تحاول نظرية «الثقالة الكمّية» (quantum gravity) الجمع بين نظرية النسبية العامة ونظرية الكم في الفيزياء، ومن مميزات هذه النظرية أنها تجزئ الزمان والمكان، بما لا تحققه نظرية الحقل الكمّي.
وترتكز محاولات برهنة هذه النظرية على دراسة الموجات الثقالية وتأثيرات الثقوب السوداء.
وتستخدم المعلومات التي يجمعها مرصد «مقياس التداخل للأمواج الثقالية» (Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory LIGO) الذي رصد مؤخرًا إشارتين للموجات الثقالية الناتجة عن تصادم الثقوب السوداء، وهذا هو بالضبط الدليل الذي كان العلماء يبحثون عنه.
أصداء الثقوب السوداء
تموجات الزمكان تعلن زوال النظرية النسبية العامة واستبدالها بنظرية الثقالة الكمّية.
منذ بضع بلايين السنين أجرى ثقبان أسودان رقصتهما اللولبية الأخيرة واندمجا في غضون ثوانٍ، ليطلقا كمية هائلة من الطاقة.
تمامًا كما تتسبب الحصاة عند سقوطها في بركة هادئة بانتشار الموجات على سطح البركة، وتسبب هذا الاندماج بموجات ثقالية في نسيج الزمكان.
ولنتقدم سريعًا إلى كوكب الأرض في العام 2015، فبعد رحلة شاقة، استطاعت هذه الموجات الثقالية الناتجة عن تصادم الثقبين الأسودين الوصول إلى منظومتنا الشمسية. وفي صباح 14 أيلول تسببت هذه الموجات باهتزاز ذراعي مرصدي مقياس التداخل للأمواج الثقالية الواقعين في ولايتي لوزيانا وواشنطن.
وأطلق الحاسوب انذار مبشرًا أنه بعد طول انتظار، تم التعرّف إلى نمط مميز من التحولات للموجات الضوئية.
سمع عالم الفيزياء الفلكية «نيايش أفشوردي» من جامعة ووترلو في كندا عن هذا الحدث المثير في حانة صغيرة.
وكان العام 2015 وكان ما زال أمامنا بضعة أسابيع حتى إعلان النتائج رسميًا، لكن أحد الزملاء نشر معلومات غير رسمية عنه.
رأى العالم أفشوردي -الذي يعمل لصالح معهد بريميتر- على الفور أن هذا خبرًا بمنتهى الأهمية، للمجتمع الفيزيائي عمومًا، ولنظريته غير التقليدية عن تكون الكون.
ويقول أفشوردي «شعرت أني أمر بأزمة وجودية في إحدى المراحل، وظننت أن كل مسائل علم الكونيات قد حلت، لكن بعدها طرأت ببالي فكرة أن المادة المظلمة صنعتها الثقوب السوداء.
أثبتت دراسة انفجارات النجوم البعيدة وبعض الأدلة الأخرى أن الكون يتوسع بصورة متسارع ولكن لم يكتشف أحد السبب.
المادة وحدها لا تستطيع أن تحدث هذا التأثير وحدها، لذلك ينسب علماء الكونيات هذا التوسع إلى نوع محدد من الطاقة تسمى الطاقة المظلمة. وكانت وما زالت طبيعة هذه الطاقة ومصدرها غامض وغير معروف.»
وفي العام 2009 وضع أفشوردي وزملاؤه تشاندا بريسكود وينستين وميشال بالوغ نظرية تنص أن الثقوب السوداء تخلق حولها حقلًا طويل المدى يشبه الطاقة المظلمة.
يفيض هذا الحقل من الثقوب السوداء وينتشر في الكون.
إن هذا التفسير لمصدر الطاقة المظلمة شائق للغاية ووفقًا لحسابات أفشوردي، فإنّ عدد الثقوب السوداء المتوقع وجودها كافية لتولد الكمية المطلوبة من الطاقة المظلمة لتناسب النتائج التي تم رصدها.
لكن هذه الفكرة لأفشوردي تسقط كل ما كان يعتقد الفيزيائيون أنهم يعرفوه عن الثقوب السوداء.
ففي نظرية أينشتاين النسبية، أن أفق الحدث في الثقب الأسود – أي السطح الذي لا يمكن للأشياء الهروب منه- لا بد منه.
لا شيء مميز يحدث إذا عبرناه لكن ما من طريق للرجوع لاحقًا.
أما إذا كان أفشوردي على حق، فهذا يعني أن داخل الثقب الأسود خلف أفق الأحداث لا وجود له. عوضًا عن ذلك، تصبح التأثيرات الثقالية الكمية كبيرة وتقلبات الزمكان جامحة للغاية على بعد طول بلانك من المكان الذي كان يجب أن يكون فيه أفق الأحداث (طول بلانك هو طول صغير للغاية أي يبلغ 10-35 متر أو 10-20 مرة قطر البروتون).
إن هذه النظرية الجديدة تعطي إجازة دائمة لنظرية النسبية.
وعندما سمع بنتائج الليغو استدرك أفشوردي أنه يمكن أن يختبر فكرته النظرية البحت بالمشاهدة.
فإذا كان أفق الأحداث مختلف عمّا هو متوقع، فإنه من المفترض أن تكون الموجات الثقالية الصادرة عن دمج الثقوب السوداء مختلفة أيضًا.
وعلى النتائج التي وجدها الليغو أن تظهر ترددًا وإشارة حادة وواضحة تعلن الانتقال من الفيزياء التقليدية.
ويمكن لهذا الاكتشاف أن يكون تقدمًا كبيرًا في بحثنا الطويل عن نظرية كمّيّة للجاذبية.
يقول أفشوردي مازحًا «إذا تمّت الموافقة عليها، فيجب أن أشتري تذكرة سفر إلى ستوكهولم».
نظرية الثقالة الكمّية هي ما ينقصنا لتوحيد النظريّة النسبيّة العامّة مع نظريات الحقول الكمّيّة في النظام القياسي للجسيمات (standard model).
إذا دُمجت النظريتان بشكلهما الحالي، فإن هذا سيؤدي إلى تناقضات داخليّة لا منطقية.
