إسماعيل فتاح الترك: وجوه المستطيلات
"الرسم هو وهم، قطعة من السحر، لذلك ما تراه ليس ما تراه"
فيليب غوستون
طفق الترك يرسم وينحت، خلال أخريات سنوات حياته، وجوهاً استعارت شكل حدودها من المستطيلات الهندسية. رسم ونحت على سطوحها اختصارات لعيون وأنوف وأفواه، وهي في خيارات أخرى، ليست سوى وجوه داخل مستطيلات. لكن، هل صنع المستطيل يا ترى وجوهه ووجوه الأنباط المستطيلة من قبله؟ أم أن تلك الوجوه صنعت ذلك المستطيل؟ لقد خرق النحات عقيدة الوجه البيضوي، وعلى المستطيل الآن أن يقنعنا بأنه ليس سوى وجه، وعليه أيضاً، أن يذهب بوجه الكائن باتجاه الميتافيزيقيا، بعيداً، إلى الماورائيات، حيث لا شبيه ولا واقع مستعاد. وهكذا ايضاً، قام النحات الإغريقي في عصره الكلاسيكي بوضع الوجوه البشرية في ذات المكان الخفي الماورائي، ولكن هذه المرّة باعتماد صيغة الإفراط في مثالية تفاصيل الوجه. نحن نطالع هنا رغبتين ملحتين: اختزالية متقشفة احتكمت إلى الهندسة وقبلت بأقل القليل، مقابل رغبة أخرى لم تمجّد الوجه الواقعي إلا لبرهة، ثم تخطته باتجاه البذخ في ترقيته إلى مقام الوجه المثالي. تحوّلت مفردات وجوهه: العينان والأنف والفم، لما يشبه إيماءات ضالعة في عجالة البث. وهي أيضاً كالوجه بكُلّيَته جاءت كسليلة للأشكال الهندسية الخالدة. وفي معمعة الهندسة هذه، سيترك لنا الترك الخيار في أن نقرأ الوجه على أنه مستطيل، أو أن نقرأ المستطيل عينه على أنه وجه. وربما سنقرأ المستطيل كإطار لوجه صار على مقرب كبير منا، حتى انعدم بسبب هذا القرب حده الخارجي، فصار أدنى إلى وجوه صامته تطالعنا من شواهد قبور. آثر إسماعيل أن ينحت ويرسم وجوهه لتواجهنا، تماماً كما أراد لها من قبله الناسك المتعبد النبطي: وجوهاً ليست كالوجوه. لكن إن أطلنا النظر فيها، فسوف تنقِّبُ عيوننا في فضائها المستطيل، بحثاً عن الحد المطموس للوجه الواقعي، ذلك الوجه الذي عرفناه متصفاً أبداً بانحناءاته، لنستعيد بذلك التنقيب طبيعة انحناء خطه الخارجي الذي يرسم له حدوده. إن عيوننا العنيدة، التي لا تقبل الأوهام البصرية بيسر، ستبيّض ما اعتبرته مسوّدة نصوص بصرية لوجوه، ثم ستجهد في استعادة المدرك الشكلي البَدائيّ لها. ستستعيد عيوننا في ذلك الفضاء الأخرس المستطيل، ذلك الخط الحدودي الذي أخفاه الفنان. وفي أعمال أخرى من نفس المجموعة، حيث ينحت ويرسم وجوهاً بلا عيون، ستبحث أعيننا هذه المرّة فيها عن أعيننا. ثم ستجهد في شق طريق لتلك العيون الغائبة داخل غياهب الفراغ الأسود أو في سطوع البياض أو أي لون آخر أسند له الفنان دور خلفية لها. لن تدوم لعبة خفاء العيون هذه طويلاً، إلا إذا ارتضيناها وسلمنا بها، ثم تخلينا عن الحاجة إلى قيافة أثرها. وفي الرسم، سيتخذ سطح الوجه المرسوم عنده، هيئة ساحة للتجريب أو اللهو اللوني، حيث تظهر الألوان من خلال حركة الفرشات القصيرة، كما لو كانت استعادة لتجاربه الأولى في الفن اللاشكلي، أو التبقيعي.
مقطع من دراسة حول اعمال الفنان إسماعيل فتاح الترك، نشرت في مجلة (ماكو) في عددها المخصص له.
