كيمياء حيويه Biochemistry - Biochimie
الكيمياء الحيوية
الكيمياء الحيوية biochemistry، هي دراسة منظَّمة للمواد الكيمياوية التي تتألف منها أجسام الكائنات الحية وغذاؤها، سواء في ذلك بناؤها أو ما يجري فيما بينها من أفعال متبادلة، وما يجري عليها من تحولات في أثناء مشاركتها في تلك الظاهرة التي تدعى الحياة.
وقد توصل العلماء إلى أن المبادئ والأسس التي تحكم كل مركب كيمياوي سواء كان مصدره كائناً حياً أم قارورة في مختبر هي نفسها. فالجزيئات التي تتألف منها المواد الكيمياوية الحيوية ليست بذات حياة، مثلها في ذلك مثل العناصر التي توجد فيها والتي تستَمد من عالم الجماد مثل الماء وثنائي أكسيد الكربون والأمونيا (النشادر).
إلا أن هذه الجزيئات الحيوية في الخلية تؤلف فيما بينها بنية متكاملة تنظم سلسلة من العلاقات تظهر آثارها في نشاط الخلية، وأخيراً فيما يقوم به الكائن الحي من مظاهر العمل والنشاط الجسمي أو الذهني. فإذا ما نزعت هذه الجزيئات من الخلية فقدت كل ما كان لها من ميزات.
يجد الدارس لكيمياء مركبات الحياة أمامه نظاماً محكماً؛ فالنبات له قدرة نالها من تكوينه الخاص على أن يأخذ من عالم الجماد مركبات بسيطة، مثل ثنائي أكسيد الكربون والماء، وأن يستعين بطاقة الشمس ليؤلف من هذا كله جزيئات كبيرة معقدة على مستوى أعلى من الطاقة. وتدخل هذه الجزيئات إلى النظم الحيوية الكيمياوية، وتكون من أسباب نمو النبات وإزهاره وإثماره، وتكوِّن بذوره التي تبدأ دورة جديدة في الوقت الذي قد يضمحل فيه النبات الأصلي لتعود مواده مع مرور الوقت إلى عالم الجماد البسيط لتغذي نباتاً آخر، وهكذا تستمر الدورة.
ويجد الدارس أن قسماً كبيراً من أصناف الحيوان تبدأ من المركبات ذات الطاقة العالية التي صنعها النبات، أي إن الحيوان يتخذ لغذائه نباتاً أو حيواناً اغتذى على نبات، فيحصل بذلك على ما يحتاج من طاقة للقيام بوظائفه وبناء جسمه وتكاثره.
من أهداف الكيمياء الحيوية فهم كيف يجري كل ذلك، أي إنها تتصدى لفهم المظاهر المتعددة والمتشعبة لعملية الحياة في أي كائن حي سواء كان حيواناً أم نباتاً أم إنساناً، وهي المظاهر التي تعتمد على أمرين هما المادة matter والطاقة energy، ولكن على صورة محددة مضبوطة.
وتحاول دراسة الكيمياء الحيوية أن تصف كيف تتم تلبية الحاجات على المستوى الجزيئي، ولذلك فإنها تبدأ بدراسة الكيمياء العضوية الحيوية وهي ثلاثة أصناف رئيسية: الكربوهيدرات والدهون (اللبيدات) والبروتينات؛ لتبين كيف تبنى جزيئاتها وأنواع الوظائف الحيوية التي تؤديها. وحيث أن هذه الدراسة تبيِّن انتظام هذه البنى والوظائف وثباتها فلا بد أنها تسير حسب خطط محكمة وإلا انتهت إلى الفوضى. وهنا تنتقل الدراسة إلى مراكز التخطيط على المستوى الجزيئي molecular level وهي الحموض النووية nucleic acids في النواة وما تحمله من راموز وراثي (شيفرة وراثية) genetic code يختلف من نوع من الأحياء إلى آخر، حيث أن المواد والطاقة نفسهما في هذا النوع تكوِّن مثلاً أصنافاً محددة من الأنزيمات تختلف عن تلك التي تتكون في نوع آخر.
ومن موضوعات الدرس في الكيمياء الحيوية أيضاً ما يجري من تحولات على الغذاء، وما يصاحب ذلك من وسائل استخلاص الطاقة منه، وكيفية الاستفادة من هذه الطاقة في أداء الوظائف المتنوعة للأعضاء، أي إنها في النهاية تحاول فهم الأساس الكيميائي للنشاط الحي، وما قد يطرأ عليه من أعراض الخلل.
هذا بعضٌ من كل ما تتم دراسته في الكيمياء الحيوية، وهو على كثرته واتساعه أبعد ما يكون عن التوصل إلى فهم أسرار الحياة.
تطور علم الكيمياء الحيوية
الكيمياء الحيوية علم حديث نسبياً، وقد كان كارل نيوبيرغ Carl Neuberg عام 1903 أول من قدم مصطلح الكيمياء الحيوية. ومن المتوقع، في المستقبل المنظور، أن تختفي الكيمياء الحيوية كعلم مستقل بتطور مجموعات العلوم الأخرى التي تتفرع منه باستمرار، أو أنها ستتمكن مستقبلاً من استيعاب مختلف التخصصات الجديدة في مجال الكيمياء والبيولوجيا. ويترادف مصطلح الكيمياء الحيوية مع مصطلحين أقدم منه نوعاً ما، هما الكيمياء الفيزيولوجية والكيمياء البيولوجية، ولهذا وعلى الرغم من حداثة هذا العلم فإن جذوره تمتد بعيداً إلى الوراء مقترنة بتاريخ كل من الفيزيولوجيا والكيمياء.
