علامات على طريق الفن 19
الفنان العراقي محمود صبري والواقعية الاجتماعية
لا انكر ان التعبير عن رأيي في فن محمود صبري شكل ومازال محنة فكرية عانيت منها منذ مقتبل عمري كرسام شاب ولحد الان، محنة تعتمل في داخلي اثناء المقابلة ما بين: هم الفنان الشكلاني والجمالي إزاء موقفه الإنساني. همه الذاتي، ومشروعية اسقاطه على عمل يتناول الهم الاكبر (العام)، ثم الخيار الصعب ما بين التعبير عن (طبقة) من المجتمع أم عن (الكينونة الإنسانية) بصورتها الأشمل.
ومما صعد من ثقل همي، هو رأي سارتر الذي اطلعت عليه في سنوات دراستي الاولى للفن في معهد الفنون الجميلة، حيث كان منصبا على معالجة مباحث الفنانين في موضوع الالم الانساني متجليا من خلال أعتى حدث وهو الحرب. يقول سارتر: "إذا قرر شخص متعنت الرأي، يقيم في غرفة تطل نوافذها على معسكر اعتقال، أن يرسم صحون الفواكه، فليس في الأمر كبير خطورة: فهو إنما يرتكب خطيئة الإهمال. اما الجريمة الحقيقية فهي أن يرسم معسكر الاعتقال كما لو أنه صحن فاكهة." [ص ١٨٨ من كتاب جمهورية الصمت]. ثم يعرج سارتر الى لوحة بيكاسو (الجورنيكا) قائلاً: "... والواقع أن اللوحة تجمع صفات متنافية. من غير ما جهد. وهذه اللوحة، التي تمثل تمرداً لا ينسى وتخليدا لمجزرة، تبدو وكأنها لم تبحث مع ذلك إلا عن الجمال. والأعجب من ذلك أنها وجدته." [نفس المصدر السابق ونفس الصفحة]. هاهو ذا سارتر في مقاله هذا، يصعد من حالة الحيرة في الحكم النقدي إزاء كل من النسق و الموقف الذي يعمل من خلاله الفنان، والذي تمخض في الجورنيكا عن التضييق الذي أحدثه الجانب الجمالي لفعالية الشجب التي كان من المرتجى من الجورنيكا أن تعليها. لم يكن سارتر الوحيد الذي تعامل مع الجورنيكا بهذا الشكل، إذ كُتِب أنها لم تلق اعجابا كبيرا من قبل بعض المثقفين الباريسيين، حتى أن هناك من قال انها لا تخدم الطبقة العاملة، وان بيكاسو - الذي كان يومها يساريا ـ يسكن برجا عاجيا بسبب تغليبه للطابع الجمالي فيها.
شاهد الجورنيكا الآلاف من الزوار، وقد يشكل هذا نوعا من الاهتمام الكبير، الا ان السؤال الذي ما يزال قائماً، والذي يتعلق بنوعية أهميتها، يلح في البحث عن موضع ثقلها كمشروع إبداعي مهم: فهل هو بصيتها؟ ام بفعاليتها وتأثيرها الحقيقيين كرد فعل لحدث مرتبط بظرف مادي وسياسي؟ وسيمتد هذا السؤال أيضا ليشمل لوحة قريبة من الجورنيكا وهي (ثورة الجزائر) لمحمود صبري ولوحة أخرى هي (الوثبة) لشاكر حسن آل سعيد ونصب الحرية لجواد وجدارية فائق حسن… الخ.
لا اضن ان محمود صبري كان واقعياً اشتراكياً بالمعنى المؤسساتي السوفيتي، لا في أعماله التي أنتجها ما قبل واقعية الكم، ولا فيما بعدها. ببساطة، لم تكن تلك الأعمال نتيج خضوع الى مرجع مفاهيمي قادم من بنية سلطوية فوقية، كما كان الحال في زمن سلطة السوفييت، ولم تتوفر أعماله على الجانب الإعلاني الذي يشيد بسلطة الحزب الشيوعي السوفيتي او العراقي. إن الواقعية الاشتراكية - بالمنحى الستاليني أو الجدانوفي - لم يكن لها وجوداً طاغياً في فن صبري ولا في الفن العراقي، فهذه ظهرت كتيار رسمي في الاتحاد السوفيتي في ثلاثينات القرن العشرين وسادت فيه وفي الدول الواقعة تحت تأثيره، وكان لها ارتباطاً وثيقاً بالايديولوجيا والإعلان السياسي. يجب إذن تجنب الخلط ما بين الواقعية الاشتراكية وواقعية ثانية هي الواقعية الاجتماعية، وتلك الأخيرة، هي التي اعتقد ان صبري اشتغل من منظورها.
