تتبع الحلقة الأولى من النسخة الثانية لبرنامج الكون نموذج الحلقة الأولى من البرنامج الأصلي.
كما أنها تختلف في بعض النقاط الهامة، لكن واحدًا منها للأسف لم يصب هدفه.
تقدمت المؤثرات الخاصة بشكل كبير منذ كارل ساجان 1980.
وقد تقدم العلم بشكل كبير كذلك.
فهذه النسخة تناقش الكواكب العائمة بين النجوم، وتعرض الصور الحقيقية لأورانوس ونبتون، وتعطي عمرًا دقيقا للكون (13.8 مليار سنة).
إذ لم تكن هذه الأمور معروفة منذ 34 عاما.
تقدم السلسلة الجديدة ابتكارين رئيسيين.
أولها تكريم لكارل ساجان، حيث يتذكر المضيف نيل ديغراس تايسون ذكرياته مع هذا العالم القدير.
وثانيها إشادة بالفيلسوف الإيطالي واللاهوتي جيوردانو برونو (القرن السادس عشر).
يعتبر برونو شهيدا لقضية علم الفلك الحديث.
وكما يقول تايسون في كوزموس، “لم يذهب كوبرنيكوس إلى حد بعيد “.
إذ في القرن الثامن عشر، ذهب برونو لأبعد مما تبناه كوبرنيكوس عن مركزية الشمس، إذ اقترح لا تناهي الفضاء، وأن النجوم شموس أخرى تدور حولها كواكب أخرى (مأهولة!) كأرضنا.
إيمانه بكون لا متناهي يعكس مجد الله اللامتناهي، أدى لنبذه ونفيه من بلدٍ إلى بلد.
لكنه رفض أن يستسلم.
سجن برونو في نهاية المطاف من قبل الكنيسة، وحرق عام 1600، عشر سنوات قبل أن يعلن غاليليو نتائج تجاربه المؤكدة لنظرية كوبرنيكوس.
تبدو قصة قوية ومأسوية، أليس كذلك؟
ذكرت قصة برونو التقليدية أو نسخة المدارس في كوزموس، والآن فلنقابل جيوردانو برونو الحقيقي.
لم يكن برونو أول من ربط فكرة الفضاء اللامتناهي مع مجد الله اللامتناهي.
كان نيكولا كوزا، الفيلسوف الألماني الذي عاش قبل قرن من برونو صاحب الفكرة.
قد اكتفى نيكولا بإبقاء فكرته عن الكون اللامتناهي داخل الإطار الكاثوليكي.
لم يكن برونو كوبرنيكيا، ولا حتى عالم فلك على الإطلاق.
كانت اهتماماته لاهوتية، لا فيزيائية.
تكمن مواهب برونو في مكان آخر.
كان يستخدم شكلًا مبكرًا من فن الإستذكار قدم به إنجازات في مجال الرياضيات والسحر!
وقد كان المبتكر الحقيقي لرؤيته اللاهوتية والفلسفية للعوالم المأهولة التي لا نهاية لها في الكون.
في كوزموس، يقول تايسون بعناية أن برونو لم يكن عالما، وبدلا من ذلك يصف تلك الصورة للعوالم اللانهائية بأنها “تخمين”.
لكن برونو لم يكن يخمن.
بل يكوِّن لاهوتا هرطقيا جديدا، وقد قطع شوطا طويلا به لولا أنه أحرق من قبل الكنيسة.
وسجلت محاكم التفتيش الرومانية ثماني رسوم ضد برونو.
وكان اعتقاده بتعدد العوالم أحدها فقط.
تمثلت الأخرى في إنكار ألوهية يسوع، وإنكار الولادة من عذراء، وإنكار الإستحالة -تحول المسيح، وممارسة السحر، والإيمان بأن الحيوانات والأشياء (بما في ذلك الأرض) تمتلك نفوسا.
يمكن أن ندعو إلى حد ما برونو شهيدا لقضية الحرية الدينية، ولكن نظرته الكونية العالمية كانت نتيجة طبيعية فلسفية بحتة لاعتقاده أن الله والنفوس تملأ كل الكون.
على الرغم من بدعته، لم يكن برونو فقيرا ولا وحيدا، بل كان لديه مجموعةً قوية من الأتباع، في 1579، تم تعيينه أستاذا للفلسفة في تولوز، فرنسا.
وفي عام 1581، قدم له الملك هنري الثالث درجة في السوربون.
وفي 1583 زار إنجلترا، وعاش مع السفير الفرنسي، فبرونو الذي رأيناه على الشاشة في كوزموس ليس برونو الحقيقي.