بدأت الأبحاث في الموضوعات الكيميائية الحيوية الحديثة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفي القرن التاسع عشر تم إجراء كثير من الأبحاث الهادفة لتفهم كل من البنية الكيميائية والتفاعلات البينية لظاهرة الحياة. وقد كان على الكيمياء الحيوية للتعمق في هذه الاهتمامات أن تنتظر تطور علم الكيمياء، وخاصة الكيمياء العضوية[ر] والكيمياء التحليلية. فالكيمياء الحيوية البنيوية المبكِّرة ارتبطت مع تطور الكيمياء العضوية، وقد قام الكيميائي السويدي كارل شيله (1742 - 1786) Karl Scheele بأبحاثه المتعلقة بالتركيب الكيميائي للأنسجة النباتية والحيوانية الأمر الذي أعطى زخماً لتطور الكيمياء الحيوية، حيث تم عزل مجموعة من المشتقات الطبيعية، مثل حموض الطرطريك واللبن والبول والحماض والليمون والتفاح، إضافة إلى الغليسرول[ر] وعدد من الإستِرات والكازئين. ومع تطور تكنولوجيا التحليل الكيميائي الكمي في مختبرات جون برزيليوس Jöns Berzelius وجوستوس لايبغ Justus Liebig في بدايات القرن التاسع عشر تم التأكد من احتواء جميع المركبات، التي عزلها «شيله»، على الكربون، وهو العنصر الرئيسي في المركبات العضوية الحيوية.
كانت فلسفة قوة الحياة vital force "vitalism"، في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، هي المسيطرة على نطاق واسع، ما شكل عائقاً أمام المهتمين بمجال الكيمياء الحيوية. إذ كان يُعتقد، وفق هذا المبدأ، أن الاصطناع الحيوي للمركبات العضوية يتم ضمن الكائنات الحية بإسهام قوة من نوع خاص هي طاقة الحياة التي لا توجد إلا في الأنسجة الحية فقط، وقد اقتنع غالبية الباحثين الكيميائيين بهذه الفكرة، معتقدين أن التفاعلات التي تطرأ على المركبات الحيوية تسيطر عليها قوة الحياة ولا تخضع لقوانين الكيمياء العضوية والكيمياء الفيزيائية المسيطرة على المادة غير الحية. ولم يقتنع وقتها سوى قليل من الباحثين بعدم صحة هذا المبدأ الذي كان قد بدأ بالتراجع نتيجة لمنجزات كيميائيي الاصطناع العضوي المخبري أمثال فريدريك فوهلر Friedrich Wöhler الذي تمكن من اصطناع مركب البولة، والذي تبعه الباحث كولب Adolph Kolbe عام 1844 باصطناع حمض الخل، و برتلو[ر] M.Berthelot الذي تمكن في الخمسينات من القرن التاسع عشر من اصطناع العديد من المركبات العضوية. وهكذا كان مبدأ الطاقة الحيوية يتراجع منهاراً أمام استمرار فاعلية الاصطناع العضوي؛ كما أن الكيمياء البنيوية للشحوم حظيت باهتمام واسع في القرن التاسع عشر من خلال أبحاث الكيميائي الفرنسي ميشيل شيفرول Michel Chevreul (1786- 1889)، فمن خلال تجاربه لتقصي الطبيعة الكيميائية للدهون والزيوت المستعملة في صنع الصابون، اتضح له أن الدهون لا تتفاعل مع القلويات لتكوين الصابون قبل أن تتفكك أولاً متحولة إلى حموض دسمة وغليسرول.
لقد كان العمل المميز والفريد في مجال الكيمياء الحيويـة البنيويـة يجري فـي مختبر الكيميائـي الألمانـي إميل فيشر (1852 - 1919) Emil Fischer، حيث تركزت التجارب الفذة لهذا الباحث والتي وصفت بالثورية، حول بنية الكربوهيدرات والحموض الأمينية والشحوم. كما شهد القرن التاسع عشر أيضاً بدايات العمل على عزل المركبات الحيوية عالية الوزن الجزيئي واستخلاصها وتوصيفها.
ومن الأعمال المهمة المنجزة، أبحاث مولدر Mulder وليبغ Liebig وشوتزينبيرغر Schutzenberger وغيرهم، حول عزل الحموض الأمينية من نواتج حلمهة (تحلل بالماء) البروتينات، وتجارب فيشر، الذي بيّن كيفية ارتباط الحموض الأمينية في جزيء البروتين.
تمكن الطبيب السويسري ميشر F.Miescher عام 1868 من عزل الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الدناDNA) [ر. الحموض النووية، الصبغي] وذلك في نوى خلايا القيح المستحصل من الضمادات الجراحية المطروحة، وبدأ القيام بمجموعة تجاربه حول خواص هذه المركبات وتصنيفها.
أما الأبحاث الاستقلابية المبكرة في الكيمياء الحيوية، فقد كان أغلبها مركزاً على موضوعات زراعية أو طبية. ومنها الدراسات الأساسية المميزة للكيميائي الفرنسي لافوازييه[ر] (1779 - 1784) Antoine Lavoisier، حول التنفس، والتي طرح من خلالها واعتماداً على القياسات المسعرية فكرة التشابه التام بين تنفس الخلايا وظاهرة احتراق الفحم الحجري، وكون الاختلاف بينهما من الناحية الكمية فقط. ونتيجة لهذا الاكتشاف أجريت مجموعة كبيرة من التجارب المركزة حول طاقة تفاعلات الاستقلاب وكان من نتائجها تحديد المكافئات الحرارية الغرامية لكل من الكربوهيدرات والدسم والبروتينات في بدايات القرن التاسع عشر.
