محمد رسول الله (ص)
Mohammad Rasol Allah - Mohammad Rassol Allah
محمد رسول الله r
محمد بن عبد الله، الرسول الأعظم، خاتم النبيين، لم يعرف التاريخ رجلاً كان ولا يزال يحرِّك التاريخ مثله، ولا استمر تأثير أحد تأثيراً متزايد السعة في المكان، بعيد الأثر في الزمان، متنوع الشعوب في الأرض كتأثيره، وليس ثمة فرد أضحت أعماله وأقواله وحركاته وسكناته سُنّة مباركة لمئات الملايين من البشر سواه، وهو بين الأنبياء كافة النبي الوحيد الذي يُعرف عن يقين وجوده البشري، وتفاصيل سيرته وأهله ومغازيه وجمهور أصحابه.
ومحمد بن عبد الله (رجل) لا يشركه رجل آخر في صفاته ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة وفي الجزيرة وفي العالم بأسره.
فمحمدr نبيلٌ عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وقصي كان أول بانٍ لمجد قريش، وموطِّد لنفوذها، فهو الذي استخلص أمر مكة وشؤون البيت من خزاعة، وأسكن القرشيين حول الحرم، وجمع قبائلهم، وملكّه قومه عليهم، فكان أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، وقصي هو الذي ابتنى داراً جعل بابها إلى الكعبة، وجعل فيها مجلس شورى لقريش، ودار حكومة سمّاها دار الندوة، ونظّم أمور مكة الخارجية والداخلية، ولاسيما فيما يتعلق بخدمة البيت الحرام من وظائف السقاية والرفادة والحجابة، إضافة إلى أمور اللواء ورئاسة دار الندوة. وكان جد محمد بن عبد الله، عبد المطلب بن هاشم، سيد مكة، عندما امتدت أطماع أبرهة الأشرم حاكم اليمن الحبشي، لانتزاع السيادة التجارية من قبيلة قريش، وتوجيه أنظار العرب إلى «القليس» الكنيسة التي بناها في اليمن، فقاد حملة وسار إلى مكة سنة 570م، وشاءَت الأقدار أن تكّرم عبد المطلب في يوم ميلاد حفيده محمد بن عبد الله، بتراجع الجيش الحبشي وهلاك معظم أفراده.
فَقَدَ الرسول الكريم والده عبد الله قبل أن ترى عيناه النور فكفله جده عبد المطلب، وكان من عادة الطبقة العليا في المجتمع المكي أن ترسل أولادها مسترضعة في البادية، ليعيشوا في جوها النقي وليكتسبوا فصاحة أهلها وسلامة نطقهم، وقد أرضع الرسولr بعد ولادته مباشرة «ثويبة» مولاة أبي لهب وذلك لبضعة أيام قبل قدوم حليمة السعدية من قبيلة سعد هذيم، وتتحدث المصادر عن الخير الذي فاض على حليمة وقومها بعد قدوم الطفل محمد إلى ربوعهم، وظل محمد في كفالة حليمة مدة عامين حتى فُطم، فعادت به إلى أمه آمنة بنت وهب[ر] التي طلبت إليها الرجوع إلى أرض بني سعد بن بكر وإبقاءه في كفالتها لأنها تخاف عليه وباء مكة، وظل بينهم حتى بلغ الخامسة من عمره حين أعادته حليمة وسلّمته إلى جده، ويذكر محمد هذه الفترة من حياته، وينوّه بما كان لها من فضل في تقويم لسانه وإيضاح بيانه، فيقول: «أنا أعربكم، أنا من قريش ولساني لسان بني سعد بن بكر».
وتتالى الأحداث على محمد الطفل، فقد توفيت والدته وهو ابن ست أو ثماني سنين وفي الثامنة من عمره توفي جده عبد المطلب ، فانتقل محمد إلى كفالة عمه أبي طالب سيد بني هاشم، الذي لم يكن على جانب كبير من الغنى، ولكنه كان يخصه بعناية وحب كبيرين استمرا طوال حياته قبل بعثته وبعدها، ولما بلغ التاسعة من عمره على قول أو الثانية عشرة على قول آخر رافق عمه أبا طالب في رحلة إلى الشام، إذ تذكر المصادر أنه قابل في بصرى الراهب بحيرى.
وهكذا نشأ محمد يتيماً ولكن بين رحماء، فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح وفضيلة العطف على الآخرين، كما أنه نشأ فقيراً فلم يكن بالغنيّ المترف فيُطغيه بأس النبلاء والأغنياء ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
خبر كل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، ففي سن الخامسة عشرة، شارك الرسول الكريمr في حرب الفجار التي قادتها قريش وحليفتها كنانة ضد هوازن، ويذكر الرسول هذه الحرب فيقول: «كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها»، واتسعت خبرة الرسول إثر هذه الحادثة، وتعرّف لوناً آخر من ألوان النظم القبلية وهي الأحلاف، إذ أعقب حرب الفجار سعي بعض رجال قريش إلى عقد حلف لنصرة المظلوم ورد الحقوق الضائعة إلى أهلها، وتم انعقاد هذا الحلف في دار عبد الله بن جدعان، وعرف باسم «حلف الفضول» الذي قال فيه الرسول الكريمr: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت».
وعندما بلغ الرسول الخامسة والعشرين من عمره تزوج من خديجة بنت خويلد بن أسد[ر]، وكانت من أشرف نساء قومها وأعلاهن نسباً وأكثرهن مالاً، وتشير المصادر إلى أن زواجها منه قد تم بعدما تأكد لها ما سمعته عنه من شرف ونزاهة وأمانة إبان خروجه بتجارة لها إلى الشام، وكان زواج الرسولr من السيدة خديجة منعطفاً مهماً في حياته؛ لأن هذا الزواج أمّن للرسول موضعاً مناسباً في المجتمع المكي، وساعدته ثروتها على العيش بيسر لا يخالطه خوف من الغد أو سعي حثيث في سبيل لقمة العيش. وكانت السيدة خديجة أول امرأة يتزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت، أما هي فكانت قد تزوجت قبله مرتين، وكان أحد أزواجها من بني مخزوم.
كانت قريش تنظر إلى محمدr نظرة فيها كل التقدير والاحترام لما عُرف عنه من ترفع عن الخطايا وإقبال على طيب الفعال والسجايا حتى أطلق الناس عليه لقب الأمين، وقبلوا النزول على حكمه في حسم المشكلات العامة، وشهد وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، تجديد قريش للكعبة، واختلاف سادة هذه القبيلة فيما بينها حول من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، فاستطاع بحكمته الفطرية أن يحلّ هذا التنافس القبلي؛ بأن بسط رداءه؛ ووضع فيه الحجر الأسود، ثم طلب من مشايخ الملأ وهم أرستقراطية قريش حمله إلى الكعبة؛ بأن يأخذ كل منهم بطرف من الرداء دلالة على وقوفهم جميعاً على قدم المساواة في نقل هذا الحجر الشريف، ثم تولى الرسول الكريم وضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة.
وهكذا حصل الرسولr في مسقط رأسه مكة وقبل بعثته بخمس سنوات على صورة متكاملة لما آلت إليه الحياة القبلية، ولاسيما أن مكة قد أضحت مجتمعاً متناقضاً نتيجة لمركزها الديني والتجاري، فكان الفرد من قريش يحتفظ بالعصبية القبلية من حيث الغزو والفخر بالأحساب والأنساب، ويعتز بالوقت نفسه بالتمايز الطبقي الذي صاحب حياة الاستقرار في هذا المركز الديني والتجاري، فدأب القرشي من الملأ في الافتخار بعشيرته من جهة وثروته من جهة ثانية، وأقبل على الأخذ بأسباب الترف من الملبس والمسكن واقتناء الجواري.
اندلعت الثورة على هذه الحياة القبلية ونظمها ومؤسساتها حين نزل الوحي بالقرآن الكريم على الرسول الأمينr وهو في الأربعين من عمره في أثناء تعبّده بغار حراء، نزل القرآن ثورة دينية اجتماعية داعياً إلى إقرار نظم جديدة في سبيل بناء مجتمع متحرر من النظرة القبلية الضيقة وقائم على أساس العدالة العالمية.
