الجاذبيّة بجمع المناطق الأكثر كثافة معاً في الغاز الكونيّ البارد والتي نمت لتصبح نجوماً وثقوباً سوداء؛ ثمّ قامت قوّة الجاذبيّة بسحب النجوم معاً لتكوين المجرّات.
    كشفت بيانات "ويب" أنّ بعض المجرّات الكبيرة جداً تشكّلت فعلاً بسرعة، في وقت قصير جداً، على الأقلّ وفقاً للنموذج المعياريّ. ولم يكن هذا تناقضاً طفيفاً. تشبه هذه النتيجة ظهور الآباء وأطفالهم في قصّة عندما يكون الأجداد أنفسهم أطفالاً.
    لم تكن هذه حادثة معزولة
    فلنأخذ مسألة مدى سرعة توسّع الكون. هذه حقيقة مؤسّسة في العلوم الكونيّة: ما يسمّى بـ"ثابت هابل". لم يتمكّن العلماء من الاتّفاق على رقم. ثمّة طريقتان رئيسيّتان لاحتسابه: الأولى تتضمّن قياسات للكون المبكر، مثل النوع الذي يقدّمه "ويب"؛ والأخرى تتضمّن قياسات النجوم القريبة في الكون الحديث. على الرغم من عقود من الجهود، لا تزال هاتان الطريقتان تقدّمان إجابات مختلفة. (قضيّة معروفة باسم "توتّر هابل").
    في البداية، توقّع العلماء أن يتمّ حلّ هذا التناقض مع تحسّن البيانات. لكنّ المشكلة ظلّت قائمة بشكل متعنّت حتى بعدما أصبحت البيانات أكثر دقّة. والآن، فاقمت بيانات "ويب" الجديدة المشكلة. يشير هذا الاتّجاه إلى وجود خلل في النّموذج، وليس في البيانات.
    بدأ علماء الفيزياء والفلك يشعرون بأن شيئاً ما قد يكون خاطئاً حقاً. لا يقتصر الأمر على أنّ البعض منّا يعتقد أنّه قد يتعيّن علينا إعادة التفكير في النموذج المعياريّ لعلم الكون؛ قد يتعيّن علينا أيضاً تغيير الطريقة التي نفكّر بها في بعض أكثر سمات كوننا أساسيّة، وهي ثورة مفاهيميّة قد تنتج آثاراً تتجاوز عالم العلوم.
    ما كان انتصاراً للإبداع
    كمزيج قويّ من البيانات المكتسبة بعد عناء ومن الفيزياء الرياضيّة التجريديّة الغريبة، يُفهم النموذج المعياريّ لعلم الكون بحقّ على أنّه انتصارٌ للإبداع البشريّ. تعود أصوله إلى اكتشاف إدوين هابل في العشرينات من القرن الماضي أنّ الكون يتوسّع، وهو أوّل دليل إلى الانفجار العظيم. ثمّ اكتشف علماء الفلك الراديويّ سنة 1964 ما يسمّى بـ"الخلفيّة الكونيّة الميكرويّة"، وهو الإشعاع "الأحفوريّ" الذي يصل إلينا بعد وقت قصير من بدء الكون بالتوسّع. أخبرنا هذا الاكتشاف أنّ الكون المبكر كان عبارة عن حساء ساخن وكثيف من الجسيمات دون الذريّة التي كانت تبرد باستمرار وتصبح أقلّ كثافة منذ ذلك الحين.
    على مدى السنوات الستين الماضية، أصبح علم الكون أكثر دقّة من أيّ وقت مضى في قدرته على احتساب أفضل البيانات المتاحة حول الكون. لكن على طول الطريق، وللحصول على مثل هذه الدرجة العالية من الدقّة، كان على علماء الفيزياء الفلكيّة افتراض وجود مكوّنات للكون ليس لدينا دليل مباشر إليها. يرى النموذج المعياريّ اليوم أنّ المادّة "العاديّة" – وهي المادّة التي يتكوّن منها الناس والكواكب وكلّ شيء آخر يمكننا رؤيته – لا تشكّل سوى نحو 4 في المئة من الكون. والباقي عبارة عن أشياء غير مرئية تسمّى المادّة المظلمة والطاقة المظلمة (نحو 27 في المئة و68 في المئة).
    تعديل غريب
    التضخّم الكونيّ هو مثلٌ لتعديل غريب آخر للنموذج المعياريّ. تمّ ابتكار هذه النظريّة سنة 1981 لحلّ المفارقات الناشئة عن نسخة أقدم من الانفجار العظيم، وتنصّ على أنّ الكون المبكر توسّع بسرعة أكبر أضعافاً مضاعفة خلال جزء من الثانية بعد الانفجار العظيم. هذه النظريّة تحلّ مشكلات معيّنة لكنّها تولّد أخرى.
    وفقاً لمعظم تفسيرات النظريّة، بدلاً من وجود كون واحد، يمثّل كوننا واحداً من أكوان متعدّدة، عدد لا حصر له من الأكوان التي قد تكون غير قابلة للرصد على الإطلاق، ليس من الناحية العمليّة وحسب بل أيضاً من الناحية المبدئيّة.
