قبل مئتي عام، أُجبِر الطفل تشارلز ديكنز، ولم يكن قد تجاوز الأحد عشر عاماً آنذاك، على ترك المدرسة والعمل في مصنع موبوء بالفئران على ضفاف نهر التايمز، من أجل إعالة أسرته بعدما غرق والده في الديون.
تلك التجربة كانت قاسية جداً إلى حد أنها مزقت طفولته وأحلامه، لكنها تركت بصمتها على أعماله الأدبية لاحقاً.
اليوم، يستعيد متحف تشارلز ديكنز في لندن ذكرى تلك الفترة القاتمة من طفولة الكاتب، عبر عرض مجموعة رسائل متبادلة مع والده، توضح العلاقة المتوترة بين الأب وابنه. كما يعرض المتحف طبعة مبكرة من سيرة حياة تشارلز ديكنز، وهي سيرة ذاتية مكونة من ثلاثة مجلدات كتبها صديقه جون فورستر وكشفت عن حقائق مروعة من طفولته.
في أيلول/ سبتمبر من عام 1823، تم إخراج ديكنز من المدرسة وإرساله للعمل الشاق ستة أيام في الأسبوع ولعشر ساعات يومياً، في مصنع "وارن" لزجاجات ملمع الأحذية السوداء، بالقرب من محطة تشارينغ كروس اللندنيّة، وذلك بعدما عجز والده عن تأمين أبسط متطلبات الأسرة وأغرق نفسه بالديون.
بعد بضعة أشهر، ألقي القبض على جون ديكنز، والد تشارلز، وسُجن لمدة ثلاثة أشهر في سجن المدينين في بورو، بينما استمر تشارلز في العمل في وضع الملصقات على زجاجات الصباغ الأسود لعام كامل.
لم يتحدث أبداً عن تلك التجربة المقيتة، لكنه كتب عنها لفورستر، الذي نشر سيرته الذاتية بعد عامين من وفاة ديكنز. في وصف تلك الفترة، كتب ديكنز يقول: "إنه لأمر عجيب بالنسبة إليّ كيف تم التخلص مني بهذه السهولة وأنا في مثل ذلك العمر. حتى بعد انحداري إلى العمل الكادح الصغير الفقير الذي كنت أعمل فيه منذ مجيئنا إلى لندن، لم يتعاطف معي أحد بما فيه الكفاية. طفل ذو قدرات فريدة، سريع، متحمس، حساس لكنه سرعان ما سيتأذى جسدياً ونفسياً".
وتابع: "كان مصنع السواد عبارة عن منزل قديم مجنون وشبه متهدم متاخم للنهر، تغمره الفئران حرفياً. غرفه المغطاة بالخشب وأرضياته وسلالمه المتعفنة، والفئران الرمادية التي تحتشد في الأقبية بصريرها وشجارها في مختلف الأوقات، وأوساخ المكان وتعفنه، كل تلك المشاهد ترتفع أمام ناظري اليوم بوضوح كما لو أنني كنت هناك مرة أخرى".
كما استذكر أحد زملائه من الأطفال العاملين، قائلاً: "جاء أحدهم، مرتدياً مئزراً ممزقاً وقبعة ورقية، في صباح اليوم الأول للعمل، ليعلمني كيفية العمل. كان اسمه بوب فاغين. بعد ذلك بوقت طويل، استخدمت اسمه بحرية مطلقة في رواية أوليفر تويست".
في أعماله اللاحقة، يلوح مصنع السواد كثيراً، ليس فقط كخلفية مهمة لرواية ديفيد كوبرفيلد، بل كقوة دافعة وراء تصوير ضحايا من الأطفال التعساء في قصصه، مثل الشخصية المحبوبة جداً أوليفر تويست.