من المتفق والمتعارف عليه أن السيدة خديجة بنت خويلد كانت أول من آمن وأسلم برسالة محمدr بعد أن تنزّل عليه وحي الله؛ فهي لذلك أول المسلمين عامة وأول من أسلم من النساء، ولا ينازعها في هذه الصفة منازع، على أن الذي هو موضع النزاع بين الرواة هو أول المسلمين من الذكور، ففي تاريخ الطبري عدد كبير من الروايات حول هذا الموضوع تتأرجح فيه الأخبار بين ثلاثة أسماء؛ أبي بكر الصديق، علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، ويذكر الطبري أنه بعد إسلام هؤلاء النفر الثلاثة أسلم عدد من الناس من بينهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، ثم فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث عنه الناس، فلما مضى على مبعثه ثلاث سنين، أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يصدع بما جاء به وأن يدعو الناس بدعوة الإسلام[ر]، وكان قبل ذلك يدعو إلى الله بالسر وقد جاء الأمر بعلانية الدعوة في الآية الكريمة )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ( (الحجر94) وفي قوله تعالى )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ( (الشعراء 214) فما كان من رسول اللهr إلا أن نقل دعوته من مرحلة السر إلى مرحلة العلن، وخرج حتى صعد الصفا ونادى بالناس، فاجتمع حوله أهل مكة ورجالاتها من مختلف الأحياء والبطون، ولما اكتمل جمعهم قال لهم الرسول الكريم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟»، فقالوا: «ما جربنا عليك كذباً»، فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، وكان بين الحضور عمه أبو لهب (عبد العزى) فقال له: تباً لك ألهذا جمعتنا، فنزلت الآية الكريمة )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ( (المسد 1).
بدأت معارضة قريش للرسول وإعلانها العداء له عندما بدأ الرسولr يدعو إلى عبادة الله علانية، ولاسيما عندما عاب آلهتها وذكرها بسوء، وكان الذي أثارهم شعورهم بالخطر الذي تمثله دعوة الرسول، والمخاطر التي قد تنجم عن الثورة الدينية التي تؤكد عبادة إله واحد، وتنفي عبادة الأصنام السائدة في مكة، وقد يكون من نتائجها فقدان قريش الزعامة التي يتفيؤون بظلالها، والتي تنبع إلى حد كبير من زعامتهم الوثنية ووجود الكعبة رمز وحدة العرب ومحط أنظارهم بين ظهرانيهم، فهم سدنة الكعبة وهم المشرفون على شؤونها وحمايتها، وهي التي أعطتهم بمناسك حجها وبالآلهة الموجودة في داخلها ما يتمتعون به من مكانة وسيادة، كما أن الفضل في مكانتهم التجارية يعود إلى هذه القدسية الدينية لمدينتهم وإلى سيادتهم القبلية، ولذلك فإن عيب الآلهة وذم الدين ومقدسات هذا الدين كان يمثل بالنسبة إلى قريش خطراً لا على سيادتها فحسب بل على تجارتها ومن ثمّ غناها.
وإلى جانب أن الإسلام يهدد معتقداً ألفوه وعايشوه ردحاً طويلاً من الزمن؛ فإنه يهدد تكوين ونظم مجتمع له عادات وتقاليد ألفها الناس واعتادوها وليس من السهل أن يتخلوا عنها، ولاسيما أن الإسلام نسخ عصبية الدم وأقام عصبية الإيمان، هذه العصبية التي قد تبعد الأخ عن أخيه وتضع الغريب محل القريب ما دام الذي يجمع هو الدين لا الدم، ويؤكد هذه الحقيقة ما يذكره ابن إسحاق من أن المشركين كلموا الرسول وقالوا له: «إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسَفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم».
على الرغم من معارضة قريش للرسول وإجماعهم على إعلان عداوتهم إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون؛ فإن رسول اللهr مضى مظهراً لأمر الله لا يرده عنه شيء، وقد ساعده على ذلك حدب عمه أبي طالب عليه، ومنعه إياه، وقيامه دونه، فلما رأت قريش أن الرسول الكريم لا يعتبهم (أي لا يرضيهم) من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم. مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: «يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا، فإما أن تكفّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه» فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، وبعث أبو طالب إلى الرسولr، وكلمه بما جاء به إليه قومه، وقال له: «فأبقِ علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق»، وظن الرسول أن عمه قد ضعف عن نصرته وأنه مسلمه إلى قومه، فقال قولته الشهيرة: «يا عمُ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته»، فلما ولّى ناداه أبو طالب وقال له: «اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً».
نال الرسول الكريم، وصحبه من الأذى والسخرية والعذاب على يد القرشيين ما يفوق كل وصف، وتحفل كتب التاريخ والسيرة بأمثلة عديدة على هذا العذاب والأذى، وكان أشد المتعرضين للعذاب هم المستضعفون والموالي ومن لا سند قَبَلَي لهم، على أن الرسولr لم يعدم حماية ونصراً من عشيرته، ويُذكر في إسلام حمزة بن عبد المطلب عم الرسول حديثٌ يوضح مقدار الأهمية التي كانت تعلقها التقاليد المكية على النظام القبلي، فقد لقي الرسول الكريم وهو جالس عند الصفا ذات مرة إهانة شديدة وشتماً مقذعاً من أبي جهل، وسمعت هذه الإهانة مولاة لعبد الله بن جدعان كان منزلها قريباً من الصفا، وصادف بعد قليل أن مرّ حمزة قرب منزل المولاة، وهو عائد من صيد ومعه قوسه وسلاحه، فحدثته المولاة بحديث ابن أخيه وما وقع له على يد أبي جهل فاستشاط حمزة غضباً وأسرع إلى حيث كان أبو جهل ومعه رجالات قريش، وضربه بالقوس ضربة شج بها رأسه، وأعلن للجميع أنه مسلم منذ الساعة، وأنه لن يسكت على إهانة توجه إلى ابن أخيه أو إلى غيره من المسلمين.
ويذكر ابن إسحاق أنه لما رأى رسول اللهr ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً رحيماً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك عدد من المسلمين من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام، وكانت الهجرة في شهر رجب من السنة الخامسة لمبعث الرسول أي نحو سنة 615م، وقد ظل بعض المهاجرين من المسلمين في الحبشة حتى أرسل الرسول إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، وطلب منه أن يرد على الرسول مَن قبله من المسلمين، وعاد المسلمون في السنة السابعة للهجرة والرسول بخيبر، وكان عدد الذين عادوا في هذه الوقعة ستة عشر رجلاً.
لم تؤد هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة إلى حل الأزمة بين الرسول والمشركين من قومه، بل إن قريشاً عندما رأت أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً واستقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر بن الخطابr قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلبr مع رسول الله، وأن الإسلام بدأ ينتشر؛ اجتمعوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم (على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم)، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، استمرت هذه المقاطعة ثلاث سنين عانى فيها آل هاشم ومن انضم إليهم من بني عبد المطلب ما لا يطاق من وحدة وجوع وحرمان، حتى قرر بعض أفراد من قريش نقض الصحيفة، وقام المطعم بن عدي فشقّ الصحيفة وأعلن بذلك رسمياً إنهاء المقاطعة، وكان خروج آل هاشم والمطلب من الشعب على ما يذكر ابن سعد في السنة العاشرة من البعثة.
كان من أسوأ النتائج التي نجمت عن المقاطعة وفاة أبي طالب والسيدة خديجة بنت خويلد، وكان لفقدهما أكبر الأثر في نفس الرسولr حتى سُمّي ذاك العام بعام الحزن، فقد كانت السيدة خديجة وزير صدق في الإسلام يشكو إليها، وكان عمه أبو طالب عضداً وحرزاً ومنعة وناصراً له على قومه.
لما توفي أبو طالب، نال الرسول الكريم من أذى قريش ما لم يكن يناله في حياة عمه، فخرج الرسولr إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يجد عندهم قبولاً لما جاءَه من الله عز وجل، ولكنه لم يلق عندهم القَبول الحسن، فاستهزأ به بعضهم، وكذّبه بعضهم الآخر ورُدَّ رداً قبيحاً، فعاد إلى مكة مخذولاً يائساً، ولم يستطع دخول مكة حتى وافق على منحه الجوار المطعم بن عدي سيد بني نوفل، وهذا يعني أن أسرته بعد وفاة عمه لم تعد السند الذي يعوّل عليه، وهذا طبيعي لأن زعامة الأسرة انتقلت بعد أبي طالب إلى أخيه أبي لهب.