وتشكل الثقوب السوداء إحدى هذه التناقضات المدروسة.
فتستخدم نظرية الحقل الكمي قرب الأفق لنجد أن الثقب الأسود يبث بعض الجسيمات ليتبخر ببطء.
هذه الجسيمات تنقل الكتلة لكنها لا تستطيع نقل المعلومات عن تكون الثقب الأسود، وهذا ما بيّنه ستيفن هوكينغ في سبعينيات القرن الماضي.
لذلك فإنه إذا تبخر الثقب الأسود بصورة كاملة فإن جميع المعلومات عما سقط في داخله تختفي معه.
وهذا يناقض ما تقوله نظرية الحقل الكمّي بشأن الحفاظ التامّ على المعلومات في أي منظومة، لا بد أن شيئًا في الرياضيّات غير مناسب.
يظن الفيزيائيون أن هذا التناقض الرياضي يحدث لأن الحسابات لا تأخذ السلوك الكمي للزمكان بالحسبان، لأن نظريّة الثقالة الكمّية ما زالت غير مكتشفة.
وظل الفيزيائيون يظنون على مدى بعض العقود أن التأثيرات الثقالية الكمية التي من شأنها أن تحلّ لغز الثقوب السوداء مختبئة خلف الأفق.
وكانوا يظنّون أنه توجد فردية (singularity) واحدة فقط في وسط الثقب الأسود، حيث تصبح تأثيرات الثقالية الكمّيّة ظاهرة. لكن كان عليهم مؤخّرًا أن يعيدوا التفكير بالموضوع.
وجدت مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا، في العام 2012 آثارًا غير متوقّعة للفكرة التي تسمح للمعلومات أن تغادر الثقب الأسود على شكل إشعاعات.
للعمل بهذه الفكرة، علينا أن ننحرف بشكل كبير عن النظرية النسبية العامة، ليس فقط من جهة الفرديّة، ولكن أيضًا من جهة الأفق.
وهذا الانحراف هو ما جعل الباحثين يخلقون ما يسمّى بجدار حماية الثقب الأسود، وهو عائق من الطاقة العالية خارج الأفق تمامًا.
إن هذا الجدار إذا وجد، يلاحظه فقط من يسقط داخل الثقب الأسود، ولن يبثّ اشارات ملاحظة من قبل تلسكوباتنا.
وإن فكرة الجدار تدعم فكرة أفشوردي التي تتنبأ بأن الثقوب السوداء تشكل حقل يشابه الطاقة المظلمة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن على المنطقة التي تقع قرب أفق الثقب الأسود أن تختلف بصورة كبيرة عمّا تتوقعه النظرية النسبية العامة؛ وقد تكون فكرة هذا الجدار حلًّا لمشكلة خسارة المعلومات في الثقب الأسود.
لذلك فإن اقتراح أفشوردي لتعديل النظرية النسبية العامّة يحمل مفتاح الحلّ لترطيب الأجواء بين النظريّة الكمّيّة والنظريّة النسبيّة العامّة. ولم يستطع التخلي عن هذه الفكرة.
بدلًا من دفقة يتبعها تموجات مشتتة، على الموجات الثقاليّة أن تأتي على هيئة ترددات باهتة من الحدث الأصلي عندما سمع أفشوردي بأوّل رصد لليغو، بدأ محاولته أن يكتشف إن كانت الموجات الثقالية المنبعثة من اندماج الثقوب السوداء تتمكن من إظهار تفاصيل دقيقة عمّا يحدث قرب أفق الثقب الأسود.
في بادئ الأمر بدى الموضوع بعيد المنال.
وقال أفشوردي «لم أكن أظن أنّه يمكننا أن نلاحظ التأثيرات الثقالية الكمّيّة في إشارة للموجات الثقالية لأنّنا سبق ونظرنا في أماكن أخرى كثيرة، لكنني غيرت رأيي بشأن ذلك.”
وما جعل أفشوردي يغير رأيه كان عمل فيتور كارسودو وزملائه في المعهد التقني العالي في البرتغال بشأن ترددات الموجات الثقالية من الثقوب السوداء.
وكان كارسودو قد وضع أسس دمج جسمين متماسكين ولا يمتلكا أفق أحداث وقال بأنّ دمجهما سويًّا قد ينتج موجات ثقالية متقاربة للغاية من تلك التي تعود إلى الثقوب السوداء، متقاربة جدًّا لكنّها ليست متطابقة.
ويقول كارسودو أنّ الميزة الوحيدة التي تشير إلى غياب أفق الأحداث هو التكرار الدوري لإشارة صادرة عن الدمج.
بدلًا من ذروة واحدة تليها تردد (دفقة كبيرة في البركة، ومن ثم تموجات متبددة بشكل متسارع)، من المفترض أن تشكل الموجات الثقالية سلسلة من النبضات الباهتة – أي ترددات أضعف من الحدث الأصلي.
ووجد أفشوردي أن التعديل الذي يطال المنطقة القريبة من الأفق الذي نصه في نظريته سيتسبب بمثل هذه الترددات.
وعلاوة على ذلك، قال إنه يمكنه حساب زمن تكرارها باستخدام كتلة الثقب الأسود النهائية، الأمر الذي قد يسمح بالتنبؤ الدقيق.
لم يحاول أحد من قبل أن يجد مثل هذه الإشارة، وإيجادها لن يكون سهلًا.
وحتى الآن، لا يتوفر لدينا سوى رصدين معلنين من الموجات الثقالية من قبل ليغو.
وقد حاول أفشوردي بالتعاون مع زملائه تحليل البيانات الصادرة عن ليغو للبحث عن آثار الترددات.
ومن خلال مقارنة البيانات المتاحة مع الضوضاء العشوائية، تمكن أفشوردي أن يجد تردد متوافق مع حساباته لوقت التكرار. غير أن الدلالة الإحصائية ليست عالية.
