عبداللطيف اللعبي "مجنون الأمل" لم يفصل بين الشعر والسياسة
الشاعر تخطى المتداول والمسموح به والجاهز والمقنع ليتشبث بمستقبل الإنسان واللغة معا ليكون إنسانيا في لحظة يأس.
عندما نُحب لا نفكر
“عندما تُسْتَخلصُ العِبْرةُ/ يجب تَجَرُّعُ الكأس حتى الثمالة”، أليس ذلك ما فعله عبداللطيف اللعبي شاعرا وناشطا سياسيا؟
كان عليه دائما أن يأخذ الشعر معه إلى المحيط كما إلى السجن. وهو المسافر بين السعة والضيق، المأهول بالمسرة والعذاب، المراهن على الصمت باعتباره نوعا من الكلام. إنّ كثيرا من القبلات يمكن أن يضيع من غير شعر.
لذلك تنقل اللعبي بين الأنواع الأدبية مدفوعا بقوة الشعر. الشعر أولا وبالفرنسية التي هي غنيمته ومنفاه في الوقت نفسه.
السياسة وألغاز الشعر
“مجنون الأمل” لم يفصل بين الشعر والسياسة. في الاثنين تخطى اللعبي عتبة المتداول والمسموح به والجاهز والمقنع لكي يتشبث بمستقبل الإنسان واللغة معاً. عرف الشاعر كيف يكون إنسانيا في لحظة يأس. “كلما همت ضحية/ أيا كانت بالكلام لتعرض عذابها/ أشعر بالذنب”، ذلك شاعر لم يستعمل الشعر لأغراض متعوية بل ليفخخ عذابه بالألغاز اللغوية.
في وقت مبكر من مسيرته الشعرية أدركته السياسة ولكن بطريقة تفصح عن نقاء الجوهر. لم يتعرف على الجانب النفعي من السياسة. قبض على الإلهام الذي لا يأتي سوى مرة واحدة في العمر. إلهام حياته الذي صنع منه كائنا مختلفا تشعبت بين يديه السبل ولم يكن عصيا على بصيرته أن ترى الشاعر وقد أمسك بجناحي الكون.
لم يخدع الشعر ولم يخدعه الشعر حين وقفا على حبل مشدود اعتبره الآخرون تطرفا. مثل برق مر الشاعر بالسياسة حاملا متاعه الإنساني ولم يخضع لها شعريا بل تمرد عليها لأنه يثق بالشعر “إلى حدود الآن/ الشعر أنقذني/ لكني أتفهم/ إنه قد يمل/ من نداءات الشفقة/ حتى من خدمة الأوفياء”.
ولكن علاقة السياسي بالشاعر لم تكن دائما مباشرة ولا ضاغطة. شعر اللعبي إنساني أكثر من كونه سياسيا. هناك نبرة صلح مع الطبيعة هي ذاتها نبرة التمرد على المصير سائدة في كل ما كتبه.يقول “الأرض رأت كثيرا من البلدان/ إنها تسافر فينا/ بل جواز سفر”.
مجنون الأمل
ولد عبداللطيف اللعبي عام 1942 في مدينة فاس. حصل على الإجازة في الأدب الفرنسي عام 1964 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. عمل في التعليم الثانوي بالرباط. عام 1966 أسس مجلة “أنفاس” وكذلك منشورات “أطلانط”. وفي عام 1968 أسس برفقة أبراهام السرفاتي “جمعية البحث الثقافي”.
إلى جانب الشعر يكتب اللعبي الرواية والمسرحية كما ترجم إلى الفرنسية عددا من الأعمال الأدبية العربية.
أصدر خمس روايات، من بينها “مجنون الأمل” و”شاعر يمر”. من كتبه الشعرية “عهد البربرية” و”أزهرت شجرة الحديد” و”قصائد تحت الكمامة”.
كما أصدر كتاب “يوميات قلعة المنفى” و”رسائل السجن”، وكان اللعبي قد اُعتقل عام 1972 ولم يغادر السجن إلا عام 1980. عام 1987 أصدر مسرحية “التعميد الثعلبي” وهي عن تجربة السجن أيضا.
عام 2009 حصل على جائزة “غونكور” الفرنسية ومن ثم فاز بالجائزة الفرانكفونية الكبرى، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية للغة، عام 2011. عام 1998 اُنتخب عضوا في أكاديمية مالارمية.
قام اللعبي بترجمة شعر المقاومة الفلسطينية إلى الفرنسية. كما قام بترجمة شعر من عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف وقاسم حداد وشعراء آخرين.