بعد عودة الرسولr من الطائف، وبعد أن أيقن أن لا أمل له بين قومه، التفت إلى العرب، العرب جميعاً يدعوهم إلى الله ويظهر لهم دينه، وقد التقى الرسول رهطاً من الخزرج في نطاق جهوده لدعوة القبائل المختلفة التي تزور مكة في أثناء موسم الحج، وحدَّثهم وكان عددهم ستة أشخاص، وبيَّن لهم أسس الدين الذي يدعو إليه، فاستجابوا له وقبلوا ما عرض عليهم من الإسلام، ووعدوه أن يحدثوا بأمره قومهم، فلما قدموا يثرب أخذوا يحدثون الناس بما سمعوا من الرسول الكريم ويدعونهم إلى الإسلام، وغدا ذكر الرسول يدور بين الناس هناك وأصبحت دعوته موضع الأحاديث ومجال النقاش. ويقدّر الباحثون أن هذا اللقاء الأول بين الرسول والجماعة اليثربية قد تم سنة 620م وعلى هذا تكون بيعة العقبة قد تمت سنة 621م، عندما عاد في موسم الحج إلى مكة خمسة من اليثربيين الستة ومعهم سبعة آخرون بينهم ثلاثة من الأوس والباقي من الخزرج، وتمّ بين هذا الوفد والرسول لقاء في موقع يُقال له العقبة، أسفرت عنه بيعة العقبة الأولى التي عرفت باسم بيعة النساء، لأنها لم تكن فيها بيعة على القتال، وإنما أخذاً للعهد والميثاق، وأرسل الرسول مع جماعة العقبة الأولى مصعب بن عمير[ر]، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم بالدين، ولما حلّ موسم حج سنة 622م، رجع مصعب بن عمير إلى مكة ومعه جماعة من يثرب عدد أفرادها 73 رجلاً وثلاث نسوة، واجتمعوا مع الرسول في الشعب عند العقبة، وكان الرسول قد جاء ومعه عمه العباس ليستوثق من أن ابن أخيه في منعة ومأمن، وأنه منتقل من حماية أسرته إلى حماية قوم قادرين على منعته، وبعد أن تكلم العباس وتكلم الرسول وتلا القرآن ودعا إلى الله؛ عرض شروطه على الرهط اليثربي التي يراها ضرورية، وتتلخص بأنه يرغب إلى اليثربيين أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءَهم وأبناءهم إذا قرر ترك مكة والانتقال إلى يثرب، وبعد إتمام الاتفاق وأخذ كل فريق ما يريد من ضمانات، طلب الرسولr من الوفد اليثربي أن يخرجوا من بينهم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم، فأخرجوا منهم النقباء المطلوبين وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
تعدّ بيعة العقبة الثانية بداية عهد جديد في حياة الجماعة الإسلامية في مكة، إذ أخذ الرسول يشجع أصحابه على الهجرة إلى يثرب، فتتابعوا حتى لم يبق في مكة من المسلمين غير الرسول وعلي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق، وأخيراً أذن الله لرسوله بالهجرة، فخرج هو وصاحبه أبو بكر بعد أن جعل علياً ينام في فراشه ليضلل قريشاً، واستطاع الرسول وصاحبه بعد جهد وملاحقة شديدة من قريش أن يصلا إلى يثرب أو المدينة المنورة[ر] لتبدأ بوصولهما فترة جديدة حافلة من تاريخ الأمة العربية.
الهجرة وتكوين الدولة:
كان للهجرة قيمة خاصة في تاريخ الإسلام، لأنها كانت حداً فاصلاً بين فترة كان الإسلام فيه دعوة دينية يحميها نفر قليل مستضعفون، وبين عهد أصبح فيه الإسلام دولة قوية مرهوبة الجانب، وفي المدينة أصبح الإسلام ديناً ودولة، فلم تعد مهمة الرسول تقتصر على تبليغ الوحي والدعوة إلى دين الله فحسب، بل غدا قائد أمة ورئيس دولة عليه أن ينظم حياة جماعة من أتباعه في علاقاتهم العامة والخاصة، وفي ميادين عديدة لم يكن الجانب الديني إلا واحداً منها، ولذلك أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي يجب أن تقوم عليها الدولة، وسيبرز في الوحي بعد ذلك ناحيتان: ناحية الجهاد لتثبيت الإسلام، وإنشاء الدولة الجديدة؛ وناحية التشريع لإدارة هذه الدولة.
وكان على الرسول أن يعمل في ظروف صعبة في دار هجرته؛ لأن المدينة حين هاجر الرسولr إليها كانت تضم جماعتين كبيرتين من الناس، المسلمين وغير المسلمين، أما المسلمون فكانوا فئتين: الأنصار أي المسلمين من الأوس والخزرج، والمهاجرون وهم المسلمون المكيون الذين هجروا مدينتهم وانتقلوا للسكن مع الرسول في المدينة المنورة، أما غير المسلمين فكانت غالبيتهم من اليهود، وبينهم بعض المشركين من الأوس والخزرج الذين لم يعتنقوا الإسلام.
وقد حفظ الرسول لليهود مكانتهم وترك لهم حرية الاعتقاد وعدّهم أمة مع المسلمين لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأنه في حال الهجوم على المدينة على اليهود أن يشتركوا في الدفاع عنها وأن ينفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين، كما أنه فتح المجال أمام الراغبين منهم في الدخول في الإسلام مع ضمان الحقوق والواجبات نفسها، ولكن اليهود لم يلبثوا أن خانوا ونقضوا العهود وكانت قبيلة بني قينقاع[ر] أول من نقض العهد، فأجلاها الرسول عن المدينة ثم أجلى قبيلة بني النضير[ر] بعد أن حاربها، وكانت قد حاولت قتل الرسول الكريم عندما خرج إليهم يستعينهم في أمر دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري من دون أن يعرف أن لهما من رسول الله الأمان، أما قبيلة بني قريظة[ر] فكان مصيرهم أقسى لأنهم نقضوا عهدهم مع الرسول، والمسلمون في حالة حرب في غزوة الخندق، فكان حكم سعد بن معاذ حليفهم القديم أن تُقتل المقاتلة وأن تُسبى النساء والذرية وأن تُقسّم أموالهم بين المسلمين.
أما قريش فإن الرسول الكريم أدرك أنه لن ينجح في نشر الإسلام في الجزيرة ما لم يُخضع مكة وقريش، وبما أن الله فرض على المسلمين الجهاد بعد الهجرة بنحو سنة بعد النهي عنه في نيف وسبعين آية، فإن تشريع الجهاد أعطى المسلمين صفة سياسية وأعطى مجتمعهم في المدينة صفة الدولة التي لا تستغني عن مجالدة أعدائها في سبيل نشر مبادئها، إذ إن الدعوة الإسلامية لابد لها من قوة تحميها ودرع يصونها، ولأن الحق والحرية لا يعيشان إلا في ظل القوة والنظام، وتنفيذ أحكام الشرائع والنظم الاجتماعية لا يتأتى من دون سلطة قادرة على تنفيذها. وقد اتصفت أعمال الرسول الحربية الأولى بأنها كانت منسجمة مع الأهداف التي من أجلها تنزل تشريع الجهاد، إذ إن من المعروف أن سراياه الأولى كانت سرايا استطلاعية، المقصود منها رصد قريش في تحركاتها المختلفة وبصورة خاصة في ميدان النشاط التجاري، لأن القرشيين كانوا قد اغتصبوا من المسلمين أموالهم وأخرجوهم من ديارهم، فحق للمسلمين أن يترصدوهم لاسترداد أموالهم وثأراً لكرامتهم.
كانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين بقيادة الرسول الكريمr والقرشيين بقيادة أبي جهل في معركة بدر[ر] سنة 2هـ التي انتصر فيها المسلمون، وقُتل فيها أبو جهل مع عدد من أبرز رجالاتها، وأشدهم شجاعة، وتجربة وبأساً، وأخذت المدينة تظهر في مجتمع الجزيرة قوة سياسية وعسكرية تستطيع أن تتحدى مكة، وقوي مركز الرسول في المدينة، وأخذ المتشككون في مقدرته يشعرون أن دعواهم تنهار بعدما قدمه النصر له في بدر من برهان على هذه المقدرة، ولكن الرسول أدرك بعد بدر أن الحرب هي الطابع الذي سيسم علاقاته مع قريش والمكيين الذين سيسعون جاهدين إلى رفع سيطرة الرسول عن الطريق التي تسلكها قوافلهم، كما أنهم لابد من أن يحاولوا استرداد مركزهم وهيبتهم، فكانت غزوة أحد[ر] سنة 3هـ التي هُزِم فيها المسلمون، ثم غزوة الخندق أو الأحزاب[ر] سنة 5هـ، ومع أن قريش وضعت في معركة الخندق ثقلها العسكري كله وحشدت لها أقصى ما تستطيع حشده من قوة بشرية، لكنها هزمت، ولم تعد مشكلة قريش القضاء على محمد وحسب، بل غدت مشكلتها الحفاظ على وجودها، كما أن استراتيجية الرسولr انقلبت بعد هزيمة الأحزاب من مرحلة الدفاع إلى مرحلة التحدي، ولعل في دعوة الرسولr أصحابه في ذي القعدة سنة 6هـ إلى التهيؤ للذهاب إلى مكة لأداء العمرة نوعاً من التحدي، وإذا كانت قريش قد صدّت المسلمين عن زيارة بيت الله وأعادتهم إلى المدينة من دون أداء العمرة بعد عقد صلح الحديبية[ر] فإن صلح الحديبية كان فتحاً مبيناً عندما أنزل الله على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة سورة الفتح، وتظهر شروط صلح الحديبية ولاسيما البند الذي يتعلق بوقف الحرب بين المسلمين وقريش مدة عشر سنوات؛ أن الرسول لا يكن نوايا عدوانية ضد قريش وأنه يفضل السلم إذا جنحت له قريش، أما البند المتعلق بتأجيل العمرة إلى العام التالي فقد كان له وجهان، وجه يظهر أن قريشاً استطاعت إنقاذ ماء وجهها، وردّت الرسول من دون أن يحقق هدف زيارته، ووجه يبرز تقديس المسلمين للكعبة ويظهر أمام القبائل احترامهم لمقدساتها وشعائرها، كما يؤكد اعتراف قريش بمحمدr وعدّها له نداً تفاوضه وتعقد معه المعاهدات، ولعلّ أهم المكاسب التي حققتها بنود هذا الصلح قبول قريش بأن يكون للقبائل العربية الراغبة في الانضمام إلى حلف محمدr الحق في فعل ذلك دونما خشية، كما أنه كان من نتيجة هذا الصلح الذي عقده الرسول مع قريش أنه غدا بإمكانه التفرغ لأمور الدعوة وبث الدين بين القبائل المختلفة، الأمر الذي كان يصعب عليه المضيّ فيه حين كان خطر الهجمات شغله الشاغل. ويعرض ابن سعد طائفة من الكتب التي بعث بها النبيr من المدينة إلى الشيوخ وغيرهم من أعضاء القبائل المختلفة، إضافة إلى الكتب التي أرسلها إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة يدعوهم إلى الإسلام، وهذا دليل على أن الرسول لم يطرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلغ لتعاليمه بعد أن سيطر على جيش يأتمر بأمره.
كما تذكر كتب السيرة ما لايقل عن سبع عشرة غزوة وسرية قام بها الرسول أو قادة مسلمون في الفترة التي انقضت بين عقد صلح الحديبية وفتح مكة سنة 8هـ، أهمها الحملات التي وجِّهت إلى الشمال والتي يبلغ عددها ثلاث وهي: سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وغزوة مؤتة[ر] وغزوة ذات السلاسل، وواضح أن هذه الغزوات كانت موجهة ضد مواقع وقبائل على الطريق التجارية السورية، هذا الطريق الذي كان يوليه الرسول اهتماماً كبيراً.
في سنة 8هـ فتح المسلمون مكة[ر] إثر نقض قريش بنود صلح الحديبية، وجاءَت قريش معلنة إسلامها بين يديه ومبايعته على السمع والطاعة لله ورسوله، وعامل الرسول القرشيين معاملة تنطوي على جانب كبير من التسامح والمحبة، وأجابهم حين سألوه عما تراه فاعلاً بهم بقولته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وأعلن للمجتمعين حوله، حرمة مكة وأصدر أوامره بتحطيم الأصنام الموجودة في الكعبة، وأبقى سقاية الحجاج في يد عمه العباس، وسدانة الكعبة في يد عثمان بن طلحة. وعلى الرغم من فتح مكة عاصمة الديانة الوثنية العربية وخضوع قريش حامية هذه الديانة، ظلت بعض القبائل على معارضتها للرسولr وأبت أن تظهر الخضوع له أو القبول بالدين الذي جاء به، فكانت غزوة حنين[ر] وحصار الطائف، فقد شعرت ثقيف وهوازن وغيرهم من القبائل بعد أن قضى الرسول على معارضة قريش وفتح مكة، أنهم غدوا معزولين يتهددهم خطر مماثل للخطر الذي حلّ بقريش، فقرروا أن يبادؤوا الرسول بالحرب ومهاجمته قبل أن يستكمل استعداداته، وتجمّع من هوازن وثقيف عدد كبير وساروا يريدون مكة تحت سيادة سيد هوازن مالك بن عوف، فانتصر الرسول في حنين، وكان لانتصاره نتائج مهمة في ميدان علاقات الإسلام بالقبائل البدوية الضاربة في مختلف أنحاء الجزيرة؛ إذ شهد العام التالي لغزوة حنين - أي سنة 9هـ - قدوم عدد كبير من وفود هذه القبائل إلى المدينة معلنة ولاءَها لرسول الله ومبايعتها له على السمع والطاعة.
سار الرسول بعد انتصاره بحنين بجموعه إلى الطائف متعقباً فلول ثقيف التي لجأت إليها، وكانت الطائف آنذاك مدينة حصينة محاطة بسور قوي يمنع هجمات الأعداء، وقد ألقى الرسول عليها الحصار الذي استمر مدة خمسة عشر يوماً على رأي أو أربعين على رأي آخر، ووجد الرسول بعدها أنه مضطر إلى رفع الحصار لحلول شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم. وقد بقيت ثقيف على عنادها بادئ الأمر ولم تعلن إسلامها كحليفتها هوازن، على أن هذا الموقف المعادي لم يدم طويلاً إذ اضطرت في النهاية إلى أن تعلن إسلامها وولاءَها للرسول الكريمr، وأقبل الثقفيون بعد إعلانهم إسلامهم على التثقف في الدين والتفقه في الإسلام، وغدوا بعد ذلك من أشد أنصار الإسلام حماساً وقدموا للدولة العربية المسلمة عدداً من أشهر قادتها ورجال السياسة فيها.
كانت آخر غزوات الرسولr غزوة تبوك[ر] سنة 9هـ، حيث أقام الرسول فيها عشرين ليلة على قول؛ أو بضع عشرة ليلة على قول آخر، وجاء إليه يُحَنَّه بن رؤبة صاحب أيلة، وأعطاه الجزية كما أتاه أهل جرباء وأذرح وأعلنوا ولاءَهم وطاعتهم ودفعوا الجزية، وأرسل بعد هذا خالد بن الوليد ليخضع بعض أمراء القرى المجاورة ففعل ذلك وأجبرهم على الصلح ودفع الجزية، وعاد الرسولr بعدها إلى المدينة.
وقد تعارف كتّاب السيرة على تسمية السنة التاسعة للهجرة بعام الوفود؛ لأن الوفود من رجالات القبائل بدأت تفد على الرسول فيها مبايعة على الإسلام والطاعة. ولكن على الرغم من كثرة الوفود التي زارت المدينة مبايعة الرسول الكريم، فإنه ظل في الجزيرة العربية فريق يحرص على دينه القديم ولا يريد أن يسلم قياده للدين الجديد أو لرسوله، فلما نزلت سورة التوبة في السنة التاسعة للهجرة التي أُعلن فيها براءَة الله ورسوله من المشركين، لم يبقَ عذر ولا حجة بعد البراءَة والإعلان لمن لا يقاتل المشركين، أما بالنسبة إلى أهل الكتاب فإن الآيات (28- 35) من سورة التوبة حددت علاقة المسلمين بأهل الكتاب سواء منهم من كان بالجزيرة أم خارجها، فهم يعدّون ذمةً للمسلمين عليهم دفع الجزية إذا لم يعتنقوا الإسلام.
وقبل أن يلحق الرسول الكريمr بالرفيق الأعلى يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11هـ الموافق الثامن من حزيران سنة 632م، كان قد بعث من سماهم من الصحابة لإدارة أمور المسلمين في المناطق المختلفة لتعليم الناس القرآن ومبادئ الإسلام وما يتصل بشؤون الدين من معاملات، وكان قد بلّغ الرسالة إلى الناس وإلى ملوك عصره، وحوّل العرب من مجموعة قبائل إلى أمة واحدة جمعت بين قبائلها وأفكارها هذه الرابطة الجديدة، رابطة الدين التي مهّدت لقيام وحدة سياسية تجمع شمل العرب ووحدتهم هدفاً وعملاً، وساعدت على دخولهم التاريخ من أوسع أبوابه. وقدم الرسول القرآن الكريم هدىً للبشر كافة ورسالة الإسلام طريقاً أكمل للحياة الإنسانية. ومن بضعة مؤمنين بالإسلام عند نزول الرسالة ارتفع عدد المسلمين في كل أمصار العالم وأقطاره إلى ما يقرب المليار ونصف المليار من شتى الملل والنحِل والقارات وعددهم يزداد باطراد.