من الناحية العلمية، فإن لها أهمية تقديرية من 2.9 سيغما. هكذا إشارة من الممكن أن تكون ضوضاء فقط وهناك احتمال واحد من 200 أن تكون الإشارة المنشودة. في الفيزياء، يعد هذا الحدث ذو الإحتمال المنخفض مثير للإهتمام ولكنه لا يعد إكتشافًا.
لا تزال تجربة ليغو في أول الطريق فهي في الحقيقة قد بدأت للتّو.
وأهم ما رصدته في أوّل حدثين من الموجات الثقاليّة هو أنّها قد تمكنت من رصدها في الأساس. فقد كانت التحديات التكنولوجية هائلة.
فهنالك في كل من ولاية لويزيانا وواشنطن، مقياسًا للتداخل (interferometer) بذراعين متعامدتين يبلغ طوليهما حوالي 4 كيلومترات طويلة.
وفي هذين الذراعين يرتد شعاع الليزر ذهابا وإيابا بين المرايا لتتداخل مع بعضها البعض عندما تلتقي.
إن هذا التداخل لموجات الليزر حساس للغاية بحيث أنه يتشوه في حال تغير طول الذراعين بأقل من ألف من قطر البروتون.
وهذا المستوى من الحساسية هو ما يشكل المستوى المطلوب لرصد الآثار الثقالية الناجمة عن تصادم الثقوب السوداء.
يؤدي مرور الموجة الثقالية عبر مقياس التداخل إلى تشوه الذراعين كلٌّ في وقت مختلف عن الآخر، الأمرالذي يؤدّي إلى انحراف نمط التداخل.
إن الحدث الذي يتم تسجيله في كلا الموقعين يؤمن لنا معلومات بعيدة عن الإنذارات الكاذبة.
يخوّلنا تصميم ليغو أن نرصد موجات ثقالية بأطوال موجية من مئات إلى آلاف الكيلومترات، أي الطول الموجي المتوقع رصده كنتيجة لاندماج الثقوب السوداء.
كما يتم التخطيط لإنشاء مراصد للكشف عن موجات ثقالية أخرى بأطوال موجية مختلفة في الطيف، لشرح ظواهر أخرى مختلفة.
لا مفر من اكتشاف الموجات الثقالية كتنبؤ للنظرية النسبيّة العامّة.
فقد لاحظ أينشتاين أن الزمكان كيان ديناميكي – أي أنّه يمتدّ، ينحني، ويهتزّ كنتيجة للاضطرابات الثقالية.
فعندما يهتزّ الزمكان، تنبعث منه بعض الموجات وتنتشر لمسافات بعيدة.
تحمل هذه الموجات الطاقة وتظهر نفسها كتوسع وانكماش دوري للفضاء في الاتجاهات المختلفة.
لقد توفرت لدينا منذ فترة طويلة أدلة غير مباشرة للموجات الثقالية. وذلك لأنها تحمل الطاقة بعيدًا، وتتسبّب بانحلال صغير لمدار البلسار الثنائي (binary pulsar) ولكن هذا الإنحلال يمكن قياسه.
وقد لوحظ هذا التأثير لأول مرّة في 1970، وحصل مكتشفه على جائزة نوبل عام 1993. ولكن إلى أن رصد ليغو هذا الحدث، لم يكن لدينا أي دليل مباشر على وجود الموجات الثقالية.
يشكّل هذا البحث بحثًا جذريًّا بأدقّ ما يمكن أن يكون.
ما هي أنواع الثقوب السوداء والأنظمة النجمية المتراصة الموجودة في المجرات؟ وأين تقع في هذه المجرّات؟
إنّ الحدث الأوّل لليغو – الذي رصد في سبتمبر 2015 وأثار اهتمام أفشوردي – كان بارزًا للغاية، ليس فقط لأنّه حدث بعد بضعة أيام من تحديث خطّط له طويلًا.
لكن لأنّ الثقوب السوداء المندمجة المرصودة كانت ثقيلة جدًا، حيث تقدّر كتلتها ب 29 و36 مرة مقدار كتلة الشمس.
وقال أوفيك بيرنهولتز، عضو في مجموعة ليغو لدراسة التحام الثنائيات وفيزيائي لدى معهد ماكس بلانك للفيزياء الثقالية في ألمانيا «كنا نتوقع أن تحمل أحداث الثقوب السوداء كتلة أقل».
وامتازت المعلومات بدقتها الفريدة، فشهدت انفتاحًا ملحوظًا في تبادل البيانات، ما أدّى إلى إلهام الفيزيائيين في مجالات أخرى، كما حدث مع أفشوردي، وهم يحاولون استخدام البيانات الجديدة لصالح عملهم الحالي.
وفي 26 كانون الأول/ديسمبر 2015، رصدت ليغو حدثًا آخرًا.
انطلق عصر علم فلك الموجات الثقالية رسميًّا، بعد سنوات عديدة من التقدم البطيء والبدايات الزائفة.
يقول بيرنهولتز «بعض زملائي في التعليم الجامعي هجروا مجال علم فلك الموجات الثقالية»، وأضاف «لكنهم الآن يعودون لأنّ الموضوع قد عاد فجأة إلى الواجهة مرة أخرى. يشكل هذا المجال إقليم مجهول، ويحتاج بحثًا جذريًا بأدق ما يمكن أن يكون.
ما هي أنواع الثقوب السوداء والأنظمة النجمية المتراصة المتواجدة في المجرات؟ وأين تقع في هذه المجرّات؟ ماذا تكشف الموجات الثقالية عن مصدرها؟ ما يمكن تعلمه عن المادة في ظروف متطرفة كاندماج نجم نيوتروني مع ثقب أسود؟ هل تتصرف الثقوب السوداء بالطريقة التي تتنبؤها حساباتنا؟»
تعطي نظرية أفشوردي عن الثقوب السوداء والطاقة المظلمة مثال واحد عن التفسيرات لهذا الموضوع.
وتنتظر الكثير من المعلومات أن يتم اكتشافها حول العالم.
بعد بضعة أيام من ظهور نتائج أفشوردي على المزوّد المفتوح arXiv.org، دقق بعض أعضاء ليغو بتدقيق هذه النتائج.