يقول في إحدى قصائده “كي أتخلى عن أحلامي/ يلزم بداية أن أجد الفرد/ أو الشعب/ الذي استودعها إياه بكل اطمئنان”.
ولأن “الشعر لا يُهزم”، وهو عنوان أحد كتبه الشعرية، فقد صاغ اللعبي معادلة التزامه بطرفيها، الإنسان والشعر من مادة واحدة هي الأمل. لقد نظر إلى حياته وقد تقلبت بين مصاعب شتى من جهة الثقة بالمستقبل وفاز رهانه شعريا وإن أصيب بالإحباط سياسيا، وهو ما دفعه إلى الاستمرار في الإقامة في منفاه الباريسي.
“تنام الكتب/ متكئة بعضها على بعض/ تحلم بزمن الغابات”. ذلك الحنين إلى الطبيعة البرية الصافية هو بالنسبة إلى السجين بمثابة استحضار لبراءة فات أوانها. في “يوميات قلعة المنفى” وهو كتاب رسائله من السجن يقيس اللعبي المسافة التي تفصله عن الموت بأصابعه التي تقطر حبرا. منذ اللحظة الأولى أدرك أن محوه هو الهدف؛ تطويق إنسانيته وتحويله إلى جهاز بردود أفعال متوقعة.
وحين أدرك أن الحياة في درجاتها الدنيا قادرة على العطاء، من خلال الشعر بالنسبة إليه عرف كيف يحيد الموت ويعلي من قيم الحب وهو يكتب رسائل غرامية وعاطفية.
انتصر المبدع الحر على السجين المقيد وكان فضاء الحرية يتسع مع كل كلمة جديدة يكتبها. “عندما نُحب لا نفكر”، كان الحب مشروعه في الشعر وفي السياسة. لذلك غالبا ما حلم بأن يصل صوته إلى الآخر بأية طريقة.
“أقدم لك معروفاً إذا لم أقتلك” يقول مثلٌ مغربي قديم. ثمة شطحات من الحكمة تصيبك بالرعب.
“لا يُدين غير الأغنياء” يقول المثل الفرنسي. وإذا ما جرى تكييفه مع العربية، هذا ما قد يعطيه “إضافة المزيد من الدهن إلى إلية خروفٍ مسمَّن”، هل ابتهجتَ أيها المترجِم!
ذلك مقطع من قصيدة بعنوان “بعيدا عن بغداد” وردت في كتاب بعنوان “أكتب الحياة” صدر في دمشق مترجما إلى العربية عام 2010.
كُتبت تلك القصيدة بعد احتلال العراق عام 2003. وفيها وردت الجملة التي بدأت بها هذا المقال “عندما تُسْتَخلصُ العِبْرةُ/
يجب تَجَرُّعُ الكأس حتى الثمالة”، جملة أشبه بنبوءة. ما جرى أن كل شيء ذهب إلى أقصاه وليس للموت نهاية.
سيكون على العراقيين أن يخضعوا للاختبار كاملا. من وجهة نظر الشاعر فإن ثمن الحرية لا بد أن يكون صعبا. كان الشاعر موجوعا لِما حدث غير أنه لم يقف على الأطلال باكيا. كان لديه ما يقوله في ما يتعلق بالحرية الصعبة. لقد فضل ألا يمنع الدمع قدرته على أن يرى. لم يكتب اللعبي مرثية لبغداد بل مشى إليها على رؤوس أصابع قصائده.
الشعر ثقة بالحلم
يقول عبداللطيف اللعبي “في أنفسنا نؤوي حدس تطور آخر، احتمالات أخرى للحياة”. لقد واجه الموت وعرف كيف ينتصر عليه. لا لأنه لا يزال حيا بل وأيضا لأنه لا يزال يكتب الشعر مثلما كان يكتبه قبله، بل صار أكثر تمسكا به ومن خلاله أكثر تمسكا بالحياة.
يقول في إحدى قصائده “هل عاشت أعمالي بعد موتي/ هل انقرضت لغتي/ قبل أن أكتب/ ولكن وقبل كل شيء/ هل كنت شاعرا منشدا/ أم ملكا خاملا”.
ينتمي عبداللطيف اللعبي إلى سلالة الشعراء الكبار الذين كتبوا الشعر وفي خيالهم أن هناك جموعا من الناس ستردد مقاطع مما كتبوه؛ مايكوفسكي وبول إليوار ولويس أراغون وبابلو نيرودا وعبدالوهاب البياتي ومحمود درويش. كان النضال طريقته في التعبير عن الانتماء إلى الحياة وظل الشعر وسيلته للتعبير عن ثقته بالحلم البشري.