نجدة خماش
Mohammad Rasol Allah - Mohammad Rassol Allah
محمد رسول الله r
محمد بن عبد الله، الرسول الأعظم، خاتم النبيين، لم يعرف التاريخ رجلاً كان ولا يزال يحرِّك التاريخ مثله، ولا استمر تأثير أحد تأثيراً متزايد السعة في المكان، بعيد الأثر في الزمان، متنوع الشعوب في الأرض كتأثيره، وليس ثمة فرد أضحت أعماله وأقواله وحركاته وسكناته سُنّة مباركة لمئات الملايين من البشر سواه، وهو بين الأنبياء كافة النبي الوحيد الذي يُعرف عن يقين وجوده البشري، وتفاصيل سيرته وأهله ومغازيه وجمهور أصحابه.
ومحمد بن عبد الله (رجل) لا يشركه رجل آخر في صفاته ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة وفي الجزيرة وفي العالم بأسره.
فمحمدr نبيلٌ عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وقصي كان أول بانٍ لمجد قريش، وموطِّد لنفوذها، فهو الذي استخلص أمر مكة وشؤون البيت من خزاعة، وأسكن القرشيين حول الحرم، وجمع قبائلهم، وملكّه قومه عليهم، فكان أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، وقصي هو الذي ابتنى داراً جعل بابها إلى الكعبة، وجعل فيها مجلس شورى لقريش، ودار حكومة سمّاها دار الندوة، ونظّم أمور مكة الخارجية والداخلية، ولاسيما فيما يتعلق بخدمة البيت الحرام من وظائف السقاية والرفادة والحجابة، إضافة إلى أمور اللواء ورئاسة دار الندوة. وكان جد محمد بن عبد الله، عبد المطلب بن هاشم، سيد مكة، عندما امتدت أطماع أبرهة الأشرم حاكم اليمن الحبشي، لانتزاع السيادة التجارية من قبيلة قريش، وتوجيه أنظار العرب إلى «القليس» الكنيسة التي بناها في اليمن، فقاد حملة وسار إلى مكة سنة 570م، وشاءَت الأقدار أن تكّرم عبد المطلب في يوم ميلاد حفيده محمد بن عبد الله، بتراجع الجيش الحبشي وهلاك معظم أفراده.
فَقَدَ الرسول الكريم والده عبد الله قبل أن ترى عيناه النور فكفله جده عبد المطلب، وكان من عادة الطبقة العليا في المجتمع المكي أن ترسل أولادها مسترضعة في البادية، ليعيشوا في جوها النقي وليكتسبوا فصاحة أهلها وسلامة نطقهم، وقد أرضع الرسولr بعد ولادته مباشرة «ثويبة» مولاة أبي لهب وذلك لبضعة أيام قبل قدوم حليمة السعدية من قبيلة سعد هذيم، وتتحدث المصادر عن الخير الذي فاض على حليمة وقومها بعد قدوم الطفل محمد إلى ربوعهم، وظل محمد في كفالة حليمة مدة عامين حتى فُطم، فعادت به إلى أمه آمنة بنت وهب[ر] التي طلبت إليها الرجوع إلى أرض بني سعد بن بكر وإبقاءه في كفالتها لأنها تخاف عليه وباء مكة، وظل بينهم حتى بلغ الخامسة من عمره حين أعادته حليمة وسلّمته إلى جده، ويذكر محمد هذه الفترة من حياته، وينوّه بما كان لها من فضل في تقويم لسانه وإيضاح بيانه، فيقول: «أنا أعربكم، أنا من قريش ولساني لسان بني سعد بن بكر».
وتتالى الأحداث على محمد الطفل، فقد توفيت والدته وهو ابن ست أو ثماني سنين وفي الثامنة من عمره توفي جده عبد المطلب ، فانتقل محمد إلى كفالة عمه أبي طالب سيد بني هاشم، الذي لم يكن على جانب كبير من الغنى، ولكنه كان يخصه بعناية وحب كبيرين استمرا طوال حياته قبل بعثته وبعدها، ولما بلغ التاسعة من عمره على قول أو الثانية عشرة على قول آخر رافق عمه أبا طالب في رحلة إلى الشام، إذ تذكر المصادر أنه قابل في بصرى الراهب بحيرى.
وهكذا نشأ محمد يتيماً ولكن بين رحماء، فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح وفضيلة العطف على الآخرين، كما أنه نشأ فقيراً فلم يكن بالغنيّ المترف فيُطغيه بأس النبلاء والأغنياء ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
خبر كل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، ففي سن الخامسة عشرة، شارك الرسول الكريمr في حرب الفجار التي قادتها قريش وحليفتها كنانة ضد هوازن، ويذكر الرسول هذه الحرب فيقول: «كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها»، واتسعت خبرة الرسول إثر هذه الحادثة، وتعرّف لوناً آخر من ألوان النظم القبلية وهي الأحلاف، إذ أعقب حرب الفجار سعي بعض رجال قريش إلى عقد حلف لنصرة المظلوم ورد الحقوق الضائعة إلى أهلها، وتم انعقاد هذا الحلف في دار عبد الله بن جدعان، وعرف باسم «حلف الفضول» الذي قال فيه الرسول الكريمr: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت».
وعندما بلغ الرسول الخامسة والعشرين من عمره تزوج من خديجة بنت خويلد بن أسد[ر]، وكانت من أشرف نساء قومها وأعلاهن نسباً وأكثرهن مالاً، وتشير المصادر إلى أن زواجها منه قد تم بعدما تأكد لها ما سمعته عنه من شرف ونزاهة وأمانة إبان خروجه بتجارة لها إلى الشام، وكان زواج الرسولr من السيدة خديجة منعطفاً مهماً في حياته؛ لأن هذا الزواج أمّن للرسول موضعاً مناسباً في المجتمع المكي، وساعدته ثروتها على العيش بيسر لا يخالطه خوف من الغد أو سعي حثيث في سبيل لقمة العيش. وكانت السيدة خديجة أول امرأة يتزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت، أما هي فكانت قد تزوجت قبله مرتين، وكان أحد أزواجها من بني مخزوم.
كانت قريش تنظر إلى محمدr نظرة فيها كل التقدير والاحترام لما عُرف عنه من ترفع عن الخطايا وإقبال على طيب الفعال والسجايا حتى أطلق الناس عليه لقب الأمين، وقبلوا النزول على حكمه في حسم المشكلات العامة، وشهد وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، تجديد قريش للكعبة، واختلاف سادة هذه القبيلة فيما بينها حول من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة، فاستطاع بحكمته الفطرية أن يحلّ هذا التنافس القبلي؛ بأن بسط رداءه؛ ووضع فيه الحجر الأسود، ثم طلب من مشايخ الملأ وهم أرستقراطية قريش حمله إلى الكعبة؛ بأن يأخذ كل منهم بطرف من الرداء دلالة على وقوفهم جميعاً على قدم المساواة في نقل هذا الحجر الشريف، ثم تولى الرسول الكريم وضع الحجر الأسود في مكانه بالكعبة.
وهكذا حصل الرسولr في مسقط رأسه مكة وقبل بعثته بخمس سنوات على صورة متكاملة لما آلت إليه الحياة القبلية، ولاسيما أن مكة قد أضحت مجتمعاً متناقضاً نتيجة لمركزها الديني والتجاري، فكان الفرد من قريش يحتفظ بالعصبية القبلية من حيث الغزو والفخر بالأحساب والأنساب، ويعتز بالوقت نفسه بالتمايز الطبقي الذي صاحب حياة الاستقرار في هذا المركز الديني والتجاري، فدأب القرشي من الملأ في الافتخار بعشيرته من جهة وثروته من جهة ثانية، وأقبل على الأخذ بأسباب الترف من الملبس والمسكن واقتناء الجواري.
اندلعت الثورة على هذه الحياة القبلية ونظمها ومؤسساتها حين نزل الوحي بالقرآن الكريم على الرسول الأمينr وهو في الأربعين من عمره في أثناء تعبّده بغار حراء، نزل القرآن ثورة دينية اجتماعية داعياً إلى إقرار نظم جديدة في سبيل بناء مجتمع متحرر من النظرة القبلية الضيقة وقائم على أساس العدالة العالمية.