    لا شيء مريباً بطبيعته في سمات النموذج المعياريّ هذه. غالباً ما يكتشف العلماء أدلّة جيّدة غير مباشرة إلى الأشياء التي لا يمكننا رؤيتها، مثل نقاط التفرّد الشديدة الكثافة داخل الثقب الأسود. ولكن في أعقاب بيانات "ويب" المحيّرة حول تكوين المجرّات والمشكلة المتفاقمة مع ثابت هابل، لا يمكن لومك لو بدأت بالتساؤل عمّا إذا كان النموذج غير متماسك.
    غالباً ما يتم تقديم تبرير مألوف حول كيفيّة عمل العلم في هذه المرحلة لتهدئة المخاوف. يبدو الأمر على النحو التالي: يعتقد الباحثون أنّ لديهم نظريّة ناجحة، لكنّ البيانات الجديدة تظهر أنّها معيوبة. وبشجاعة، يعود العلماء للعمل على أفكار جديدة تسمح لهم بتحسين نظريّتهم من خلال مطابقة الأدلة مطابقةً أفضل.
    إنّها قصّة تواضع وانتصار...
    ونحن العلماء نحبّ أن نرويها. وقد يكون هذا ما يحدث حالياً أيضاً. ربّما يتطلّب حلّ المشكلات التي يجبرنا "ويب" على مواجهتها، توصّل علماء الكون فقط إلى شيء "مظلم" جديد يسمح لصورتنا عن الكون بالاستمرار في مطابقة أفضل البيانات الكونيّة.
    مع ذلك، ثمّة احتمال آخر. قد نكون في مرحلة نحتاج فيها إلى خروج جذريّ على النموذج المعياريّ، وهو ما قد يتطلّب منا تغيير طريقة تفكيرنا في المكوّنات الأوّليّة للكون، وربّما حتى طبيعة المكان والزمان.
    علم الكون ليس كغيره من العلوم. ليس الأمر كدراسة فئران في متاهة أو مشاهدة موادّ كيميائيّة تغلي داخل وعاء في مختبر. الكون هو كلّ الوجود؛ ثمّة واحد فقط ولا يمكننا النظر إليه من الخارج. لا يمكنك وضعه في صندوق على طاولة وإجراء تجارب مضبوطة عليه. هذه القضايا الغريبة لا تظهر في معظم العلوم "العادية".
    بسبب عملهم بشكل قريب جداً من الحدود بين العلم والفلسفة، تطارد علماء الكون باستمرار أشباح الافتراضات الأساسيّة المختبئة في الأدوات التي نستخدمها، مثل الافتراض أنّ القوانين العلميّة لا تتغيّر مع مرور الوقت. ولكن هذا هو بالضبط نوع الافتراض الذي قد يتعيّن علينا البدء بالتساؤل عنه من أجل معرفة ما هو الخطأ في النموذج المعياريّ.
    أفضل طريق... الثورة؟
    أحد الاحتمالات الذي أثاره الفيزيائيّ لي سمولين والفيلسوف روبرتو مانغابيرا أونغر هو أنّ قوانين الفيزياء يمكن أن تتطوّر وتتغيّر بمرور الوقت. حتى أنّ القوانين المختلفة قد تتنافس على الفاعليّة. وثمّة احتمال أكثر جذريّة ناقشه عالم الفيزياء جون ويلر، وهو أنّ كلّ فعل من أفعال المراقبة يؤثّر على المستقبل وحتى التاريخ الماضي للكون. فالدكتور ويلر، أثناء عمله على فهم مفارقات ميكانيكا الكمّ، تصوّر "عالماً تشاركياً" حيث كان كلّ فعل ملاحظة بطريقة من الطرق فعلَ خلق جديداً.
    ليس من الواضح، على أقلّ تقدير، كيف يمكن لمثل هذه المراجعة الثوريّة لعلمنا أن تساعدنا على فهم أفضل للبيانات الكونيّة التي تحيّرنا. يكمن جزء من الصعوبة في أنّ البيانات نفسها تتشكّل من خلال الافتراضات النظريّة لأولئك الذين يجمعونها. سيكون من الضروريّ التحلّي بوثبة إيمانيّة للتراجع وإعادة التفكير في مثل هذه الأساسيّات المتعلقة بعلمنا.
    لكنّ ثورة قد تكون في نهاية المطاف أفضل طريق للتقدّم. هذا بالتأكيد ما كانت الحال عليه في الماضي مع الإنجازات العلميّة، مثل مركزيّة الشمس لكوبرنيكوس ونظريّة التطور لداروين والنسبية لأينشتاين. انتهت هذه النظريّات الثلاث أيضاً بإحداث تأثير ثقافيّ هائل، هدّد إحساسنا بمكانتنا الخاصّة في الكون وقلبَ إيماننا بأفكار بديهيّة عن مرور الزمن. من المفترض أن يكون لأيّ ثورة علميّة من هذا النوع الذي نتخيّله أصداء مماثلة في فهمنا لأنفسنا.
    كتب الفيلسوف روبرت كريس أنّ الفلسفة هي الأمر المطلوب عندما لا يجيب القيام بالمزيد من العلوم عن سؤال علميّ. ليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا هو المطلوب للتغلّب على الأزمة في علم الكون. لكن إذا لم يفِ المزيد من التغييرات والتعديلات بالمهمّة، فقد نحتاج لا إلى قصّة جديدة عن الكون وحسب، بل أيضاً إلى طريقة جديدة لسرد القصص عنه، يختم فرانك وغلايزر.
يعمل...
X