عبد الغني صدوق
تدور محاور بنية الروايات، منذ ظهور هذا الفن، حول الذاكرة. فهي أول ما يثير شرارة السرد ويتتبع آثاره الزمكانية خلال مراحل التدوين. إن الشخوص المنبعثين في أفضيتها يؤدّون مهامهم حسب ما تختزنه من أفكار متصلة بهم، وحيل متصلة بالراوي الذي يأخذ بزمام الكتابة إلى أقصى درجات الجمال. ثمّة إذًا علاقة متفاوتة الوصال بين الكاتب والراوي، تظهر محاسنها ومساوئها بعد الميلاد، إلا أنها لا تفسد للود قضية، بل تفسح الهوة لقراءة النص من زوايا نقدية مختلفة.
في رواية "كائن مؤجل" للكاتب السعودي فهد العتيق، الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في طبعتها الثالثة؛ تفعل الذاكرة فعلتها من البداية، وتتجلّى قوّتها في استحضار رائحة امرأة، إذ يقول الراوي على لسان المخاطب: "يتذكّر رائحة جسدها التي مضتْ هي أيضًا، كأنها رائحة استيقاظ، أو رائحة بول قديم"، ويُطرح هنا، مباشرةً، السؤال عن الفرق بين الروح والجسد.
تطرح الرواية تساؤلات عديدة حول الفرق بين الروح والجسد وطبيعة علاقة الإنسان مع مكانه الأول بعد هَجره له
ثمّ ينصت الراوي إلى حوار يحاول بواسطته بدأ عرض الفكرة الأساسية عن ماهية الكائن المؤجل، ولستُ أدري إن كان "عظيم الزمان"، أحد شخوص الرواية، سيستولي على البطولة، فقد شُوهد خلال العرض مع مديره في العمل في لحظة كان ينصحه فيها بالحفاظ على وظيفته من أجل الترقية حتى التقاعد براتب جيد، وكأن العتيق يطرح قضية الرزق الذي يُعدّ في الأصل عند الرزّاق. ولكن عجلة الإنسان إرهاق لا يستطيع دفعه بمزاولة التفكير؛ هل يجب علينا التفريط في وظائفنا والمغامرة في البحث عن فرص أفضل تُجنّبنا التقيّد بالأوامر حتّى لا نظلّ عبيدًا للوظيفة، أم نبقى تحت رحمة الراتب إلى أن نبلغ التقاعد؟
إنّ آمالنا في الحياة تتوهج وفق المعطيات التي تسمح ببلوغ الأهداف في بساطتها وصعوبتها. يسير الواحد ساعيًّا نحوها جادًا حينًا ومتململًا في حينٍ آخر. وبين الخطوة والخطوة تتغير المسارات، ويضطرب الفكر، فيفرض التأجيل سلطته ريثما يتجدد القرار.
يُمثِّلُ بطل الرواية نصًا مسرحيًا على مسرح الجامعة، يصفّق له الأساتذة والزملاء. وبعد التخرج، لم يجد خشبة مسرح، وإنما مسرحًا عبثيًا في تفاصيل حياته اليومية. تتأجل الأحلام، منها الكتابة أيضًا، إذ كانت طقسًا يسكبُ فيها خواطره الخيالية، ليجد نفسه في حياة الفساد والسفر والسهر. ها هو عالم الخيال الحقيقي، النساء، الخمور، وتبقى الأماني مؤجلة في غرفة داخل رأسه.
إنّ السفر أو الانتقال من مكان إلى آخر من أجل حياة أفضل، هو سفر الروح والفكر للاشتغال بالمكان الجديد. أمّا إذا بقي العقل معلّقًا بالمكان القديم، فإن الإنسان لم يسافر، أي أنّ الذاكرة زاولت نشاطًا دائمًا لا تستطيع معه الخلاص منه، وهي المشتغلة طويلًا بالتفكير في التكيّف مع الجديد. فهل يعني هذا عند العتيق أنّ النّعم المؤجلة لا تلبث نشوة السعادة بها، حين بلوغها، ساعة من نهار ثم تصير مؤجلة مرّة أخرى كأنها مألوفة؟ أم أن الرغبة في سعادة مجهولة تجعل المرء في حنين إلى الزمن القديم متبسمًا لسعادة معلومة؟
لنقرأ معًا من "الكائن المؤجل" ما يمكن أن نشاهده بالمخيّلة: "دخل البيت الذي حلمت به العائلة ثلاثين عامًا، وها هو يتحقق أمامهم الآن، لكن بلا روح. يدخل الحمام. يضع رأسه تحت حنفية الماء، ربما تخفّف من وطأة هذا القيظ العظيم، كان يسأل نفسه عن هذا الملل الذي غرقت فيه العائلة جميعها".