تركز الواقعية الاشتراكية على دور الفقراء والطبقة الكادحة، بصفتهم (ابطالاً حقيقيون) و (صناع لحياة افضل في المشهد الواقعي). أما صبري فقد قدمهم لنا كـ(ضحايا) كما رآهم في محيطه. ضحايا لنظام اجتماعي اجحف بحقوقهم الانسانية، فجاءت أعماله كرد فعل نقدي ضد سلطة تخلفت عن صنع حياة كريمة للكادحين من شعبه وكتمثيل للصراع بين قوى السلطة القمعية وشعبها المظلوم. إذن لم يكن هذا التقديم إلا تعبيراً عن استياء بسبب انعدام العدالة في وطنه. وهو تعبير واقعي اجتماعي بامتياز، قبل أن يكون اشتراكياً اعلانياً خاضعاً لشروط الحزب الشيوعي.
لطالما ذكرتني أعمال محمود صبري ـ من الناحية الأسلوبية والتعبيرية - بالفنان الإكوادوري أوزولدو غواياسمين، الذي عاش ما بين الأعوام ١٩١٩ - ١٩٩٩، إذ ركز فنه التعبيري على تقديم ألم الظروف المعيشية للشعوب الفقيرة ومآسي الحروب والقمع والديكتاتوريات والتعذيب. كان يرسم حالات الإنسان في أشكالها الأكثر بؤساً. من أجل ترسيخ فن يذكر الجميع بما لا ينبغي نسيانه. كان الفقر والقمع ملهمه الاعظم. ويذكرني هذا الفنان ايضاً بصبري من جهة اهتمامه بالخط في الدرجة الأولى كعنصر انشائي وبنائي رئيسي، وميله إلى الجانب الهندسي التصميمي للأشكال البشرية، وهو ما كان يلتزم به صبري ايضا في انشاء أعماله الفنية كخيار سنجد له تجليات عديدة في الأسلبة التي كان معمولا بها في جزء كبير من منجزات الفن السوفيتي... لقد كان غواياسمين، كما كان صبري شيوعياً أيضاً.
لا مندوحة من القول أن اغلب أعمال محمود صبري قد جاءت بصيغة شهادات اجتماعية إنسانية على أحداث سياسية، تمثلت بسحنة محلية، هي صنو لأصول أو جذور ثقافية شعبية غائرة في الروح العراقية: استشهاد الحسين والعباس، المقتل الفاجع لولده الصغير علي، النساء والأمهات الثكلى، موت تموز… هي إذن فواجع رسخت في الوجدان والمخيلة الشعبية وسياقاتها المختلفة في المبنى والمعنى. سيلحقها بتأثيرات واضحة بفن الأيقونات الدينية الروسي فيما بعد، وهو فن شعبي ايضاً وبامتياز.
لكن ما يمكن أن نتساءل عنه هو: هل استجابت واقعية صبري - بأسلوبها القريب من مظهر العالم الخارجي - لما يميل إليه ذوق الطبقات المعدمة من فلاحين وعمال؟ ويلح هنا ايضاً سؤال ثان: هل كانت هذه الأعمال قادرة على تغيير وعي الجماهير؟ وهل فعلت ذلك بالفعل؟ بل هل كانت تشتغل فعلياً داخل محيط النخبة المثقفة وكوادرها البسيطة الوعي. وكيف كان يتم لها هذا الاشتغال، وماذا كانت نتائجه؟
شخصياً، أميل إلى عدم القناعة بفعالية مبانٍ لا ولم تنطبق على ما ترمي إليه ذائقة الجمهور الواسع، و بالتخصيص، ذائقة البسطاء من الناس، والتي هي في حقيقتها، ميالة إلى أساليب الرسومات الشعبية الحكائية والدينية وما تطرحه من أفكار، إن الذوق الشعبي يتجه ويميل أكثر نحو صور من مثل: مقاتل الطالبيين وذبح ابراهيم لابنه اسماعيل وصورة بنت المعيدي وصورة الطفل الباكي او البحار الذي يدخن الغليون و السفينة التي تمخر عباب البحر وصور اصيص الزهور والمناظر الطبيعية المرسومة بطريقة ساذجة وحادثة الإسراء والمعراج وشجاعة عنتر وأبو زيد الهلالي…الخ
نص مقتطع من مقال بعنوان: "أكثر من مفهوم للواقعية، محمود صبري من التشخيصية التعبيرية الى واقعية الكم، نشر في مجلة "ماكو" في العدد المخصص للفنان محمود صبري.