من المتفق والمتعارف عليه أن السيدة خديجة بنت خويلد كانت أول من آمن وأسلم برسالة محمدr بعد أن تنزّل عليه وحي الله؛ فهي لذلك أول المسلمين عامة وأول من أسلم من النساء، ولا ينازعها في هذه الصفة منازع، على أن الذي هو موضع النزاع بين الرواة هو أول المسلمين من الذكور، ففي تاريخ الطبري عدد كبير من الروايات حول هذا الموضوع تتأرجح فيه الأخبار بين ثلاثة أسماء؛ أبي بكر الصديق، علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، ويذكر الطبري أنه بعد إسلام هؤلاء النفر الثلاثة أسلم عدد من الناس من بينهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، ثم فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث عنه الناس، فلما مضى على مبعثه ثلاث سنين، أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يصدع بما جاء به وأن يدعو الناس بدعوة الإسلام[ر]، وكان قبل ذلك يدعو إلى الله بالسر وقد جاء الأمر بعلانية الدعوة في الآية الكريمة )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ( (الحجر94) وفي قوله تعالى )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ( (الشعراء 214) فما كان من رسول اللهr إلا أن نقل دعوته من مرحلة السر إلى مرحلة العلن، وخرج حتى صعد الصفا ونادى بالناس، فاجتمع حوله أهل مكة ورجالاتها من مختلف الأحياء والبطون، ولما اكتمل جمعهم قال لهم الرسول الكريم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟»، فقالوا: «ما جربنا عليك كذباً»، فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، وكان بين الحضور عمه أبو لهب (عبد العزى) فقال له: تباً لك ألهذا جمعتنا، فنزلت الآية الكريمة )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ( (المسد 1).
بدأت معارضة قريش للرسول وإعلانها العداء له عندما بدأ الرسولr يدعو إلى عبادة الله علانية، ولاسيما عندما عاب آلهتها وذكرها بسوء، وكان الذي أثارهم شعورهم بالخطر الذي تمثله دعوة الرسول، والمخاطر التي قد تنجم عن الثورة الدينية التي تؤكد عبادة إله واحد، وتنفي عبادة الأصنام السائدة في مكة، وقد يكون من نتائجها فقدان قريش الزعامة التي يتفيؤون بظلالها، والتي تنبع إلى حد كبير من زعامتهم الوثنية ووجود الكعبة رمز وحدة العرب ومحط أنظارهم بين ظهرانيهم، فهم سدنة الكعبة وهم المشرفون على شؤونها وحمايتها، وهي التي أعطتهم بمناسك حجها وبالآلهة الموجودة في داخلها ما يتمتعون به من مكانة وسيادة، كما أن الفضل في مكانتهم التجارية يعود إلى هذه القدسية الدينية لمدينتهم وإلى سيادتهم القبلية، ولذلك فإن عيب الآلهة وذم الدين ومقدسات هذا الدين كان يمثل بالنسبة إلى قريش خطراً لا على سيادتها فحسب بل على تجارتها ومن ثمّ غناها.
وإلى جانب أن الإسلام يهدد معتقداً ألفوه وعايشوه ردحاً طويلاً من الزمن؛ فإنه يهدد تكوين ونظم مجتمع له عادات وتقاليد ألفها الناس واعتادوها وليس من السهل أن يتخلوا عنها، ولاسيما أن الإسلام نسخ عصبية الدم وأقام عصبية الإيمان، هذه العصبية التي قد تبعد الأخ عن أخيه وتضع الغريب محل القريب ما دام الذي يجمع هو الدين لا الدم، ويؤكد هذه الحقيقة ما يذكره ابن إسحاق من أن المشركين كلموا الرسول وقالوا له: «إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسَفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم».
على الرغم من معارضة قريش للرسول وإجماعهم على إعلان عداوتهم إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون؛ فإن رسول اللهr مضى مظهراً لأمر الله لا يرده عنه شيء، وقد ساعده على ذلك حدب عمه أبي طالب عليه، ومنعه إياه، وقيامه دونه، فلما رأت قريش أن الرسول الكريم لا يعتبهم (أي لا يرضيهم) من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم. مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: «يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا، فإما أن تكفّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه» فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، وبعث أبو طالب إلى الرسولr، وكلمه بما جاء به إليه قومه، وقال له: «فأبقِ علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق»، وظن الرسول أن عمه قد ضعف عن نصرته وأنه مسلمه إلى قومه، فقال قولته الشهيرة: «يا عمُ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته»، فلما ولّى ناداه أبو طالب وقال له: «اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً».
نال الرسول الكريم، وصحبه من الأذى والسخرية والعذاب على يد القرشيين ما يفوق كل وصف، وتحفل كتب التاريخ والسيرة بأمثلة عديدة على هذا العذاب والأذى، وكان أشد المتعرضين للعذاب هم المستضعفون والموالي ومن لا سند قَبَلَي لهم، على أن الرسولr لم يعدم حماية ونصراً من عشيرته، ويُذكر في إسلام حمزة بن عبد المطلب عم الرسول حديثٌ يوضح مقدار الأهمية التي كانت تعلقها التقاليد المكية على النظام القبلي، فقد لقي الرسول الكريم وهو جالس عند الصفا ذات مرة إهانة شديدة وشتماً مقذعاً من أبي جهل، وسمعت هذه الإهانة مولاة لعبد الله بن جدعان كان منزلها قريباً من الصفا، وصادف بعد قليل أن مرّ حمزة قرب منزل المولاة، وهو عائد من صيد ومعه قوسه وسلاحه، فحدثته المولاة بحديث ابن أخيه وما وقع له على يد أبي جهل فاستشاط حمزة غضباً وأسرع إلى حيث كان أبو جهل ومعه رجالات قريش، وضربه بالقوس ضربة شج بها رأسه، وأعلن للجميع أنه مسلم منذ الساعة، وأنه لن يسكت على إهانة توجه إلى ابن أخيه أو إلى غيره من المسلمين.
ويذكر ابن إسحاق أنه لما رأى رسول اللهr ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً رحيماً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك عدد من المسلمين من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام، وكانت الهجرة في شهر رجب من السنة الخامسة لمبعث الرسول أي نحو سنة 615م، وقد ظل بعض المهاجرين من المسلمين في الحبشة حتى أرسل الرسول إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، وطلب منه أن يرد على الرسول مَن قبله من المسلمين، وعاد المسلمون في السنة السابعة للهجرة والرسول بخيبر، وكان عدد الذين عادوا في هذه الوقعة ستة عشر رجلاً.
لم تؤد هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة إلى حل الأزمة بين الرسول والمشركين من قومه، بل إن قريشاً عندما رأت أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً واستقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر بن الخطابr قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلبr مع رسول الله، وأن الإسلام بدأ ينتشر؛ اجتمعوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم (على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم)، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، استمرت هذه المقاطعة ثلاث سنين عانى فيها آل هاشم ومن انضم إليهم من بني عبد المطلب ما لا يطاق من وحدة وجوع وحرمان، حتى قرر بعض أفراد من قريش نقض الصحيفة، وقام المطعم بن عدي فشقّ الصحيفة وأعلن بذلك رسمياً إنهاء المقاطعة، وكان خروج آل هاشم والمطلب من الشعب على ما يذكر ابن سعد في السنة العاشرة من البعثة.
كان من أسوأ النتائج التي نجمت عن المقاطعة وفاة أبي طالب والسيدة خديجة بنت خويلد، وكان لفقدهما أكبر الأثر في نفس الرسولr حتى سُمّي ذاك العام بعام الحزن، فقد كانت السيدة خديجة وزير صدق في الإسلام يشكو إليها، وكان عمه أبو طالب عضداً وحرزاً ومنعة وناصراً له على قومه.
لما توفي أبو طالب، نال الرسول الكريم من أذى قريش ما لم يكن يناله في حياة عمه، فخرج الرسولr إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يجد عندهم قبولاً لما جاءَه من الله عز وجل، ولكنه لم يلق عندهم القَبول الحسن، فاستهزأ به بعضهم، وكذّبه بعضهم الآخر ورُدَّ رداً قبيحاً، فعاد إلى مكة مخذولاً يائساً، ولم يستطع دخول مكة حتى وافق على منحه الجوار المطعم بن عدي سيد بني نوفل، وهذا يعني أن أسرته بعد وفاة عمه لم تعد السند الذي يعوّل عليه، وهذا طبيعي لأن زعامة الأسرة انتقلت بعد أبي طالب إلى أخيه أبي لهب.