"الرسم هو وهم، قطعة من السحر، لذلك ما تراه ليس ما تراه"
فيليب غوستون
طفق الترك يرسم وينحت، خلال أخريات سنوات حياته، وجوهاً استعارت شكل حدودها من المستطيلات الهندسية. رسم ونحت على سطوحها اختصارات لعيون وأنوف وأفواه، وهي في خيارات أخرى، ليست سوى وجوه داخل مستطيلات. لكن، هل صنع المستطيل يا ترى وجوهه ووجوه الأنباط المستطيلة من قبله؟ أم أن تلك الوجوه صنعت ذلك المستطيل؟ لقد خرق النحات عقيدة الوجه البيضوي، وعلى المستطيل الآن أن يقنعنا بأنه ليس سوى وجه، وعليه أيضاً، أن يذهب بوجه الكائن باتجاه الميتافيزيقيا، بعيداً، إلى الماورائيات، حيث لا شبيه ولا واقع مستعاد. وهكذا ايضاً، قام النحات الإغريقي في عصره الكلاسيكي بوضع الوجوه البشرية في ذات المكان الخفي الماورائي، ولكن هذه المرّة باعتماد صيغة الإفراط في مثالية تفاصيل الوجه. نحن نطالع هنا رغبتين ملحتين: اختزالية متقشفة احتكمت إلى الهندسة وقبلت بأقل القليل، مقابل رغبة أخرى لم تمجّد الوجه الواقعي إلا لبرهة، ثم تخطته باتجاه البذخ في ترقيته إلى مقام الوجه المثالي. تحوّلت مفردات وجوهه: العينان والأنف والفم، لما يشبه إيماءات ضالعة في عجالة البث. وهي أيضاً كالوجه بكُلّيَته جاءت كسليلة للأشكال الهندسية الخالدة. وفي معمعة الهندسة هذه، سيترك لنا الترك الخيار في أن نقرأ الوجه على أنه مستطيل، أو أن نقرأ المستطيل عينه على أنه وجه. وربما سنقرأ المستطيل كإطار لوجه صار على مقرب كبير منا، حتى انعدم بسبب هذا القرب حده الخارجي، فصار أدنى إلى وجوه صامته تطالعنا من شواهد قبور. آثر إسماعيل أن ينحت ويرسم وجوهه لتواجهنا، تماماً كما أراد لها من قبله الناسك المتعبد النبطي: وجوهاً ليست كالوجوه. لكن إن أطلنا النظر فيها، فسوف تنقِّبُ عيوننا في فضائها المستطيل، بحثاً عن الحد المطموس للوجه الواقعي، ذلك الوجه الذي عرفناه متصفاً أبداً بانحناءاته، لنستعيد بذلك التنقيب طبيعة انحناء خطه الخارجي الذي يرسم له حدوده. إن عيوننا العنيدة، التي لا تقبل الأوهام البصرية بيسر، ستبيّض ما اعتبرته مسوّدة نصوص بصرية لوجوه، ثم ستجهد في استعادة المدرك الشكلي البَدائيّ لها. ستستعيد عيوننا في ذلك الفضاء الأخرس المستطيل، ذلك الخط الحدودي الذي أخفاه الفنان. وفي أعمال أخرى من نفس المجموعة، حيث ينحت ويرسم وجوهاً بلا عيون، ستبحث أعيننا هذه المرّة فيها عن أعيننا. ثم ستجهد في شق طريق لتلك العيون الغائبة داخل غياهب الفراغ الأسود أو في سطوع البياض أو أي لون آخر أسند له الفنان دور خلفية لها. لن تدوم لعبة خفاء العيون هذه طويلاً، إلا إذا ارتضيناها وسلمنا بها، ثم تخلينا عن الحاجة إلى قيافة أثرها. وفي الرسم، سيتخذ سطح الوجه المرسوم عنده، هيئة ساحة للتجريب أو اللهو اللوني، حيث تظهر الألوان من خلال حركة الفرشات القصيرة، كما لو كانت استعادة لتجاربه الأولى في الفن اللاشكلي، أو التبقيعي.
مقطع من دراسة حول اعمال الفنان إسماعيل فتاح الترك، نشرت في مجلة (ماكو) في عددها المخصص له.