الصور المرفقة لاعمال الفنان محمود صبري امير داوود
الفنان العراقي محمود صبري والواقعية الاجتماعية
لا انكر ان التعبير عن رأيي في فن محمود صبري شكل ومازال محنة فكرية عانيت منها منذ مقتبل عمري كرسام شاب ولحد الان، محنة تعتمل في داخلي اثناء المقابلة ما بين: هم الفنان الشكلاني والجمالي إزاء موقفه الإنساني. همه الذاتي، ومشروعية اسقاطه على عمل يتناول الهم الاكبر (العام)، ثم الخيار الصعب ما بين التعبير عن (طبقة) من المجتمع أم عن (الكينونة الإنسانية) بصورتها الأشمل.
ومما صعد من ثقل همي، هو رأي سارتر الذي اطلعت عليه في سنوات دراستي الاولى للفن في معهد الفنون الجميلة، حيث كان منصبا على معالجة مباحث الفنانين في موضوع الالم الانساني متجليا من خلال أعتى حدث وهو الحرب. يقول سارتر: "إذا قرر شخص متعنت الرأي، يقيم في غرفة تطل نوافذها على معسكر اعتقال، أن يرسم صحون الفواكه، فليس في الأمر كبير خطورة: فهو إنما يرتكب خطيئة الإهمال. اما الجريمة الحقيقية فهي أن يرسم معسكر الاعتقال كما لو أنه صحن فاكهة." [ص ١٨٨ من كتاب جمهورية الصمت]. ثم يعرج سارتر الى لوحة بيكاسو (الجورنيكا) قائلاً: "... والواقع أن اللوحة تجمع صفات متنافية. من غير ما جهد. وهذه اللوحة، التي تمثل تمرداً لا ينسى وتخليدا لمجزرة، تبدو وكأنها لم تبحث مع ذلك إلا عن الجمال. والأعجب من ذلك أنها وجدته." [نفس المصدر السابق ونفس الصفحة]. هاهو ذا سارتر في مقاله هذا، يصعد من حالة الحيرة في الحكم النقدي إزاء كل من النسق و الموقف الذي يعمل من خلاله الفنان، والذي تمخض في الجورنيكا عن التضييق الذي أحدثه الجانب الجمالي لفعالية الشجب التي كان من المرتجى من الجورنيكا أن تعليها. لم يكن سارتر الوحيد الذي تعامل مع الجورنيكا بهذا الشكل، إذ كُتِب أنها لم تلق اعجابا كبيرا من قبل بعض المثقفين الباريسيين، حتى أن هناك من قال انها لا تخدم الطبقة العاملة، وان بيكاسو - الذي كان يومها يساريا ـ يسكن برجا عاجيا بسبب تغليبه للطابع الجمالي فيها.
شاهد الجورنيكا الآلاف من الزوار، وقد يشكل هذا نوعا من الاهتمام الكبير، الا ان السؤال الذي ما يزال قائماً، والذي يتعلق بنوعية أهميتها، يلح في البحث عن موضع ثقلها كمشروع إبداعي مهم: فهل هو بصيتها؟ ام بفعاليتها وتأثيرها الحقيقيين كرد فعل لحدث مرتبط بظرف مادي وسياسي؟ وسيمتد هذا السؤال أيضا ليشمل لوحة قريبة من الجورنيكا وهي (ثورة الجزائر) لمحمود صبري ولوحة أخرى هي (الوثبة) لشاكر حسن آل سعيد ونصب الحرية لجواد وجدارية فائق حسن… الخ.
لا اضن ان محمود صبري كان واقعياً اشتراكياً بالمعنى المؤسساتي السوفيتي، لا في أعماله التي أنتجها ما قبل واقعية الكم، ولا فيما بعدها. ببساطة، لم تكن تلك الأعمال نتيج خضوع الى مرجع مفاهيمي قادم من بنية سلطوية فوقية، كما كان الحال في زمن سلطة السوفييت، ولم تتوفر أعماله على الجانب الإعلاني الذي يشيد بسلطة الحزب الشيوعي السوفيتي او العراقي. إن الواقعية الاشتراكية - بالمنحى الستاليني أو الجدانوفي - لم يكن لها وجوداً طاغياً في فن صبري ولا في الفن العراقي، فهذه ظهرت كتيار رسمي في الاتحاد السوفيتي في ثلاثينات القرن العشرين وسادت فيه وفي الدول الواقعة تحت تأثيره، وكان لها ارتباطاً وثيقاً بالايديولوجيا والإعلان السياسي. يجب إذن تجنب الخلط ما بين الواقعية الاشتراكية وواقعية ثانية هي الواقعية الاجتماعية، وتلك الأخيرة، هي التي اعتقد ان صبري اشتغل من منظورها.