• شاعر لم يستعمل الشعر لأغراض متعوية
الشاعر تخطى المتداول والمسموح به والجاهز والمقنع ليتشبث بمستقبل الإنسان واللغة معا ليكون إنسانيا في لحظة يأس.
عندما نُحب لا نفكر
“عندما تُسْتَخلصُ العِبْرةُ/ يجب تَجَرُّعُ الكأس حتى الثمالة”، أليس ذلك ما فعله عبداللطيف اللعبي شاعرا وناشطا سياسيا؟
كان عليه دائما أن يأخذ الشعر معه إلى المحيط كما إلى السجن. وهو المسافر بين السعة والضيق، المأهول بالمسرة والعذاب، المراهن على الصمت باعتباره نوعا من الكلام. إنّ كثيرا من القبلات يمكن أن يضيع من غير شعر.
لذلك تنقل اللعبي بين الأنواع الأدبية مدفوعا بقوة الشعر. الشعر أولا وبالفرنسية التي هي غنيمته ومنفاه في الوقت نفسه.
السياسة وألغاز الشعر
“مجنون الأمل” لم يفصل بين الشعر والسياسة. في الاثنين تخطى اللعبي عتبة المتداول والمسموح به والجاهز والمقنع لكي يتشبث بمستقبل الإنسان واللغة معاً. عرف الشاعر كيف يكون إنسانيا في لحظة يأس. “كلما همت ضحية/ أيا كانت بالكلام لتعرض عذابها/ أشعر بالذنب”، ذلك شاعر لم يستعمل الشعر لأغراض متعوية بل ليفخخ عذابه بالألغاز اللغوية.
في وقت مبكر من مسيرته الشعرية أدركته السياسة ولكن بطريقة تفصح عن نقاء الجوهر. لم يتعرف على الجانب النفعي من السياسة. قبض على الإلهام الذي لا يأتي سوى مرة واحدة في العمر. إلهام حياته الذي صنع منه كائنا مختلفا تشعبت بين يديه السبل ولم يكن عصيا على بصيرته أن ترى الشاعر وقد أمسك بجناحي الكون.
لم يخدع الشعر ولم يخدعه الشعر حين وقفا على حبل مشدود اعتبره الآخرون تطرفا. مثل برق مر الشاعر بالسياسة حاملا متاعه الإنساني ولم يخضع لها شعريا بل تمرد عليها لأنه يثق بالشعر “إلى حدود الآن/ الشعر أنقذني/ لكني أتفهم/ إنه قد يمل/ من نداءات الشفقة/ حتى من خدمة الأوفياء”.
ولكن علاقة السياسي بالشاعر لم تكن دائما مباشرة ولا ضاغطة. شعر اللعبي إنساني أكثر من كونه سياسيا. هناك نبرة صلح مع الطبيعة هي ذاتها نبرة التمرد على المصير سائدة في كل ما كتبه.يقول “الأرض رأت كثيرا من البلدان/ إنها تسافر فينا/ بل جواز سفر”.
مجنون الأمل
ولد عبداللطيف اللعبي عام 1942 في مدينة فاس. حصل على الإجازة في الأدب الفرنسي عام 1964 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. عمل في التعليم الثانوي بالرباط. عام 1966 أسس مجلة “أنفاس” وكذلك منشورات “أطلانط”. وفي عام 1968 أسس برفقة أبراهام السرفاتي “جمعية البحث الثقافي”.
إلى جانب الشعر يكتب اللعبي الرواية والمسرحية كما ترجم إلى الفرنسية عددا من الأعمال الأدبية العربية.
أصدر خمس روايات، من بينها “مجنون الأمل” و”شاعر يمر”. من كتبه الشعرية “عهد البربرية” و”أزهرت شجرة الحديد” و”قصائد تحت الكمامة”.
كما أصدر كتاب “يوميات قلعة المنفى” و”رسائل السجن”، وكان اللعبي قد اُعتقل عام 1972 ولم يغادر السجن إلا عام 1980. عام 1987 أصدر مسرحية “التعميد الثعلبي” وهي عن تجربة السجن أيضا.
عام 2009 حصل على جائزة “غونكور” الفرنسية ومن ثم فاز بالجائزة الفرانكفونية الكبرى، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية للغة، عام 2011. عام 1998 اُنتخب عضوا في أكاديمية مالارمية.
قام اللعبي بترجمة شعر المقاومة الفلسطينية إلى الفرنسية. كما قام بترجمة شعر من عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف وقاسم حداد وشعراء آخرين.
يقول في إحدى قصائده “كي أتخلى عن أحلامي/ يلزم بداية أن أجد الفرد/ أو الشعب/ الذي استودعها إياه بكل اطمئنان”.