وفي أثناء الفترة نفسها تمت ملاحظة تفاعلات التخمر fermentation من قبل الباحث ثيودور شوان Theodor Schwann كظاهرة ذات أصل حيوي، فقد أوضح شوان أن خلايا الخميرة yeast مثل أي نبات حي، قادرة على تحويل السكر إلى إيتانول وثنائي أكسيد الكربون. وقد تعرض شوان في حينها إلى سخرية شديدة نتيجة طرحه لهذه الفكرة، وحتى من قبل الكيميائيين «الروّاد» أمثال ليبيغ وفوهلر وغيرهما إذ رفضوا عد الخمائر خلايا حية.
استمرت الأبحاث حول التخمر من قبل العديد من الباحثين المهمين، والذي كان من أقدرهم العالم لوي باستور[ر] Louis Pasteur، الذي تمكن من عزل وتصنيف أحياء مختلفة تقوم بتخمرات متباينة، ومنها تلك التي تؤدي إلى تشكل حمض الزبدة والتي تعمل من دون وجود الأكسجين. وهكذا توصل باستور إلى مفهوم الأحياء الهوائية واللاهوائية[ر: الحياة الهوائية واللاهوائية] والتخمرات المرافقة لها. وقد وصلت الأبحاث حول التخمر إلى ذروتها عام 1897 عندما تمكن الكيميائي الألماني إدوارد بوشنر Eduard Buchner من تحقيق التخمر بوساطة مستخلص الخميرة اللاخلوي. وقد فتحت هذه النتائج الباب واسعاً أمام القيام بالأبحاث المتعلقة بالتفاعلات الأنزيمية المستقلة، وهي في الوقت نفسه قضت قضاء مبرماً على مازال باقياً حتى ذلك الوقت من أفكار «قوة الحياة».
شهد القرن التاسع عشر تطور الدراسات المتعلقة بالتركيب الضوئي photosynthesis الذي كان من الموضوعات المهمة[ر: الكيمياء الضوئية]، والذي جلب الانتباه في نهاية القرن التاسع عشر من خلال أعمال جوزيف بريستلي J.Priestley وغيره، حيث تبين أن التركيب الضوئي من حيث المبدأ هو عكس التنفس. وقد كانت هذه الفكرة مهمة جداً في تطور الأفكار البيوكيميائية.
إضافة إلى أن تطور أدوات الجراحة اللازمة للدراسات الفيزيولوجية والبيو كيميائية الحيوانية التي أعطت من الحقائق العلمية ما سمح بوضع الأساس لفكرة «وحدة البيوكيمياء عبر الطبيعة»، وذلك بالطبع مع احتفاظ كل من الأنواع الحيوية بخواصه الكيميائية المميزة له.
وبحلول القرن العشرين وفي بداياته، انطلقت الكيمياء الحيوية بقفزات واسعة، وبدأت التطورات المهمة والمعطيات العلمية الغزيرة تتوالى وعلى جميع المحاور.
ففي المجال الطبي أجريت الأبحاث الهادفة لتفهم المتطلبات الغذائية الضرورية وأهمية (مغزى) العوامل الغذائية غير المعروفة، والتي أوضحها العالم فريدريك هوبكنز Frederick Hopkins ومساعدوه في جامعة كامبردج، والذين طوروا مفهوم أمراض العوز deficiency diseases. وتم تحديد مجموعة من هذه الأمراض، مثل البلاغرا pellagra والأسقربوط scurvy والكساح rickets والبري بري beriberi، وقد أطلق الباحث فونك Funk مصطلح فيتامين vitamin (أمين الحياة) على المركبات التي تقي من الإصابة بمثل هذه الأمراض، وتم عزل العديد منها وتحديد تركيبه وخواصه.
تمت متابعة أعمال بوشنر على دراسة عملية التخمر في الأنظمة غير الخلوية (مثل السكاكر) في العديد من المختبرات، بما فيها مختبر هاردن ويونغ Harden & Yong، وإمبدن ومايرهوف Embden & Meyerhof في إنكلترا، والتي أعطت في نهاية المطاف شرحاً متكاملاً للطرق الكيميائية الحيوية بهذا الحقل، كما أسهمت أعمال فاربورغ في هذه الفترة في تحديد بنية عوامل مساعدة أساسية في عملية التخمر.
أدت أعمال كريبس Krebs على استقلاب السكاكر التأكسدي إلى تطورات إيجابية مهمة في اتجاهات متعددة من الاستقلاب الوسطي Intermediary metabolism. وتمركزت أبحاث العالم سمنر Sumner التقليدية (الكلاسيكية) حول بنية البروتينات وخواصهـا الكيميائية الحيويـة والذي اكتشف عام 1926 أن الأنزيمـات ـ الوسـطاء المنشِّطة للتفاعلات الحيويـة ـ هي بروتينات. وتمت ملاحظة ظاهرة التنشيط من قبل برزليوس عام 1835 الذي قدم كمثال عن التنشيط دياستاز البطاطا، وهو الأنزيم الذي يحلمه النشاء، مؤكداً أن جميع مركبات الأنسجة الحيوية تتشكل نتيجة فعاليات تنشيطية، الأمر الذي تم التأكد منه بدراسات لاحقة استخلصت فيها الأنزيمات وتنقيتها، ودراسة حركية عدد من التفاعلات الأنزيمية. وجهت هذه التجارب ـ ومع تطور توجهات الكيمياء الحيوية ـ الأنظار بشدة نحو الأنزيمات التي بقيت بنيتها مجهولة حتى اكتشافات سمنر، إذ كانت الفكرة السائدة في مطلع القرن العشرين هي أن الأنزيمات لاتنتمي لأي من صفوف المركبات المعروفة حينها. قوبلت أعمال سمنر حول البنية الكيميائية للأنزيمات بالسخرية (من قبل الكيميائي الألماني ريتشارد ويلستاتر R.Willstatter وطلابه) مما دفع سمنر إلى المثابرة، فتمكن من استحصال أنزيم اليوريآز urease مبلوراً ثم تفكيكه بوساطة أنزيمات البروتيآز protease وإفقاده الفعالية التنشيطية نتيجة ذلك. أيدت أبحاث نورثروب Northrup والأمريكي كونيتز Kunitz الطبيعة البروتينية للأنزيمات، وبذلك أصبح سمنر يعد أباً لعلم الأنزيمات enzymology الحديث.