والجميل في هذه الرواية قصرها. لقد استطاع العتيق أن يتشابك مع الماضي والحاضر، ولم تنفلت الفكرة، نراه يعرضُ الحدث في الحارة القديمة واصفًا حالة أبطاله مستنطقًا دواخلهم، ثم يطير بهم إلى الحارة الجديدة محافظًا على النسق في الفكرة والإيقاع في العبارة. وللغة سلطتها عندما تتجرد من التكلّف، فلا نكاد نعبر على سطر إلّا واستوعبنا المعنى في حُسن توظيف المصطلح، برغم ما للمعنى من غزارة.
ثم إن الكينونة في المادة والإنسان لم تكن بذلك الفهم العميق إلّا حينما حدثت الهجرة؛ هجرة الناس وبقاء الأرواح، اتّقدَ الفكر مع الحداثة وصار يفتّش عن راحة الروح المهجورة، فهل تلك الروح المستوحشة جزء من المكان المهجور أم أنها تسكن الإنسان وحده؟
القول التالي يضع المتلقي في أهبة الحقيقة، ينتزعه من النّص هنيهة ليكمل القراءة آملًا في الإلمام بالكائن المؤجل: "إنّه زمن الطفرة الاقتصادية، زمن الأغنياء والأقوياء وأبناء الذوات، وليس زمن الفقراء والمرضى والحالمين، زمن الانتقال نحو عالم غامض لا يعرفون عنه شيئًا. يشعر فيه كأنّه كائن ضائع ومعطّل".
وإذا نظرنا إلى مصائب الدنيا التي تزعزع طمأنينة الأسرة، نأخذها على محمل الجد وكأنها النهاية، نلاحظ في الرواية أنّ العتيق يراها شُرور مدسوسة فيها الخُيور، لأنها باعثة على التجديد، تجديد نمط الحياة بنضج وفلسفة. فالكائن منّا مجحف في حقّ نفسه إذا لم يعتبر التغيير من سنن الحياة، وأنّ الطوارئ إذا حلّت لا رادّ لها وهي واقعة لا محال، فالتسليم والتأقلم مع كلّ الأوضاع فطرة في الطبع، لكن الوعي بذلك غالبًا ما يكون مؤجلًا.
إنّ آمالنا في الحياة تتوهج وفق المعطيات التي تسمح ببلوغ الأهداف في بساطتها وصعوبتها
وهذا اقتباس يختصر زمنًّا طويلًا من العيش، فقرة أوجزت المعاناة التي أُنتِجتْ من خِضم الحياة مقارنة مع مَن لم يعش إلّا عمر البراءة: "قبل أيام سأل أخته عن أميرة، قالت له: سمعت أنهم سكنوا في الحارة المجاورة لنا، بعد طلاقها، سألها: هل لديها أطفال، قالت: لا أعرف، في هذه اللحظة كانت ابنة عفاف، تتابع حوارهما بعينيها الصغيرتين واللامعتين فقط، بادل الصغيرة نظرة خاطفة وهو يُردد في نفسه: لا زلت كائنًا مؤجلًا".
ولمّا كان محتّمًا على الروائي أن يجد مخرجًا من نصّه ليطلق عنان تأويل القارئ، تعود فكرة انفصال الروح عن الجسد في الختام، كخلاص للذاكرة الواعية بكلّ شيء، الخلاص من تعب الجسد واضطراب التفكير، وهنا يمكن القول إنّ العتيق قد قطع مسافة طويلة في رواية قصيرة استطاع أن يعرض الزمن السردي والحكائي ببراعة أديب ملم بخوالج الإنسان من كينونته المنبعثة من العدم والمؤجلة للرجوع للعدم لتتحقق الكينونة الخالدة.