تركز الواقعية الاشتراكية على دور الفقراء والطبقة الكادحة، بصفتهم (ابطالاً حقيقيون) و (صناع لحياة افضل في المشهد الواقعي). أما صبري فقد قدمهم لنا كـ(ضحايا) كما رآهم في محيطه. ضحايا لنظام اجتماعي اجحف بحقوقهم الانسانية، فجاءت أعماله كرد فعل نقدي ضد سلطة تخلفت عن صنع حياة كريمة للكادحين من شعبه وكتمثيل للصراع بين قوى السلطة القمعية وشعبها المظلوم. إذن لم يكن هذا التقديم إلا تعبيراً عن استياء بسبب انعدام العدالة في وطنه. وهو تعبير واقعي اجتماعي بامتياز، قبل أن يكون اشتراكياً اعلانياً خاضعاً لشروط الحزب الشيوعي.
لطالما ذكرتني أعمال محمود صبري ـ من الناحية الأسلوبية والتعبيرية - بالفنان الإكوادوري أوزولدو غواياسمين، الذي عاش ما بين الأعوام ١٩١٩ - ١٩٩٩، إذ ركز فنه التعبيري على تقديم ألم الظروف المعيشية للشعوب الفقيرة ومآسي الحروب والقمع والديكتاتوريات والتعذيب. كان يرسم حالات الإنسان في أشكالها الأكثر بؤساً. من أجل ترسيخ فن يذكر الجميع بما لا ينبغي نسيانه. كان الفقر والقمع ملهمه الاعظم. ويذكرني هذا الفنان ايضاً بصبري من جهة اهتمامه بالخط في الدرجة الأولى كعنصر انشائي وبنائي رئيسي، وميله إلى الجانب الهندسي التصميمي للأشكال البشرية، وهو ما كان يلتزم به صبري ايضا في انشاء أعماله الفنية كخيار سنجد له تجليات عديدة في الأسلبة التي كان معمولا بها في جزء كبير من منجزات الفن السوفيتي... لقد كان غواياسمين، كما كان صبري شيوعياً أيضاً.
لا مندوحة من القول أن اغلب أعمال محمود صبري قد جاءت بصيغة شهادات اجتماعية إنسانية على أحداث سياسية، تمثلت بسحنة محلية، هي صنو لأصول أو جذور ثقافية شعبية غائرة في الروح العراقية: استشهاد الحسين والعباس، المقتل الفاجع لولده الصغير علي، النساء والأمهات الثكلى، موت تموز… هي إذن فواجع رسخت في الوجدان والمخيلة الشعبية وسياقاتها المختلفة في المبنى والمعنى. سيلحقها بتأثيرات واضحة بفن الأيقونات الدينية الروسي فيما بعد، وهو فن شعبي ايضاً وبامتياز.
لكن ما يمكن أن نتساءل عنه هو: هل استجابت واقعية صبري - بأسلوبها القريب من مظهر العالم الخارجي - لما يميل إليه ذوق الطبقات المعدمة من فلاحين وعمال؟ ويلح هنا ايضاً سؤال ثان: هل كانت هذه الأعمال قادرة على تغيير وعي الجماهير؟ وهل فعلت ذلك بالفعل؟ بل هل كانت تشتغل فعلياً داخل محيط النخبة المثقفة وكوادرها البسيطة الوعي. وكيف كان يتم لها هذا الاشتغال، وماذا كانت نتائجه؟
شخصياً، أميل إلى عدم القناعة بفعالية مبانٍ لا ولم تنطبق على ما ترمي إليه ذائقة الجمهور الواسع، و بالتخصيص، ذائقة البسطاء من الناس، والتي هي في حقيقتها، ميالة إلى أساليب الرسومات الشعبية الحكائية والدينية وما تطرحه من أفكار، إن الذوق الشعبي يتجه ويميل أكثر نحو صور من مثل: مقاتل الطالبيين وذبح ابراهيم لابنه اسماعيل وصورة بنت المعيدي وصورة الطفل الباكي او البحار الذي يدخن الغليون و السفينة التي تمخر عباب البحر وصور اصيص الزهور والمناظر الطبيعية المرسومة بطريقة ساذجة وحادثة الإسراء والمعراج وشجاعة عنتر وأبو زيد الهلالي…الخ
نص مقتطع من مقال بعنوان: "أكثر من مفهوم للواقعية، محمود صبري من التشخيصية التعبيرية الى واقعية الكم، نشر في مجلة "ماكو" في العدد المخصص للفنان محمود صبري.
الصور المرفقة لاعمال الفنان محمود صبري امير داوود