أدى انسجام أبحاث مجموعات من العلماء أمثال شارغاف Chargaff وواطسن Watson وكريك Crick وويلكنز Wilkins وتناسق هذه الأبحاث، إلى تحديد بنية الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين، وهو ما خطّ البداية لعلم البيولوجيا الجزيئية molecular biology.
ويمكن القول بالإجمال إنه في بدايات المرحلة المبكرة من القرن العشرين سيطر التطور في موضوعات الاستقلاب الوسطي على الكيمياء الحيوية، وتم شرح ووضع مخططات الاستقلاب من تفكك واصطناع حيويين للمركبات الحيوية الرئيسة في الأجسام والأنسجة والخلايا الحية. وعلى الرغم من استمرار الدراسات المتعلقة بهذا الاتجاه إلا أنها لم تسيطر كلياً على تطلّعات البيوكيميائيين، الذين توزعت اهتماماتهم للإجابة عن أسئلة متنوعة كثيرة أخرى:
ـ ما هي المركبات الكيميائية التي تشكل المادة الحية؟
ـ ما هي الجزيئات الضخمة المميزة للأجسام الحية؟
ـ كيف تنجز الأنزيمات وظيفتها التنشيطية؟
ـ ما هي المركبات المطلوبة لتوفير الاحتياجات الغذائية للإنسان وغيره من الأجسام الحية؟
ـ ماهية التفاعلات الكيميائية التي يمكن للمادة الغذائية أن تتحول بوساطتها إلى مركبات نوعية مميزة لخلايا الجسم موضوع الدراسة؟
ـ كيف تتم الاستفادة من الطاقة الكامنة في الغذاء لتوفير الاحتياجات الطاقيّة المتنوعة للتفاعلات الجارية في الخلية الحية؟
ـ ما هو التنظيم البنيوي لمكونات الخلية الذي يوفر تحقيق الوظائف الكيميائية الخاصة بها؟ كيف تنقسم الخلايا؟ ما هي كيمياء الوراثة genetics؟ ما هي المورّثة gene وكيف تعمل؟
ـ بما أن حياة الخلية هي حصيلة آلاف عديدة من التفاعلات الكيميائية المتباينة الجارية ضمنها أو في محيطها، فكيف تتناسق هذه التفاعلات بانسجام متكامل فيما بينها؟
ـ كيف تقوم الخلايا المتمايزة في النسج الحيوانية بإسهاماتها الخاصة في النظام الكلي للكائن؟
ـ كيف ينظم الحيوان حجم السوائل المتواجدة ضمن خلاياه وتركيبها والدم المحيط الذي يوصل بينها؟
ـ كيف تستخدم المعلومات الوراثية المدخرة في البيضة المخصبة zygote في توجيه تطور الكائن الحي المتمايز؟
ـ كيف يثير الدخول المفاجىء لكائن حي دقيق أو أي جزيء ضخم غريب إلى داخل الجسم مجموعة من الاستجابات المعقدة؟
ـ ما هي الآلية التي تتعرف فيها الخلايا غيرها من الخلايا؟
ـ هل يمكن توصيف ظاهرة السلوك أو غيره من الظواهر الفيزيولوجية بمصطلحات كيميائية؟
إن التنوع الكبير للموضوعات التي تشغل اهتمامات الكيميائيين الحيويين والمرتبطة جميعها بشكل وثيق مع حياة الإنسان اليومية، أدى إلى نشوء فروع علمية جديدة مرتبطة بالكيمياء الحيوية وتنضم تحت مظلة التعريف العلمي لها، إضافة إلى تطور الاختصاصات الموجودة:
ـ الاستقلاب الوسطي للمركبات الحيوية في حالة الصحة والمرض.
ـ الكيمياء الفيزيائية للجزيئات الحيوية الضخمة، وخاصة البروتينات والحموض النووية.
ـ الاصطناع الحيوي للبروتينات والحموض النووية.
ـ الكيمياء العضوية للفعالية الأنزيمية.
ـ الآليات التي تؤثر بها العقاقير والمركبات الدوائية المختلفة في وظائف الجسم.
ـ الطاقة الحيوية، وخاصة اصطناع ATP في تفاعلات الفسفرة التأكسدية.
ـ آليات التنظيم الخلوي.
ـ البنية فوق الخلوية cell- ultrastructure.
ـ الآليات الجزيئية للوراثة، والهندسة الوراثية genetic engineering، مع مايثيره هذا الموضوع من جدل أخلاقي وعلمي حول المجالات التطبيقية له في الطب والإنتاج الغذائي.
ـ الأسس الجزيئية للظواهر الفيزيولوجية، بما فيها انتقال الومضة العصبية (التوصيل العصبي) والتقلص العضلي والرؤية والانتقال عبر الأغشية.