يستغرق الموضوع بضعة أسابيع فقط حتى ينشر الليغو الرد على هذه النتائج، بعد أن يتم انتقاد المنهجية، واستخدام أدوات إحصائية مختلفة. وبيرنهولتز واحد من كاتبي هذا النقد.
وقال بيرنهولتز «إن هذا الافتراض مثير للدهشة. ليس لدي أي توقع إذا كان ينبغي أو لا ينبغي أن نحصل على هذه الترددات. لا أحد يستطيع التخمين في هكذا مجال في الفيزياء. ولكن لدي حدس قوي، نشأ نتيجة العمل ببيانات ليغو، أن قوّة هذا الحدث ليست كبيرة بما يكفي لنعيرها الأهمية في هذه المرحلة.»
لدى بيرنهولتز بعض الاقتراحات لكيفية تحسين نتائج التحليل، لكنه يتجنب الإدلاء بمعلومات متعلقة بالموافقة على النتائج.
ويؤكد أليكس نيلسن، وهو عضو آخر في ليغو وأحد الكاتبين المشاركين لبيرنهولتز، الحاجة إلى توخي الحذر «بصفتنا أعضاء في ليغو، علينا أن نكون حذرين للغاية بشأن البيانات التي نصدرها علنًا، قبل أن نحصل على الموافقة التامة. ولكن البيانات معلنة وعامة ويمكن أن يستخدمها الجميع في كل ما يحتاجونه».
مركز ليغو هو مركز مفتوح للعلوم، تتوفر فيه البيانات التي ترصد بعد ساعة واحدة من تأكيد الأحداث الثقاليّة.
ويقول بيرنهولتز «يرحب بالجميع لاستخدام البيانات المرصودة والاتصال بنا في حال وجود أي سؤال. ويستطيع أي أحد أن يشاركنا تجربته إذا وجد أي حدث مثير للاهتمام، ويمكننا العمل على ذلك الحدث سويًّا. ويشكل هذا التعاون جزء من التجربة العلمية».
يضم التعاون التابع لليغو بعض آلاف من الأعضاء، وهم موزعون على أكثر من مائة مؤسسة في جميع أنحاء العالم.
يجتمع الأعضاء مرتين في العام. وعقد آخر اجتماع في شهر آذار في منطقة باسادينا، كاليفورنيا.
ويحاول بعض أعضاء التعاون الآن إعادة تحليل النتائج التي وجدها أفشوردي. ويتوقع بيرنهولتز أن يستغرق الأمر عدة أشهر.
وقال «قد تخيب النتيجة آمالنا. ليس لأنه لا وجود للترددات، ولكن لأنه لا يمكننا التأكد من وجودها.»
ما زال مجال علم فلك الموجات الثقالية في أول خطواته، على الرغم من كثرة البيانات المتواردة.
ويتوقع تعاون ليغو تحقيق 40 عملية رصد عالية الجودة لاندماج الثقوب السوداء بحلول نهاية العام 2018. وستوفر كلٌّ منها فرصة أخرى للتحقق من نظرية أفشوردي.
يشكّل رصد الموجات الثقالية مهمة صعبة للغاية وذلك لأن الموجات الثقالية تتفاعل بشكل ضعيف جدًا وتودع طاقة ضئيلة للغاية عند مرورها في جسم معين.
تتسبب الموجات الثقالية بتشوه ضئيل للجسم الذي تمرّ به، ولذلك فإن استخراج إشارة واضحة يتطلّب كثير من الرعاية.
إن عتبة الاكتشاف المستخدمة في ليغو هي 5 سيغما، وهناك احتمال أقل من واحد في 3 مليون أن الإشارة ترصد بالصدفة، وهذا الإحتمال أعلى بكثير من مستوى دلالة إشارة أفشوردي.
غير أن التفاعل الضعيف للموجات الثقالية يجعلها مرسالًا ممتازًا. وعلى عكس جسيمات الضوء، فإن الموجات الثقالية بالكاد تتأثر في طريقها إلينا، الأمر الذي يجعلها تحمل معلومات غير معدّلة عن مصدرها وكيفية إنشاؤها.
تسمح الموجات الثقالية باختبار نظريّة النسبية العامة بشكل جديد ودقيق عبر منظومة لم يتم استكشافها من قبل.
يريد علماء الكونيات أن ينظروا عن كثب إلى مضاعفات هذا التفسير الجديد للطاقة المظلمة
إذا تم التأكيد على ترددات الثقوب السوداء، سيؤدي هذا إلى انحراف كامل عن نظرية النسبية العامة.
لكن لن يؤكد العثور على الترددات نظرية أفشوردي التي تشير أن الثقوب السوداء هي مصدر الطاقة المظلمة بشكل فريد.
ولكن ستنشأ حاجة إلى فكرة مبتكرة لشرح هذه الترددات. ويقول بيرنهولتز «لم أستطع أن أجد أي محاكاة أنتجت حتّى يومنا هذا تشير إلى هذه الترددات. فإذا تمكّنّا من تأكيد وجود هذه الترددات، سيكون هذا مثير جدا للإهتمام. وسيكون علينا أن نتحقق من مصدر هذه الترددات».
لدى أفشوردي خطط بحثية في حالة زيادة الدلالة الإحصائية لإشارته.
ويطمح إلى تحسين الننموذج الذي يطرحه حول اندماج الثقوب السوداء، وإدارة محاكاة رقمية لدعم تقديراته التحليلية وليبين لنا كيف نتوقع أن تبدو هذه الترددات.
حينئذ ستكون الخطوة التالية هي أن نفهم نظرية أفضل للزمكان نتمكن من خلالها أن نتوقع هذا السلوك لأفق الثقب الأسود. ويريد علماء الكونيات أن ينظروا عن كثب إلى مضاعفات هذا التفسير الجديد للطاقة المظلمة.
ويدرك أفشوردي أن هذه الخطوة التي تغيّر جذريًا نظرية النسبية لا تحظى بأمل كبير.
لكنه يقول «أريد أن أشجع الناس على إبقاء عقولهم مفتوحة وقابلة لتقبل الأفكار التي لا تتطابق مع مفاهيمهم المسبقة».