ولأن “الشعر لا يُهزم”، وهو عنوان أحد كتبه الشعرية، فقد صاغ اللعبي معادلة التزامه بطرفيها، الإنسان والشعر من مادة واحدة هي الأمل. لقد نظر إلى حياته وقد تقلبت بين مصاعب شتى من جهة الثقة بالمستقبل وفاز رهانه شعريا وإن أصيب بالإحباط سياسيا، وهو ما دفعه إلى الاستمرار في الإقامة في منفاه الباريسي.
“تنام الكتب/ متكئة بعضها على بعض/ تحلم بزمن الغابات”. ذلك الحنين إلى الطبيعة البرية الصافية هو بالنسبة إلى السجين بمثابة استحضار لبراءة فات أوانها. في “يوميات قلعة المنفى” وهو كتاب رسائله من السجن يقيس اللعبي المسافة التي تفصله عن الموت بأصابعه التي تقطر حبرا. منذ اللحظة الأولى أدرك أن محوه هو الهدف؛ تطويق إنسانيته وتحويله إلى جهاز بردود أفعال متوقعة.
وحين أدرك أن الحياة في درجاتها الدنيا قادرة على العطاء، من خلال الشعر بالنسبة إليه عرف كيف يحيد الموت ويعلي من قيم الحب وهو يكتب رسائل غرامية وعاطفية.
انتصر المبدع الحر على السجين المقيد وكان فضاء الحرية يتسع مع كل كلمة جديدة يكتبها. “عندما نُحب لا نفكر”، كان الحب مشروعه في الشعر وفي السياسة. لذلك غالبا ما حلم بأن يصل صوته إلى الآخر بأية طريقة.
“أقدم لك معروفاً إذا لم أقتلك” يقول مثلٌ مغربي قديم. ثمة شطحات من الحكمة تصيبك بالرعب.
“لا يُدين غير الأغنياء” يقول المثل الفرنسي. وإذا ما جرى تكييفه مع العربية، هذا ما قد يعطيه “إضافة المزيد من الدهن إلى إلية خروفٍ مسمَّن”، هل ابتهجتَ أيها المترجِم!
ذلك مقطع من قصيدة بعنوان “بعيدا عن بغداد” وردت في كتاب بعنوان “أكتب الحياة” صدر في دمشق مترجما إلى العربية عام 2010.
كُتبت تلك القصيدة بعد احتلال العراق عام 2003. وفيها وردت الجملة التي بدأت بها هذا المقال “عندما تُسْتَخلصُ العِبْرةُ/
يجب تَجَرُّعُ الكأس حتى الثمالة”، جملة أشبه بنبوءة. ما جرى أن كل شيء ذهب إلى أقصاه وليس للموت نهاية.
سيكون على العراقيين أن يخضعوا للاختبار كاملا. من وجهة نظر الشاعر فإن ثمن الحرية لا بد أن يكون صعبا. كان الشاعر موجوعا لِما حدث غير أنه لم يقف على الأطلال باكيا. كان لديه ما يقوله في ما يتعلق بالحرية الصعبة. لقد فضل ألا يمنع الدمع قدرته على أن يرى. لم يكتب اللعبي مرثية لبغداد بل مشى إليها على رؤوس أصابع قصائده.
الشعر ثقة بالحلم
يقول عبداللطيف اللعبي “في أنفسنا نؤوي حدس تطور آخر، احتمالات أخرى للحياة”. لقد واجه الموت وعرف كيف ينتصر عليه. لا لأنه لا يزال حيا بل وأيضا لأنه لا يزال يكتب الشعر مثلما كان يكتبه قبله، بل صار أكثر تمسكا به ومن خلاله أكثر تمسكا بالحياة.
يقول في إحدى قصائده “هل عاشت أعمالي بعد موتي/ هل انقرضت لغتي/ قبل أن أكتب/ ولكن وقبل كل شيء/ هل كنت شاعرا منشدا/ أم ملكا خاملا”.
ينتمي عبداللطيف اللعبي إلى سلالة الشعراء الكبار الذين كتبوا الشعر وفي خيالهم أن هناك جموعا من الناس ستردد مقاطع مما كتبوه؛ مايكوفسكي وبول إليوار ولويس أراغون وبابلو نيرودا وعبدالوهاب البياتي ومحمود درويش. كان النضال طريقته في التعبير عن الانتماء إلى الحياة وظل الشعر وسيلته للتعبير عن ثقته بالحلم البشري.
• شاعر لم يستعمل الشعر لأغراض متعوية