أحمد مالو
الكيمياء الحيوية
الكيمياء الحيوية biochemistry، هي دراسة منظَّمة للمواد الكيمياوية التي تتألف منها أجسام الكائنات الحية وغذاؤها، سواء في ذلك بناؤها أو ما يجري فيما بينها من أفعال متبادلة، وما يجري عليها من تحولات في أثناء مشاركتها في تلك الظاهرة التي تدعى الحياة.
وقد توصل العلماء إلى أن المبادئ والأسس التي تحكم كل مركب كيمياوي سواء كان مصدره كائناً حياً أم قارورة في مختبر هي نفسها. فالجزيئات التي تتألف منها المواد الكيمياوية الحيوية ليست بذات حياة، مثلها في ذلك مثل العناصر التي توجد فيها والتي تستَمد من عالم الجماد مثل الماء وثنائي أكسيد الكربون والأمونيا (النشادر).
إلا أن هذه الجزيئات الحيوية في الخلية تؤلف فيما بينها بنية متكاملة تنظم سلسلة من العلاقات تظهر آثارها في نشاط الخلية، وأخيراً فيما يقوم به الكائن الحي من مظاهر العمل والنشاط الجسمي أو الذهني. فإذا ما نزعت هذه الجزيئات من الخلية فقدت كل ما كان لها من ميزات.
يجد الدارس لكيمياء مركبات الحياة أمامه نظاماً محكماً؛ فالنبات له قدرة نالها من تكوينه الخاص على أن يأخذ من عالم الجماد مركبات بسيطة، مثل ثنائي أكسيد الكربون والماء، وأن يستعين بطاقة الشمس ليؤلف من هذا كله جزيئات كبيرة معقدة على مستوى أعلى من الطاقة. وتدخل هذه الجزيئات إلى النظم الحيوية الكيمياوية، وتكون من أسباب نمو النبات وإزهاره وإثماره، وتكوِّن بذوره التي تبدأ دورة جديدة في الوقت الذي قد يضمحل فيه النبات الأصلي لتعود مواده مع مرور الوقت إلى عالم الجماد البسيط لتغذي نباتاً آخر، وهكذا تستمر الدورة.
ويجد الدارس أن قسماً كبيراً من أصناف الحيوان تبدأ من المركبات ذات الطاقة العالية التي صنعها النبات، أي إن الحيوان يتخذ لغذائه نباتاً أو حيواناً اغتذى على نبات، فيحصل بذلك على ما يحتاج من طاقة للقيام بوظائفه وبناء جسمه وتكاثره.
من أهداف الكيمياء الحيوية فهم كيف يجري كل ذلك، أي إنها تتصدى لفهم المظاهر المتعددة والمتشعبة لعملية الحياة في أي كائن حي سواء كان حيواناً أم نباتاً أم إنساناً، وهي المظاهر التي تعتمد على أمرين هما المادة matter والطاقة energy، ولكن على صورة محددة مضبوطة.
وتحاول دراسة الكيمياء الحيوية أن تصف كيف تتم تلبية الحاجات على المستوى الجزيئي، ولذلك فإنها تبدأ بدراسة الكيمياء العضوية الحيوية وهي ثلاثة أصناف رئيسية: الكربوهيدرات والدهون (اللبيدات) والبروتينات؛ لتبين كيف تبنى جزيئاتها وأنواع الوظائف الحيوية التي تؤديها. وحيث أن هذه الدراسة تبيِّن انتظام هذه البنى والوظائف وثباتها فلا بد أنها تسير حسب خطط محكمة وإلا انتهت إلى الفوضى. وهنا تنتقل الدراسة إلى مراكز التخطيط على المستوى الجزيئي molecular level وهي الحموض النووية nucleic acids في النواة وما تحمله من راموز وراثي (شيفرة وراثية) genetic code يختلف من نوع من الأحياء إلى آخر، حيث أن المواد والطاقة نفسهما في هذا النوع تكوِّن مثلاً أصنافاً محددة من الأنزيمات تختلف عن تلك التي تتكون في نوع آخر.
ومن موضوعات الدرس في الكيمياء الحيوية أيضاً ما يجري من تحولات على الغذاء، وما يصاحب ذلك من وسائل استخلاص الطاقة منه، وكيفية الاستفادة من هذه الطاقة في أداء الوظائف المتنوعة للأعضاء، أي إنها في النهاية تحاول فهم الأساس الكيميائي للنشاط الحي، وما قد يطرأ عليه من أعراض الخلل.
هذا بعضٌ من كل ما تتم دراسته في الكيمياء الحيوية، وهو على كثرته واتساعه أبعد ما يكون عن التوصل إلى فهم أسرار الحياة.
تطور علم الكيمياء الحيوية
الكيمياء الحيوية علم حديث نسبياً، وقد كان كارل نيوبيرغ Carl Neuberg عام 1903 أول من قدم مصطلح الكيمياء الحيوية. ومن المتوقع، في المستقبل المنظور، أن تختفي الكيمياء الحيوية كعلم مستقل بتطور مجموعات العلوم الأخرى التي تتفرع منه باستمرار، أو أنها ستتمكن مستقبلاً من استيعاب مختلف التخصصات الجديدة في مجال الكيمياء والبيولوجيا. ويترادف مصطلح الكيمياء الحيوية مع مصطلحين أقدم منه نوعاً ما، هما الكيمياء الفيزيولوجية والكيمياء البيولوجية، ولهذا وعلى الرغم من حداثة هذا العلم فإن جذوره تمتد بعيداً إلى الوراء مقترنة بتاريخ كل من الفيزيولوجيا والكيمياء.