ومع عرض ليغو لمسائل الكون بطرق لم يتم دراستها من قبل، قد نضع قريبًا الكثير من المفاهيم المسبقة جانبًا.
وترتكز محاولات برهنة هذه النظرية على دراسة الموجات الثقالية وتأثيرات الثقوب السوداء.
وتستخدم المعلومات التي يجمعها مرصد «مقياس التداخل للأمواج الثقالية» (Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory LIGO) الذي رصد مؤخرًا إشارتين للموجات الثقالية الناتجة عن تصادم الثقوب السوداء، وهذا هو بالضبط الدليل الذي كان العلماء يبحثون عنه.
أصداء الثقوب السوداء
تموجات الزمكان تعلن زوال النظرية النسبية العامة واستبدالها بنظرية الثقالة الكمّية.
منذ بضع بلايين السنين أجرى ثقبان أسودان رقصتهما اللولبية الأخيرة واندمجا في غضون ثوانٍ، ليطلقا كمية هائلة من الطاقة.
تمامًا كما تتسبب الحصاة عند سقوطها في بركة هادئة بانتشار الموجات على سطح البركة، وتسبب هذا الاندماج بموجات ثقالية في نسيج الزمكان.
ولنتقدم سريعًا إلى كوكب الأرض في العام 2015، فبعد رحلة شاقة، استطاعت هذه الموجات الثقالية الناتجة عن تصادم الثقبين الأسودين الوصول إلى منظومتنا الشمسية. وفي صباح 14 أيلول تسببت هذه الموجات باهتزاز ذراعي مرصدي مقياس التداخل للأمواج الثقالية الواقعين في ولايتي لوزيانا وواشنطن.
وأطلق الحاسوب انذار مبشرًا أنه بعد طول انتظار، تم التعرّف إلى نمط مميز من التحولات للموجات الضوئية.
سمع عالم الفيزياء الفلكية «نيايش أفشوردي» من جامعة ووترلو في كندا عن هذا الحدث المثير في حانة صغيرة.
وكان العام 2015 وكان ما زال أمامنا بضعة أسابيع حتى إعلان النتائج رسميًا، لكن أحد الزملاء نشر معلومات غير رسمية عنه.
رأى العالم أفشوردي -الذي يعمل لصالح معهد بريميتر- على الفور أن هذا خبرًا بمنتهى الأهمية، للمجتمع الفيزيائي عمومًا، ولنظريته غير التقليدية عن تكون الكون.
ويقول أفشوردي «شعرت أني أمر بأزمة وجودية في إحدى المراحل، وظننت أن كل مسائل علم الكونيات قد حلت، لكن بعدها طرأت ببالي فكرة أن المادة المظلمة صنعتها الثقوب السوداء.
أثبتت دراسة انفجارات النجوم البعيدة وبعض الأدلة الأخرى أن الكون يتوسع بصورة متسارع ولكن لم يكتشف أحد السبب.
المادة وحدها لا تستطيع أن تحدث هذا التأثير وحدها، لذلك ينسب علماء الكونيات هذا التوسع إلى نوع محدد من الطاقة تسمى الطاقة المظلمة. وكانت وما زالت طبيعة هذه الطاقة ومصدرها غامض وغير معروف.»
وفي العام 2009 وضع أفشوردي وزملاؤه تشاندا بريسكود وينستين وميشال بالوغ نظرية تنص أن الثقوب السوداء تخلق حولها حقلًا طويل المدى يشبه الطاقة المظلمة.
يفيض هذا الحقل من الثقوب السوداء وينتشر في الكون.
إن هذا التفسير لمصدر الطاقة المظلمة شائق للغاية ووفقًا لحسابات أفشوردي، فإنّ عدد الثقوب السوداء المتوقع وجودها كافية لتولد الكمية المطلوبة من الطاقة المظلمة لتناسب النتائج التي تم رصدها.
لكن هذه الفكرة لأفشوردي تسقط كل ما كان يعتقد الفيزيائيون أنهم يعرفوه عن الثقوب السوداء.
ففي نظرية أينشتاين النسبية، أن أفق الحدث في الثقب الأسود – أي السطح الذي لا يمكن للأشياء الهروب منه- لا بد منه.
لا شيء مميز يحدث إذا عبرناه لكن ما من طريق للرجوع لاحقًا.
أما إذا كان أفشوردي على حق، فهذا يعني أن داخل الثقب الأسود خلف أفق الأحداث لا وجود له. عوضًا عن ذلك، تصبح التأثيرات الثقالية الكمية كبيرة وتقلبات الزمكان جامحة للغاية على بعد طول بلانك من المكان الذي كان يجب أن يكون فيه أفق الأحداث (طول بلانك هو طول صغير للغاية أي يبلغ 10-35 متر أو 10-20 مرة قطر البروتون).
إن هذه النظرية الجديدة تعطي إجازة دائمة لنظرية النسبية.
وعندما سمع بنتائج الليغو استدرك أفشوردي أنه يمكن أن يختبر فكرته النظرية البحت بالمشاهدة.
فإذا كان أفق الأحداث مختلف عمّا هو متوقع، فإنه من المفترض أن تكون الموجات الثقالية الصادرة عن دمج الثقوب السوداء مختلفة أيضًا.
وعلى النتائج التي وجدها الليغو أن تظهر ترددًا وإشارة حادة وواضحة تعلن الانتقال من الفيزياء التقليدية.
ويمكن لهذا الاكتشاف أن يكون تقدمًا كبيرًا في بحثنا الطويل عن نظرية كمّيّة للجاذبية.
يقول أفشوردي مازحًا «إذا تمّت الموافقة عليها، فيجب أن أشتري تذكرة سفر إلى ستوكهولم».
نظرية الثقالة الكمّية هي ما ينقصنا لتوحيد النظريّة النسبيّة العامّة مع نظريات الحقول الكمّيّة في النظام القياسي للجسيمات (standard model).
إذا دُمجت النظريتان بشكلهما الحالي، فإن هذا سيؤدي إلى تناقضات داخليّة لا منطقية.
وتشكل الثقوب السوداء إحدى هذه التناقضات المدروسة.