بعد عودة الرسولr من الطائف، وبعد أن أيقن أن لا أمل له بين قومه، التفت إلى العرب، العرب جميعاً يدعوهم إلى الله ويظهر لهم دينه، وقد التقى الرسول رهطاً من الخزرج في نطاق جهوده لدعوة القبائل المختلفة التي تزور مكة في أثناء موسم الحج، وحدَّثهم وكان عددهم ستة أشخاص، وبيَّن لهم أسس الدين الذي يدعو إليه، فاستجابوا له وقبلوا ما عرض عليهم من الإسلام، ووعدوه أن يحدثوا بأمره قومهم، فلما قدموا يثرب أخذوا يحدثون الناس بما سمعوا من الرسول الكريم ويدعونهم إلى الإسلام، وغدا ذكر الرسول يدور بين الناس هناك وأصبحت دعوته موضع الأحاديث ومجال النقاش. ويقدّر الباحثون أن هذا اللقاء الأول بين الرسول والجماعة اليثربية قد تم سنة 620م وعلى هذا تكون بيعة العقبة قد تمت سنة 621م، عندما عاد في موسم الحج إلى مكة خمسة من اليثربيين الستة ومعهم سبعة آخرون بينهم ثلاثة من الأوس والباقي من الخزرج، وتمّ بين هذا الوفد والرسول لقاء في موقع يُقال له العقبة، أسفرت عنه بيعة العقبة الأولى التي عرفت باسم بيعة النساء، لأنها لم تكن فيها بيعة على القتال، وإنما أخذاً للعهد والميثاق، وأرسل الرسول مع جماعة العقبة الأولى مصعب بن عمير[ر]، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم بالدين، ولما حلّ موسم حج سنة 622م، رجع مصعب بن عمير إلى مكة ومعه جماعة من يثرب عدد أفرادها 73 رجلاً وثلاث نسوة، واجتمعوا مع الرسول في الشعب عند العقبة، وكان الرسول قد جاء ومعه عمه العباس ليستوثق من أن ابن أخيه في منعة ومأمن، وأنه منتقل من حماية أسرته إلى حماية قوم قادرين على منعته، وبعد أن تكلم العباس وتكلم الرسول وتلا القرآن ودعا إلى الله؛ عرض شروطه على الرهط اليثربي التي يراها ضرورية، وتتلخص بأنه يرغب إلى اليثربيين أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءَهم وأبناءهم إذا قرر ترك مكة والانتقال إلى يثرب، وبعد إتمام الاتفاق وأخذ كل فريق ما يريد من ضمانات، طلب الرسولr من الوفد اليثربي أن يخرجوا من بينهم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم، فأخرجوا منهم النقباء المطلوبين وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
تعدّ بيعة العقبة الثانية بداية عهد جديد في حياة الجماعة الإسلامية في مكة، إذ أخذ الرسول يشجع أصحابه على الهجرة إلى يثرب، فتتابعوا حتى لم يبق في مكة من المسلمين غير الرسول وعلي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق، وأخيراً أذن الله لرسوله بالهجرة، فخرج هو وصاحبه أبو بكر بعد أن جعل علياً ينام في فراشه ليضلل قريشاً، واستطاع الرسول وصاحبه بعد جهد وملاحقة شديدة من قريش أن يصلا إلى يثرب أو المدينة المنورة[ر] لتبدأ بوصولهما فترة جديدة حافلة من تاريخ الأمة العربية.
الهجرة وتكوين الدولة:
كان للهجرة قيمة خاصة في تاريخ الإسلام، لأنها كانت حداً فاصلاً بين فترة كان الإسلام فيه دعوة دينية يحميها نفر قليل مستضعفون، وبين عهد أصبح فيه الإسلام دولة قوية مرهوبة الجانب، وفي المدينة أصبح الإسلام ديناً ودولة، فلم تعد مهمة الرسول تقتصر على تبليغ الوحي والدعوة إلى دين الله فحسب، بل غدا قائد أمة ورئيس دولة عليه أن ينظم حياة جماعة من أتباعه في علاقاتهم العامة والخاصة، وفي ميادين عديدة لم يكن الجانب الديني إلا واحداً منها، ولذلك أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي يجب أن تقوم عليها الدولة، وسيبرز في الوحي بعد ذلك ناحيتان: ناحية الجهاد لتثبيت الإسلام، وإنشاء الدولة الجديدة؛ وناحية التشريع لإدارة هذه الدولة.
وكان على الرسول أن يعمل في ظروف صعبة في دار هجرته؛ لأن المدينة حين هاجر الرسولr إليها كانت تضم جماعتين كبيرتين من الناس، المسلمين وغير المسلمين، أما المسلمون فكانوا فئتين: الأنصار أي المسلمين من الأوس والخزرج، والمهاجرون وهم المسلمون المكيون الذين هجروا مدينتهم وانتقلوا للسكن مع الرسول في المدينة المنورة، أما غير المسلمين فكانت غالبيتهم من اليهود، وبينهم بعض المشركين من الأوس والخزرج الذين لم يعتنقوا الإسلام.
وقد حفظ الرسول لليهود مكانتهم وترك لهم حرية الاعتقاد وعدّهم أمة مع المسلمين لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأنه في حال الهجوم على المدينة على اليهود أن يشتركوا في الدفاع عنها وأن ينفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين، كما أنه فتح المجال أمام الراغبين منهم في الدخول في الإسلام مع ضمان الحقوق والواجبات نفسها، ولكن اليهود لم يلبثوا أن خانوا ونقضوا العهود وكانت قبيلة بني قينقاع[ر] أول من نقض العهد، فأجلاها الرسول عن المدينة ثم أجلى قبيلة بني النضير[ر] بعد أن حاربها، وكانت قد حاولت قتل الرسول الكريم عندما خرج إليهم يستعينهم في أمر دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري من دون أن يعرف أن لهما من رسول الله الأمان، أما قبيلة بني قريظة[ر] فكان مصيرهم أقسى لأنهم نقضوا عهدهم مع الرسول، والمسلمون في حالة حرب في غزوة الخندق، فكان حكم سعد بن معاذ حليفهم القديم أن تُقتل المقاتلة وأن تُسبى النساء والذرية وأن تُقسّم أموالهم بين المسلمين.
أما قريش فإن الرسول الكريم أدرك أنه لن ينجح في نشر الإسلام في الجزيرة ما لم يُخضع مكة وقريش، وبما أن الله فرض على المسلمين الجهاد بعد الهجرة بنحو سنة بعد النهي عنه في نيف وسبعين آية، فإن تشريع الجهاد أعطى المسلمين صفة سياسية وأعطى مجتمعهم في المدينة صفة الدولة التي لا تستغني عن مجالدة أعدائها في سبيل نشر مبادئها، إذ إن الدعوة الإسلامية لابد لها من قوة تحميها ودرع يصونها، ولأن الحق والحرية لا يعيشان إلا في ظل القوة والنظام، وتنفيذ أحكام الشرائع والنظم الاجتماعية لا يتأتى من دون سلطة قادرة على تنفيذها. وقد اتصفت أعمال الرسول الحربية الأولى بأنها كانت منسجمة مع الأهداف التي من أجلها تنزل تشريع الجهاد، إذ إن من المعروف أن سراياه الأولى كانت سرايا استطلاعية، المقصود منها رصد قريش في تحركاتها المختلفة وبصورة خاصة في ميدان النشاط التجاري، لأن القرشيين كانوا قد اغتصبوا من المسلمين أموالهم وأخرجوهم من ديارهم، فحق للمسلمين أن يترصدوهم لاسترداد أموالهم وثأراً لكرامتهم.
كانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين بقيادة الرسول الكريمr والقرشيين بقيادة أبي جهل في معركة بدر[ر] سنة 2هـ التي انتصر فيها المسلمون، وقُتل فيها أبو جهل مع عدد من أبرز رجالاتها، وأشدهم شجاعة، وتجربة وبأساً، وأخذت المدينة تظهر في مجتمع الجزيرة قوة سياسية وعسكرية تستطيع أن تتحدى مكة، وقوي مركز الرسول في المدينة، وأخذ المتشككون في مقدرته يشعرون أن دعواهم تنهار بعدما قدمه النصر له في بدر من برهان على هذه المقدرة، ولكن الرسول أدرك بعد بدر أن الحرب هي الطابع الذي سيسم علاقاته مع قريش والمكيين الذين سيسعون جاهدين إلى رفع سيطرة الرسول عن الطريق التي تسلكها قوافلهم، كما أنهم لابد من أن يحاولوا استرداد مركزهم وهيبتهم، فكانت غزوة أحد[ر] سنة 3هـ التي هُزِم فيها المسلمون، ثم غزوة الخندق أو الأحزاب[ر] سنة 5هـ، ومع أن قريش وضعت في معركة الخندق ثقلها العسكري كله وحشدت لها أقصى ما تستطيع حشده من قوة بشرية، لكنها هزمت، ولم تعد مشكلة قريش القضاء على محمد وحسب، بل غدت مشكلتها الحفاظ على وجودها، كما أن استراتيجية الرسولr انقلبت بعد هزيمة الأحزاب من مرحلة الدفاع إلى مرحلة التحدي، ولعل في دعوة الرسولr أصحابه في ذي القعدة سنة 6هـ إلى التهيؤ للذهاب إلى مكة لأداء العمرة نوعاً من التحدي، وإذا كانت قريش قد صدّت المسلمين عن زيارة بيت الله وأعادتهم إلى المدينة من دون أداء العمرة بعد عقد صلح الحديبية[ر] فإن صلح الحديبية كان فتحاً مبيناً عندما أنزل الله على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة سورة الفتح، وتظهر شروط صلح الحديبية ولاسيما البند الذي يتعلق بوقف الحرب بين المسلمين وقريش مدة عشر سنوات؛ أن الرسول لا يكن نوايا عدوانية ضد قريش وأنه يفضل السلم إذا جنحت له قريش، أما البند المتعلق بتأجيل العمرة إلى العام التالي فقد كان له وجهان، وجه يظهر أن قريشاً استطاعت إنقاذ ماء وجهها، وردّت الرسول من دون أن يحقق هدف زيارته، ووجه يبرز تقديس المسلمين للكعبة ويظهر أمام القبائل احترامهم لمقدساتها وشعائرها، كما يؤكد اعتراف قريش بمحمدr وعدّها له نداً تفاوضه وتعقد معه المعاهدات، ولعلّ أهم المكاسب التي حققتها بنود هذا الصلح قبول قريش بأن يكون للقبائل العربية الراغبة في الانضمام إلى حلف محمدr الحق في فعل ذلك دونما خشية، كما أنه كان من نتيجة هذا الصلح الذي عقده الرسول مع قريش أنه غدا بإمكانه التفرغ لأمور الدعوة وبث الدين بين القبائل المختلفة، الأمر الذي كان يصعب عليه المضيّ فيه حين كان خطر الهجمات شغله الشاغل. ويعرض ابن سعد طائفة من الكتب التي بعث بها النبيr من المدينة إلى الشيوخ وغيرهم من أعضاء القبائل المختلفة، إضافة إلى الكتب التي أرسلها إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة يدعوهم إلى الإسلام، وهذا دليل على أن الرسول لم يطرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلغ لتعاليمه بعد أن سيطر على جيش يأتمر بأمره.
كما تذكر كتب السيرة ما لايقل عن سبع عشرة غزوة وسرية قام بها الرسول أو قادة مسلمون في الفترة التي انقضت بين عقد صلح الحديبية وفتح مكة سنة 8هـ، أهمها الحملات التي وجِّهت إلى الشمال والتي يبلغ عددها ثلاث وهي: سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وغزوة مؤتة[ر] وغزوة ذات السلاسل، وواضح أن هذه الغزوات كانت موجهة ضد مواقع وقبائل على الطريق التجارية السورية، هذا الطريق الذي كان يوليه الرسول اهتماماً كبيراً.
في سنة 8هـ فتح المسلمون مكة[ر] إثر نقض قريش بنود صلح الحديبية، وجاءَت قريش معلنة إسلامها بين يديه ومبايعته على السمع والطاعة لله ورسوله، وعامل الرسول القرشيين معاملة تنطوي على جانب كبير من التسامح والمحبة، وأجابهم حين سألوه عما تراه فاعلاً بهم بقولته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وأعلن للمجتمعين حوله، حرمة مكة وأصدر أوامره بتحطيم الأصنام الموجودة في الكعبة، وأبقى سقاية الحجاج في يد عمه العباس، وسدانة الكعبة في يد عثمان بن طلحة. وعلى الرغم من فتح مكة عاصمة الديانة الوثنية العربية وخضوع قريش حامية هذه الديانة، ظلت بعض القبائل على معارضتها للرسولr وأبت أن تظهر الخضوع له أو القبول بالدين الذي جاء به، فكانت غزوة حنين[ر] وحصار الطائف، فقد شعرت ثقيف وهوازن وغيرهم من القبائل بعد أن قضى الرسول على معارضة قريش وفتح مكة، أنهم غدوا معزولين يتهددهم خطر مماثل للخطر الذي حلّ بقريش، فقرروا أن يبادؤوا الرسول بالحرب ومهاجمته قبل أن يستكمل استعداداته، وتجمّع من هوازن وثقيف عدد كبير وساروا يريدون مكة تحت سيادة سيد هوازن مالك بن عوف، فانتصر الرسول في حنين، وكان لانتصاره نتائج مهمة في ميدان علاقات الإسلام بالقبائل البدوية الضاربة في مختلف أنحاء الجزيرة؛ إذ شهد العام التالي لغزوة حنين - أي سنة 9هـ - قدوم عدد كبير من وفود هذه القبائل إلى المدينة معلنة ولاءَها لرسول الله ومبايعتها له على السمع والطاعة.
سار الرسول بعد انتصاره بحنين بجموعه إلى الطائف متعقباً فلول ثقيف التي لجأت إليها، وكانت الطائف آنذاك مدينة حصينة محاطة بسور قوي يمنع هجمات الأعداء، وقد ألقى الرسول عليها الحصار الذي استمر مدة خمسة عشر يوماً على رأي أو أربعين على رأي آخر، ووجد الرسول بعدها أنه مضطر إلى رفع الحصار لحلول شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم. وقد بقيت ثقيف على عنادها بادئ الأمر ولم تعلن إسلامها كحليفتها هوازن، على أن هذا الموقف المعادي لم يدم طويلاً إذ اضطرت في النهاية إلى أن تعلن إسلامها وولاءَها للرسول الكريمr، وأقبل الثقفيون بعد إعلانهم إسلامهم على التثقف في الدين والتفقه في الإسلام، وغدوا بعد ذلك من أشد أنصار الإسلام حماساً وقدموا للدولة العربية المسلمة عدداً من أشهر قادتها ورجال السياسة فيها.
كانت آخر غزوات الرسولr غزوة تبوك[ر] سنة 9هـ، حيث أقام الرسول فيها عشرين ليلة على قول؛ أو بضع عشرة ليلة على قول آخر، وجاء إليه يُحَنَّه بن رؤبة صاحب أيلة، وأعطاه الجزية كما أتاه أهل جرباء وأذرح وأعلنوا ولاءَهم وطاعتهم ودفعوا الجزية، وأرسل بعد هذا خالد بن الوليد ليخضع بعض أمراء القرى المجاورة ففعل ذلك وأجبرهم على الصلح ودفع الجزية، وعاد الرسولr بعدها إلى المدينة.
وقد تعارف كتّاب السيرة على تسمية السنة التاسعة للهجرة بعام الوفود؛ لأن الوفود من رجالات القبائل بدأت تفد على الرسول فيها مبايعة على الإسلام والطاعة. ولكن على الرغم من كثرة الوفود التي زارت المدينة مبايعة الرسول الكريم، فإنه ظل في الجزيرة العربية فريق يحرص على دينه القديم ولا يريد أن يسلم قياده للدين الجديد أو لرسوله، فلما نزلت سورة التوبة في السنة التاسعة للهجرة التي أُعلن فيها براءَة الله ورسوله من المشركين، لم يبقَ عذر ولا حجة بعد البراءَة والإعلان لمن لا يقاتل المشركين، أما بالنسبة إلى أهل الكتاب فإن الآيات (28- 35) من سورة التوبة حددت علاقة المسلمين بأهل الكتاب سواء منهم من كان بالجزيرة أم خارجها، فهم يعدّون ذمةً للمسلمين عليهم دفع الجزية إذا لم يعتنقوا الإسلام.
وقبل أن يلحق الرسول الكريمr بالرفيق الأعلى يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11هـ الموافق الثامن من حزيران سنة 632م، كان قد بعث من سماهم من الصحابة لإدارة أمور المسلمين في المناطق المختلفة لتعليم الناس القرآن ومبادئ الإسلام وما يتصل بشؤون الدين من معاملات، وكان قد بلّغ الرسالة إلى الناس وإلى ملوك عصره، وحوّل العرب من مجموعة قبائل إلى أمة واحدة جمعت بين قبائلها وأفكارها هذه الرابطة الجديدة، رابطة الدين التي مهّدت لقيام وحدة سياسية تجمع شمل العرب ووحدتهم هدفاً وعملاً، وساعدت على دخولهم التاريخ من أوسع أبوابه. وقدم الرسول القرآن الكريم هدىً للبشر كافة ورسالة الإسلام طريقاً أكمل للحياة الإنسانية. ومن بضعة مؤمنين بالإسلام عند نزول الرسالة ارتفع عدد المسلمين في كل أمصار العالم وأقطاره إلى ما يقرب المليار ونصف المليار من شتى الملل والنحِل والقارات وعددهم يزداد باطراد.
نجدة خماش