بدأت الأبحاث في الموضوعات الكيميائية الحيوية الحديثة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفي القرن التاسع عشر تم إجراء كثير من الأبحاث الهادفة لتفهم كل من البنية الكيميائية والتفاعلات البينية لظاهرة الحياة. وقد كان على الكيمياء الحيوية للتعمق في هذه الاهتمامات أن تنتظر تطور علم الكيمياء، وخاصة الكيمياء العضوية[ر] والكيمياء التحليلية. فالكيمياء الحيوية البنيوية المبكِّرة ارتبطت مع تطور الكيمياء العضوية، وقد قام الكيميائي السويدي كارل شيله (1742 - 1786) Karl Scheele بأبحاثه المتعلقة بالتركيب الكيميائي للأنسجة النباتية والحيوانية الأمر الذي أعطى زخماً لتطور الكيمياء الحيوية، حيث تم عزل مجموعة من المشتقات الطبيعية، مثل حموض الطرطريك واللبن والبول والحماض والليمون والتفاح، إضافة إلى الغليسرول[ر] وعدد من الإستِرات والكازئين. ومع تطور تكنولوجيا التحليل الكيميائي الكمي في مختبرات جون برزيليوس Jöns Berzelius وجوستوس لايبغ Justus Liebig في بدايات القرن التاسع عشر تم التأكد من احتواء جميع المركبات، التي عزلها «شيله»، على الكربون، وهو العنصر الرئيسي في المركبات العضوية الحيوية.
كانت فلسفة قوة الحياة vital force "vitalism"، في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، هي المسيطرة على نطاق واسع، ما شكل عائقاً أمام المهتمين بمجال الكيمياء الحيوية. إذ كان يُعتقد، وفق هذا المبدأ، أن الاصطناع الحيوي للمركبات العضوية يتم ضمن الكائنات الحية بإسهام قوة من نوع خاص هي طاقة الحياة التي لا توجد إلا في الأنسجة الحية فقط، وقد اقتنع غالبية الباحثين الكيميائيين بهذه الفكرة، معتقدين أن التفاعلات التي تطرأ على المركبات الحيوية تسيطر عليها قوة الحياة ولا تخضع لقوانين الكيمياء العضوية والكيمياء الفيزيائية المسيطرة على المادة غير الحية. ولم يقتنع وقتها سوى قليل من الباحثين بعدم صحة هذا المبدأ الذي كان قد بدأ بالتراجع نتيجة لمنجزات كيميائيي الاصطناع العضوي المخبري أمثال فريدريك فوهلر Friedrich Wöhler الذي تمكن من اصطناع مركب البولة، والذي تبعه الباحث كولب Adolph Kolbe عام 1844 باصطناع حمض الخل، و برتلو[ر] M.Berthelot الذي تمكن في الخمسينات من القرن التاسع عشر من اصطناع العديد من المركبات العضوية. وهكذا كان مبدأ الطاقة الحيوية يتراجع منهاراً أمام استمرار فاعلية الاصطناع العضوي؛ كما أن الكيمياء البنيوية للشحوم حظيت باهتمام واسع في القرن التاسع عشر من خلال أبحاث الكيميائي الفرنسي ميشيل شيفرول Michel Chevreul (1786- 1889)، فمن خلال تجاربه لتقصي الطبيعة الكيميائية للدهون والزيوت المستعملة في صنع الصابون، اتضح له أن الدهون لا تتفاعل مع القلويات لتكوين الصابون قبل أن تتفكك أولاً متحولة إلى حموض دسمة وغليسرول.
لقد كان العمل المميز والفريد في مجال الكيمياء الحيويـة البنيويـة يجري فـي مختبر الكيميائـي الألمانـي إميل فيشر (1852 - 1919) Emil Fischer، حيث تركزت التجارب الفذة لهذا الباحث والتي وصفت بالثورية، حول بنية الكربوهيدرات والحموض الأمينية والشحوم. كما شهد القرن التاسع عشر أيضاً بدايات العمل على عزل المركبات الحيوية عالية الوزن الجزيئي واستخلاصها وتوصيفها.
ومن الأعمال المهمة المنجزة، أبحاث مولدر Mulder وليبغ Liebig وشوتزينبيرغر Schutzenberger وغيرهم، حول عزل الحموض الأمينية من نواتج حلمهة (تحلل بالماء) البروتينات، وتجارب فيشر، الذي بيّن كيفية ارتباط الحموض الأمينية في جزيء البروتين.
تمكن الطبيب السويسري ميشر F.Miescher عام 1868 من عزل الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين (الدناDNA) [ر. الحموض النووية، الصبغي] وذلك في نوى خلايا القيح المستحصل من الضمادات الجراحية المطروحة، وبدأ القيام بمجموعة تجاربه حول خواص هذه المركبات وتصنيفها.
أما الأبحاث الاستقلابية المبكرة في الكيمياء الحيوية، فقد كان أغلبها مركزاً على موضوعات زراعية أو طبية. ومنها الدراسات الأساسية المميزة للكيميائي الفرنسي لافوازييه[ر] (1779 - 1784) Antoine Lavoisier، حول التنفس، والتي طرح من خلالها واعتماداً على القياسات المسعرية فكرة التشابه التام بين تنفس الخلايا وظاهرة احتراق الفحم الحجري، وكون الاختلاف بينهما من الناحية الكمية فقط. ونتيجة لهذا الاكتشاف أجريت مجموعة كبيرة من التجارب المركزة حول طاقة تفاعلات الاستقلاب وكان من نتائجها تحديد المكافئات الحرارية الغرامية لكل من الكربوهيدرات والدسم والبروتينات في بدايات القرن التاسع عشر.