فتستخدم نظرية الحقل الكمي قرب الأفق لنجد أن الثقب الأسود يبث بعض الجسيمات ليتبخر ببطء.
هذه الجسيمات تنقل الكتلة لكنها لا تستطيع نقل المعلومات عن تكون الثقب الأسود، وهذا ما بيّنه ستيفن هوكينغ في سبعينيات القرن الماضي.
لذلك فإنه إذا تبخر الثقب الأسود بصورة كاملة فإن جميع المعلومات عما سقط في داخله تختفي معه.
وهذا يناقض ما تقوله نظرية الحقل الكمّي بشأن الحفاظ التامّ على المعلومات في أي منظومة، لا بد أن شيئًا في الرياضيّات غير مناسب.
يظن الفيزيائيون أن هذا التناقض الرياضي يحدث لأن الحسابات لا تأخذ السلوك الكمي للزمكان بالحسبان، لأن نظريّة الثقالة الكمّية ما زالت غير مكتشفة.
وظل الفيزيائيون يظنون على مدى بعض العقود أن التأثيرات الثقالية الكمية التي من شأنها أن تحلّ لغز الثقوب السوداء مختبئة خلف الأفق.
وكانوا يظنّون أنه توجد فردية (singularity) واحدة فقط في وسط الثقب الأسود، حيث تصبح تأثيرات الثقالية الكمّيّة ظاهرة. لكن كان عليهم مؤخّرًا أن يعيدوا التفكير بالموضوع.
وجدت مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا، في العام 2012 آثارًا غير متوقّعة للفكرة التي تسمح للمعلومات أن تغادر الثقب الأسود على شكل إشعاعات.
للعمل بهذه الفكرة، علينا أن ننحرف بشكل كبير عن النظرية النسبية العامة، ليس فقط من جهة الفرديّة، ولكن أيضًا من جهة الأفق.
وهذا الانحراف هو ما جعل الباحثين يخلقون ما يسمّى بجدار حماية الثقب الأسود، وهو عائق من الطاقة العالية خارج الأفق تمامًا.
إن هذا الجدار إذا وجد، يلاحظه فقط من يسقط داخل الثقب الأسود، ولن يبثّ اشارات ملاحظة من قبل تلسكوباتنا.
وإن فكرة الجدار تدعم فكرة أفشوردي التي تتنبأ بأن الثقوب السوداء تشكل حقل يشابه الطاقة المظلمة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن على المنطقة التي تقع قرب أفق الثقب الأسود أن تختلف بصورة كبيرة عمّا تتوقعه النظرية النسبية العامة؛ وقد تكون فكرة هذا الجدار حلًّا لمشكلة خسارة المعلومات في الثقب الأسود.
لذلك فإن اقتراح أفشوردي لتعديل النظرية النسبية العامّة يحمل مفتاح الحلّ لترطيب الأجواء بين النظريّة الكمّيّة والنظريّة النسبيّة العامّة. ولم يستطع التخلي عن هذه الفكرة.
بدلًا من دفقة يتبعها تموجات مشتتة، على الموجات الثقاليّة أن تأتي على هيئة ترددات باهتة من الحدث الأصلي عندما سمع أفشوردي بأوّل رصد لليغو، بدأ محاولته أن يكتشف إن كانت الموجات الثقالية المنبعثة من اندماج الثقوب السوداء تتمكن من إظهار تفاصيل دقيقة عمّا يحدث قرب أفق الثقب الأسود.
في بادئ الأمر بدى الموضوع بعيد المنال.
وقال أفشوردي «لم أكن أظن أنّه يمكننا أن نلاحظ التأثيرات الثقالية الكمّيّة في إشارة للموجات الثقالية لأنّنا سبق ونظرنا في أماكن أخرى كثيرة، لكنني غيرت رأيي بشأن ذلك.”
وما جعل أفشوردي يغير رأيه كان عمل فيتور كارسودو وزملائه في المعهد التقني العالي في البرتغال بشأن ترددات الموجات الثقالية من الثقوب السوداء.
وكان كارسودو قد وضع أسس دمج جسمين متماسكين ولا يمتلكا أفق أحداث وقال بأنّ دمجهما سويًّا قد ينتج موجات ثقالية متقاربة للغاية من تلك التي تعود إلى الثقوب السوداء، متقاربة جدًّا لكنّها ليست متطابقة.
ويقول كارسودو أنّ الميزة الوحيدة التي تشير إلى غياب أفق الأحداث هو التكرار الدوري لإشارة صادرة عن الدمج.
بدلًا من ذروة واحدة تليها تردد (دفقة كبيرة في البركة، ومن ثم تموجات متبددة بشكل متسارع)، من المفترض أن تشكل الموجات الثقالية سلسلة من النبضات الباهتة – أي ترددات أضعف من الحدث الأصلي.
ووجد أفشوردي أن التعديل الذي يطال المنطقة القريبة من الأفق الذي نصه في نظريته سيتسبب بمثل هذه الترددات.
وعلاوة على ذلك، قال إنه يمكنه حساب زمن تكرارها باستخدام كتلة الثقب الأسود النهائية، الأمر الذي قد يسمح بالتنبؤ الدقيق.
لم يحاول أحد من قبل أن يجد مثل هذه الإشارة، وإيجادها لن يكون سهلًا.
وحتى الآن، لا يتوفر لدينا سوى رصدين معلنين من الموجات الثقالية من قبل ليغو.
وقد حاول أفشوردي بالتعاون مع زملائه تحليل البيانات الصادرة عن ليغو للبحث عن آثار الترددات.
ومن خلال مقارنة البيانات المتاحة مع الضوضاء العشوائية، تمكن أفشوردي أن يجد تردد متوافق مع حساباته لوقت التكرار. غير أن الدلالة الإحصائية ليست عالية.
من الناحية العلمية، فإن لها أهمية تقديرية من 2.9 سيغما. هكذا إشارة من الممكن أن تكون ضوضاء فقط وهناك احتمال واحد من 200 أن تكون الإشارة المنشودة. في الفيزياء، يعد هذا الحدث ذو الإحتمال المنخفض مثير للإهتمام ولكنه لا يعد إكتشافًا.