ولم يكن برونو شخصية بسيطة متواضعة كالتي تظهر على شاشة التلفزيون.
والسبب الرئيسي لتحركه كثيرا هو أنه كان جدليا، ساخرا، كثير النقاش.
انخرط في نزاعات أكاديمية مريرة.
وقد هرب من فرنسا بسبب نزاع عنيف حول الاستخدام السليم للبوصلة!
كان برونو رجلا رائعا، ومعقدا، ولم يكن يستحق مصيره الذي آل إليه في آخر المطاف.
تصريحات برونو الحماسية والفاحشة جلبت عليه الكثير من العداء.
ومن أبرزهم جاليليو وجوهانس كبلر.
واستشهد كبلر بأن برونو الذي تجرأ على تجاوز كوبرنيكوس يحجب أيضا شخصية تاريخية أخرى لا تقل أهمية، وغالبا ما يتم تجاهلها، وهو توماس ديجز.
بينما كان برونو يقوم بإصدار تصريحاته الرنانة كان توماس ينشر في هدوء أفكار كوبرنيكوس في صلب التفكير الأوروبي.
كان ديجز واحدًا من علماء الفلك الرائدين في القرن 16 في انكلترا، حيث التعصب الديني أقوى من قرينه في إيطاليا.
وفي عام 1576، نشر ديغز أول ترجمة إنجليزية لكتاب كوبرنيكوس “عن الثورة – de revolutionibus”.
كان هدف ديغز، على حد تعبير مؤرخ العلوم فرانسيس جونسون، هو جعل أفكار كوبرنيكوس عن مركزية الشمس متاحة “للحرفيين المهرة والميكانيكيين الذين كان تعاونهم ضروريا جدا للبحث الناجح”.
كان ديغز أشبه بكارل ساجان في الوقت الحالي في طريقة نشره لأفكار كوبرنيكوس وعرضها كنموذج حقيقي أكثر من كونها فلسفة.
وقد طرح ديغز أولا – لا برونو – فكرة الكون اللامتناهي، إذ لو كانت النجوم هي التي تدور حول الأرض، فسيكون لها مجال محدود لتتمكن من الدوران يوميا حول الأرض.
ولكن إذا كانت الأرض هي المتحركة، فلا مانع لكون الفضاء لامتناهيا.
صور ديغز هذه الفكرة لأول مرة في التاريخ، حيث تكون النجوم متناثرة خلال مساحة لا نهاية لها خارج نظامنا الشمسي.
يبدو ذلك شبيها بروح ساجان: يأخذ فكرة جريئة، ويشرحها لجمهور واسع، ثم يستشهد بالسوابق الفلسفية من الأدب اليوناني الكلاسيكي لكيلا تبدو الفكرة هرطقية أبدا، العلم والدين جنبا إلى جنب.
تقول قصة برونو وديجيس الكثير عن طريقة عمل العلوم اليوم، وعن الجانب الروحي للعلوم التي كان ساجان بارعًا جدا في شرحها.
ومن المثير للسخرية حقا أن برونو حصل على بعض أفكاره من ديغز.
تشبث برونو بالعديد من أفكاره بعنف، ونفرت طريقة نشره لأفكاره العديد من مؤيديه.
والأهم من ذلك أن أفكاره تنبع من الإيمان الكنيسي البحت، كان برونو بعيدا عن كونه “عالما” بالمعنى الحديث.
وفي المقابل، ركز ديغز على النهوض بعمل كوبرنيكوس.
وساعد في وضع الأساس الفكري لكبلر وغاليليو.
يقول جونسون: “لا يمكن التغاظي عن تأثير ديغز على الفكر الفلكي المعاصر”.
طور ديغز فكرة الفضاء اللامتناهي على فكرة كوبرنيكوس عن النظام الشمسي، وتبين أن هذين المفهومين يسيران جنبا إلى جنب من خلال تقديم الفكرة كامتداد للعلم الكلاسيكي، لا كهرطقة.
وخطى ديغز إلى الأمام بعيدا عن الخرافات والمناقشات اللاهوتية، نحو العلم الحديث حيث تمتلك النظريات العلمية السلطة الحقيقية.
كما قدم العلم كرحلة فكرية تراكمية، حيث يتوسع كل جيل بأفكار الأجيال السابقة، باختبار صحتها، وطرح المزيد من الأسئلة.
ربما يوافق كارل ساجان على النسخة الجديدة من كوزموس بعد الحلقة الثانية!