وفي أثناء الفترة نفسها تمت ملاحظة تفاعلات التخمر fermentation من قبل الباحث ثيودور شوان Theodor Schwann كظاهرة ذات أصل حيوي، فقد أوضح شوان أن خلايا الخميرة yeast مثل أي نبات حي، قادرة على تحويل السكر إلى إيتانول وثنائي أكسيد الكربون. وقد تعرض شوان في حينها إلى سخرية شديدة نتيجة طرحه لهذه الفكرة، وحتى من قبل الكيميائيين «الروّاد» أمثال ليبيغ وفوهلر وغيرهما إذ رفضوا عد الخمائر خلايا حية.
استمرت الأبحاث حول التخمر من قبل العديد من الباحثين المهمين، والذي كان من أقدرهم العالم لوي باستور[ر] Louis Pasteur، الذي تمكن من عزل وتصنيف أحياء مختلفة تقوم بتخمرات متباينة، ومنها تلك التي تؤدي إلى تشكل حمض الزبدة والتي تعمل من دون وجود الأكسجين. وهكذا توصل باستور إلى مفهوم الأحياء الهوائية واللاهوائية[ر: الحياة الهوائية واللاهوائية] والتخمرات المرافقة لها. وقد وصلت الأبحاث حول التخمر إلى ذروتها عام 1897 عندما تمكن الكيميائي الألماني إدوارد بوشنر Eduard Buchner من تحقيق التخمر بوساطة مستخلص الخميرة اللاخلوي. وقد فتحت هذه النتائج الباب واسعاً أمام القيام بالأبحاث المتعلقة بالتفاعلات الأنزيمية المستقلة، وهي في الوقت نفسه قضت قضاء مبرماً على مازال باقياً حتى ذلك الوقت من أفكار «قوة الحياة».
شهد القرن التاسع عشر تطور الدراسات المتعلقة بالتركيب الضوئي photosynthesis الذي كان من الموضوعات المهمة[ر: الكيمياء الضوئية]، والذي جلب الانتباه في نهاية القرن التاسع عشر من خلال أعمال جوزيف بريستلي J.Priestley وغيره، حيث تبين أن التركيب الضوئي من حيث المبدأ هو عكس التنفس. وقد كانت هذه الفكرة مهمة جداً في تطور الأفكار البيوكيميائية.
إضافة إلى أن تطور أدوات الجراحة اللازمة للدراسات الفيزيولوجية والبيو كيميائية الحيوانية التي أعطت من الحقائق العلمية ما سمح بوضع الأساس لفكرة «وحدة البيوكيمياء عبر الطبيعة»، وذلك بالطبع مع احتفاظ كل من الأنواع الحيوية بخواصه الكيميائية المميزة له.
وبحلول القرن العشرين وفي بداياته، انطلقت الكيمياء الحيوية بقفزات واسعة، وبدأت التطورات المهمة والمعطيات العلمية الغزيرة تتوالى وعلى جميع المحاور.
ففي المجال الطبي أجريت الأبحاث الهادفة لتفهم المتطلبات الغذائية الضرورية وأهمية (مغزى) العوامل الغذائية غير المعروفة، والتي أوضحها العالم فريدريك هوبكنز Frederick Hopkins ومساعدوه في جامعة كامبردج، والذين طوروا مفهوم أمراض العوز deficiency diseases. وتم تحديد مجموعة من هذه الأمراض، مثل البلاغرا pellagra والأسقربوط scurvy والكساح rickets والبري بري beriberi، وقد أطلق الباحث فونك Funk مصطلح فيتامين vitamin (أمين الحياة) على المركبات التي تقي من الإصابة بمثل هذه الأمراض، وتم عزل العديد منها وتحديد تركيبه وخواصه.
تمت متابعة أعمال بوشنر على دراسة عملية التخمر في الأنظمة غير الخلوية (مثل السكاكر) في العديد من المختبرات، بما فيها مختبر هاردن ويونغ Harden & Yong، وإمبدن ومايرهوف Embden & Meyerhof في إنكلترا، والتي أعطت في نهاية المطاف شرحاً متكاملاً للطرق الكيميائية الحيوية بهذا الحقل، كما أسهمت أعمال فاربورغ في هذه الفترة في تحديد بنية عوامل مساعدة أساسية في عملية التخمر.
أدت أعمال كريبس Krebs على استقلاب السكاكر التأكسدي إلى تطورات إيجابية مهمة في اتجاهات متعددة من الاستقلاب الوسطي Intermediary metabolism. وتمركزت أبحاث العالم سمنر Sumner التقليدية (الكلاسيكية) حول بنية البروتينات وخواصهـا الكيميائية الحيويـة والذي اكتشف عام 1926 أن الأنزيمـات ـ الوسـطاء المنشِّطة للتفاعلات الحيويـة ـ هي بروتينات. وتمت ملاحظة ظاهرة التنشيط من قبل برزليوس عام 1835 الذي قدم كمثال عن التنشيط دياستاز البطاطا، وهو الأنزيم الذي يحلمه النشاء، مؤكداً أن جميع مركبات الأنسجة الحيوية تتشكل نتيجة فعاليات تنشيطية، الأمر الذي تم التأكد منه بدراسات لاحقة استخلصت فيها الأنزيمات وتنقيتها، ودراسة حركية عدد من التفاعلات الأنزيمية. وجهت هذه التجارب ـ ومع تطور توجهات الكيمياء الحيوية ـ الأنظار بشدة نحو الأنزيمات التي بقيت بنيتها مجهولة حتى اكتشافات سمنر، إذ كانت الفكرة السائدة في مطلع القرن العشرين هي أن الأنزيمات لاتنتمي لأي من صفوف المركبات المعروفة حينها. قوبلت أعمال سمنر حول البنية الكيميائية للأنزيمات بالسخرية (من قبل الكيميائي الألماني ريتشارد ويلستاتر R.Willstatter وطلابه) مما دفع سمنر إلى المثابرة، فتمكن من استحصال أنزيم اليوريآز urease مبلوراً ثم تفكيكه بوساطة أنزيمات البروتيآز protease وإفقاده الفعالية التنشيطية نتيجة ذلك. أيدت أبحاث نورثروب Northrup والأمريكي كونيتز Kunitz الطبيعة البروتينية للأنزيمات، وبذلك أصبح سمنر يعد أباً لعلم الأنزيمات enzymology الحديث.