لا تزال تجربة ليغو في أول الطريق فهي في الحقيقة قد بدأت للتّو.
وأهم ما رصدته في أوّل حدثين من الموجات الثقاليّة هو أنّها قد تمكنت من رصدها في الأساس. فقد كانت التحديات التكنولوجية هائلة.
فهنالك في كل من ولاية لويزيانا وواشنطن، مقياسًا للتداخل (interferometer) بذراعين متعامدتين يبلغ طوليهما حوالي 4 كيلومترات طويلة.
وفي هذين الذراعين يرتد شعاع الليزر ذهابا وإيابا بين المرايا لتتداخل مع بعضها البعض عندما تلتقي.
إن هذا التداخل لموجات الليزر حساس للغاية بحيث أنه يتشوه في حال تغير طول الذراعين بأقل من ألف من قطر البروتون.
وهذا المستوى من الحساسية هو ما يشكل المستوى المطلوب لرصد الآثار الثقالية الناجمة عن تصادم الثقوب السوداء.
يؤدي مرور الموجة الثقالية عبر مقياس التداخل إلى تشوه الذراعين كلٌّ في وقت مختلف عن الآخر، الأمرالذي يؤدّي إلى انحراف نمط التداخل.
إن الحدث الذي يتم تسجيله في كلا الموقعين يؤمن لنا معلومات بعيدة عن الإنذارات الكاذبة.
يخوّلنا تصميم ليغو أن نرصد موجات ثقالية بأطوال موجية من مئات إلى آلاف الكيلومترات، أي الطول الموجي المتوقع رصده كنتيجة لاندماج الثقوب السوداء.
كما يتم التخطيط لإنشاء مراصد للكشف عن موجات ثقالية أخرى بأطوال موجية مختلفة في الطيف، لشرح ظواهر أخرى مختلفة.
لا مفر من اكتشاف الموجات الثقالية كتنبؤ للنظرية النسبيّة العامّة.
فقد لاحظ أينشتاين أن الزمكان كيان ديناميكي – أي أنّه يمتدّ، ينحني، ويهتزّ كنتيجة للاضطرابات الثقالية.
فعندما يهتزّ الزمكان، تنبعث منه بعض الموجات وتنتشر لمسافات بعيدة.
تحمل هذه الموجات الطاقة وتظهر نفسها كتوسع وانكماش دوري للفضاء في الاتجاهات المختلفة.
لقد توفرت لدينا منذ فترة طويلة أدلة غير مباشرة للموجات الثقالية. وذلك لأنها تحمل الطاقة بعيدًا، وتتسبّب بانحلال صغير لمدار البلسار الثنائي (binary pulsar) ولكن هذا الإنحلال يمكن قياسه.
وقد لوحظ هذا التأثير لأول مرّة في 1970، وحصل مكتشفه على جائزة نوبل عام 1993. ولكن إلى أن رصد ليغو هذا الحدث، لم يكن لدينا أي دليل مباشر على وجود الموجات الثقالية.
يشكّل هذا البحث بحثًا جذريًّا بأدقّ ما يمكن أن يكون.
ما هي أنواع الثقوب السوداء والأنظمة النجمية المتراصة الموجودة في المجرات؟ وأين تقع في هذه المجرّات؟
إنّ الحدث الأوّل لليغو – الذي رصد في سبتمبر 2015 وأثار اهتمام أفشوردي – كان بارزًا للغاية، ليس فقط لأنّه حدث بعد بضعة أيام من تحديث خطّط له طويلًا.
لكن لأنّ الثقوب السوداء المندمجة المرصودة كانت ثقيلة جدًا، حيث تقدّر كتلتها ب 29 و36 مرة مقدار كتلة الشمس.
وقال أوفيك بيرنهولتز، عضو في مجموعة ليغو لدراسة التحام الثنائيات وفيزيائي لدى معهد ماكس بلانك للفيزياء الثقالية في ألمانيا «كنا نتوقع أن تحمل أحداث الثقوب السوداء كتلة أقل».
وامتازت المعلومات بدقتها الفريدة، فشهدت انفتاحًا ملحوظًا في تبادل البيانات، ما أدّى إلى إلهام الفيزيائيين في مجالات أخرى، كما حدث مع أفشوردي، وهم يحاولون استخدام البيانات الجديدة لصالح عملهم الحالي.
وفي 26 كانون الأول/ديسمبر 2015، رصدت ليغو حدثًا آخرًا.
انطلق عصر علم فلك الموجات الثقالية رسميًّا، بعد سنوات عديدة من التقدم البطيء والبدايات الزائفة.
يقول بيرنهولتز «بعض زملائي في التعليم الجامعي هجروا مجال علم فلك الموجات الثقالية»، وأضاف «لكنهم الآن يعودون لأنّ الموضوع قد عاد فجأة إلى الواجهة مرة أخرى. يشكل هذا المجال إقليم مجهول، ويحتاج بحثًا جذريًا بأدق ما يمكن أن يكون.
ما هي أنواع الثقوب السوداء والأنظمة النجمية المتراصة المتواجدة في المجرات؟ وأين تقع في هذه المجرّات؟ ماذا تكشف الموجات الثقالية عن مصدرها؟ ما يمكن تعلمه عن المادة في ظروف متطرفة كاندماج نجم نيوتروني مع ثقب أسود؟ هل تتصرف الثقوب السوداء بالطريقة التي تتنبؤها حساباتنا؟»
تعطي نظرية أفشوردي عن الثقوب السوداء والطاقة المظلمة مثال واحد عن التفسيرات لهذا الموضوع.
وتنتظر الكثير من المعلومات أن يتم اكتشافها حول العالم.
بعد بضعة أيام من ظهور نتائج أفشوردي على المزوّد المفتوح arXiv.org، دقق بعض أعضاء ليغو بتدقيق هذه النتائج.
يستغرق الموضوع بضعة أسابيع فقط حتى ينشر الليغو الرد على هذه النتائج، بعد أن يتم انتقاد المنهجية، واستخدام أدوات إحصائية مختلفة. وبيرنهولتز واحد من كاتبي هذا النقد.
وقال بيرنهولتز «إن هذا الافتراض مثير للدهشة. ليس لدي أي توقع إذا كان ينبغي أو لا ينبغي أن نحصل على هذه الترددات. لا أحد يستطيع التخمين في هكذا مجال في الفيزياء. ولكن لدي حدس قوي، نشأ نتيجة العمل ببيانات ليغو، أن قوّة هذا الحدث ليست كبيرة بما يكفي لنعيرها الأهمية في هذه المرحلة.»
لدى بيرنهولتز بعض الاقتراحات لكيفية تحسين نتائج التحليل، لكنه يتجنب الإدلاء بمعلومات متعلقة بالموافقة على النتائج.
ويؤكد أليكس نيلسن، وهو عضو آخر في ليغو وأحد الكاتبين المشاركين لبيرنهولتز، الحاجة إلى توخي الحذر «بصفتنا أعضاء في ليغو، علينا أن نكون حذرين للغاية بشأن البيانات التي نصدرها علنًا، قبل أن نحصل على الموافقة التامة. ولكن البيانات معلنة وعامة ويمكن أن يستخدمها الجميع في كل ما يحتاجونه».
مركز ليغو هو مركز مفتوح للعلوم، تتوفر فيه البيانات التي ترصد بعد ساعة واحدة من تأكيد الأحداث الثقاليّة.
ويقول بيرنهولتز «يرحب بالجميع لاستخدام البيانات المرصودة والاتصال بنا في حال وجود أي سؤال. ويستطيع أي أحد أن يشاركنا تجربته إذا وجد أي حدث مثير للاهتمام، ويمكننا العمل على ذلك الحدث سويًّا. ويشكل هذا التعاون جزء من التجربة العلمية».
يضم التعاون التابع لليغو بعض آلاف من الأعضاء، وهم موزعون على أكثر من مائة مؤسسة في جميع أنحاء العالم.
يجتمع الأعضاء مرتين في العام. وعقد آخر اجتماع في شهر آذار في منطقة باسادينا، كاليفورنيا.
ويحاول بعض أعضاء التعاون الآن إعادة تحليل النتائج التي وجدها أفشوردي. ويتوقع بيرنهولتز أن يستغرق الأمر عدة أشهر.
وقال «قد تخيب النتيجة آمالنا. ليس لأنه لا وجود للترددات، ولكن لأنه لا يمكننا التأكد من وجودها.»
ما زال مجال علم فلك الموجات الثقالية في أول خطواته، على الرغم من كثرة البيانات المتواردة.
ويتوقع تعاون ليغو تحقيق 40 عملية رصد عالية الجودة لاندماج الثقوب السوداء بحلول نهاية العام 2018. وستوفر كلٌّ منها فرصة أخرى للتحقق من نظرية أفشوردي.
يشكّل رصد الموجات الثقالية مهمة صعبة للغاية وذلك لأن الموجات الثقالية تتفاعل بشكل ضعيف جدًا وتودع طاقة ضئيلة للغاية عند مرورها في جسم معين.
تتسبب الموجات الثقالية بتشوه ضئيل للجسم الذي تمرّ به، ولذلك فإن استخراج إشارة واضحة يتطلّب كثير من الرعاية.
إن عتبة الاكتشاف المستخدمة في ليغو هي 5 سيغما، وهناك احتمال أقل من واحد في 3 مليون أن الإشارة ترصد بالصدفة، وهذا الإحتمال أعلى بكثير من مستوى دلالة إشارة أفشوردي.
غير أن التفاعل الضعيف للموجات الثقالية يجعلها مرسالًا ممتازًا. وعلى عكس جسيمات الضوء، فإن الموجات الثقالية بالكاد تتأثر في طريقها إلينا، الأمر الذي يجعلها تحمل معلومات غير معدّلة عن مصدرها وكيفية إنشاؤها.
تسمح الموجات الثقالية باختبار نظريّة النسبية العامة بشكل جديد ودقيق عبر منظومة لم يتم استكشافها من قبل.
يريد علماء الكونيات أن ينظروا عن كثب إلى مضاعفات هذا التفسير الجديد للطاقة المظلمة
إذا تم التأكيد على ترددات الثقوب السوداء، سيؤدي هذا إلى انحراف كامل عن نظرية النسبية العامة.
لكن لن يؤكد العثور على الترددات نظرية أفشوردي التي تشير أن الثقوب السوداء هي مصدر الطاقة المظلمة بشكل فريد.
ولكن ستنشأ حاجة إلى فكرة مبتكرة لشرح هذه الترددات. ويقول بيرنهولتز «لم أستطع أن أجد أي محاكاة أنتجت حتّى يومنا هذا تشير إلى هذه الترددات. فإذا تمكّنّا من تأكيد وجود هذه الترددات، سيكون هذا مثير جدا للإهتمام. وسيكون علينا أن نتحقق من مصدر هذه الترددات».
لدى أفشوردي خطط بحثية في حالة زيادة الدلالة الإحصائية لإشارته.
ويطمح إلى تحسين الننموذج الذي يطرحه حول اندماج الثقوب السوداء، وإدارة محاكاة رقمية لدعم تقديراته التحليلية وليبين لنا كيف نتوقع أن تبدو هذه الترددات.
حينئذ ستكون الخطوة التالية هي أن نفهم نظرية أفضل للزمكان نتمكن من خلالها أن نتوقع هذا السلوك لأفق الثقب الأسود. ويريد علماء الكونيات أن ينظروا عن كثب إلى مضاعفات هذا التفسير الجديد للطاقة المظلمة.
ويدرك أفشوردي أن هذه الخطوة التي تغيّر جذريًا نظرية النسبية لا تحظى بأمل كبير.
لكنه يقول «أريد أن أشجع الناس على إبقاء عقولهم مفتوحة وقابلة لتقبل الأفكار التي لا تتطابق مع مفاهيمهم المسبقة».
ومع عرض ليغو لمسائل الكون بطرق لم يتم دراستها من قبل، قد نضع قريبًا الكثير من المفاهيم المسبقة جانبًا.