أدى انسجام أبحاث مجموعات من العلماء أمثال شارغاف Chargaff وواطسن Watson وكريك Crick وويلكنز Wilkins وتناسق هذه الأبحاث، إلى تحديد بنية الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين، وهو ما خطّ البداية لعلم البيولوجيا الجزيئية molecular biology.
ويمكن القول بالإجمال إنه في بدايات المرحلة المبكرة من القرن العشرين سيطر التطور في موضوعات الاستقلاب الوسطي على الكيمياء الحيوية، وتم شرح ووضع مخططات الاستقلاب من تفكك واصطناع حيويين للمركبات الحيوية الرئيسة في الأجسام والأنسجة والخلايا الحية. وعلى الرغم من استمرار الدراسات المتعلقة بهذا الاتجاه إلا أنها لم تسيطر كلياً على تطلّعات البيوكيميائيين، الذين توزعت اهتماماتهم للإجابة عن أسئلة متنوعة كثيرة أخرى:
ـ ما هي المركبات الكيميائية التي تشكل المادة الحية؟
ـ ما هي الجزيئات الضخمة المميزة للأجسام الحية؟
ـ كيف تنجز الأنزيمات وظيفتها التنشيطية؟
ـ ما هي المركبات المطلوبة لتوفير الاحتياجات الغذائية للإنسان وغيره من الأجسام الحية؟
ـ ماهية التفاعلات الكيميائية التي يمكن للمادة الغذائية أن تتحول بوساطتها إلى مركبات نوعية مميزة لخلايا الجسم موضوع الدراسة؟
ـ كيف تتم الاستفادة من الطاقة الكامنة في الغذاء لتوفير الاحتياجات الطاقيّة المتنوعة للتفاعلات الجارية في الخلية الحية؟
ـ ما هو التنظيم البنيوي لمكونات الخلية الذي يوفر تحقيق الوظائف الكيميائية الخاصة بها؟ كيف تنقسم الخلايا؟ ما هي كيمياء الوراثة genetics؟ ما هي المورّثة gene وكيف تعمل؟
ـ بما أن حياة الخلية هي حصيلة آلاف عديدة من التفاعلات الكيميائية المتباينة الجارية ضمنها أو في محيطها، فكيف تتناسق هذه التفاعلات بانسجام متكامل فيما بينها؟
ـ كيف تقوم الخلايا المتمايزة في النسج الحيوانية بإسهاماتها الخاصة في النظام الكلي للكائن؟
ـ كيف ينظم الحيوان حجم السوائل المتواجدة ضمن خلاياه وتركيبها والدم المحيط الذي يوصل بينها؟
ـ كيف تستخدم المعلومات الوراثية المدخرة في البيضة المخصبة zygote في توجيه تطور الكائن الحي المتمايز؟
ـ كيف يثير الدخول المفاجىء لكائن حي دقيق أو أي جزيء ضخم غريب إلى داخل الجسم مجموعة من الاستجابات المعقدة؟
ـ ما هي الآلية التي تتعرف فيها الخلايا غيرها من الخلايا؟
ـ هل يمكن توصيف ظاهرة السلوك أو غيره من الظواهر الفيزيولوجية بمصطلحات كيميائية؟
إن التنوع الكبير للموضوعات التي تشغل اهتمامات الكيميائيين الحيويين والمرتبطة جميعها بشكل وثيق مع حياة الإنسان اليومية، أدى إلى نشوء فروع علمية جديدة مرتبطة بالكيمياء الحيوية وتنضم تحت مظلة التعريف العلمي لها، إضافة إلى تطور الاختصاصات الموجودة:
ـ الاستقلاب الوسطي للمركبات الحيوية في حالة الصحة والمرض.
ـ الكيمياء الفيزيائية للجزيئات الحيوية الضخمة، وخاصة البروتينات والحموض النووية.
ـ الاصطناع الحيوي للبروتينات والحموض النووية.
ـ الكيمياء العضوية للفعالية الأنزيمية.
ـ الآليات التي تؤثر بها العقاقير والمركبات الدوائية المختلفة في وظائف الجسم.
ـ الطاقة الحيوية، وخاصة اصطناع ATP في تفاعلات الفسفرة التأكسدية.
ـ آليات التنظيم الخلوي.
ـ البنية فوق الخلوية cell- ultrastructure.
ـ الآليات الجزيئية للوراثة، والهندسة الوراثية genetic engineering، مع مايثيره هذا الموضوع من جدل أخلاقي وعلمي حول المجالات التطبيقية له في الطب والإنتاج الغذائي.
ـ الأسس الجزيئية للظواهر الفيزيولوجية، بما فيها انتقال الومضة العصبية (التوصيل العصبي) والتقلص العضلي والرؤية والانتقال عبر الأغشية.
أحمد مالو