الحبيب السالمي خبر العيش مهاجرا ليكتب حقيقة المجتمعات بلا زخارف
الكاتب التونسي يستعمل لغة مقتضبة مشدودة خالية من الزخرف البلاغي وبعيدة عن الثرثرة لا يميل إلى الوصف بل يندفع إلى الداخل.
صانع رواياته وهو صنيعها في الوقت نفسه
إذا لم يكتب الروائي سيرته في رواياته فإنه على الأقل يضمنها الأسئلة التي أقلقته وأثارت لديه نزعة الكشف عن المواقع الخفية في حياته بما يجعله قادرا على إدارة حركة شخصياته في إطار فلسفة العيش.
لا يجد الكاتب التونسي الحبيب السالمي وهو الذي نشر أكثر من عشر روايات حتى الآن، أن من واجب الروائي أن يجيب على تلك الأسئلة بقدر ما يسعى إلى اعتبارها حاضنة للقاءات غامضة وعابرة، مرحة وغاضبة، مرتجلة وضرورية غير أنها تبقى الأصل الذي يؤسس معنى لحياة، يحاول المرء أن يؤثثها بما يليق به لا بما يليق بها.
الهوية واختلاف الثقافات
لأنه ذهب إلى غربته في وقت مبكر من حياته فقد رافقه سؤال الهوية لا وقاية من الصدمات بل تعبيرا عن الاختلاف، اختلاف الثقافات الذي هو قيمة جوهرية في عالمه. غالبا ما ينتمي أبطاله إلى طبقات، فئات، مجتمعات مختلفة.
وإذا كان الحب، في مستوييه الروحي والجسدي قد شكل في بعض المنعطفات أو الحالات علاجا للعزلة من خلال الخروج من دائرة الذات إلى عالم الآخرين، فإنه في معظم روايات السالمي يتسم بطابعه المؤقت الذي يخفق في خلق هوية بديلة، قابلة للاستمرار.
وكعادة الروائيين الكبار يقوم الحبيب السالمي بتسليتنا بالحكايات، يمتعنا بلغة آسرة وأحداث مشوقة، من غير أن يحدث أي انخفاض في مستوى الشد ليذهب إلى نهايات، غالبا ما تكون غير متوقعة. غير أن كل ذلك لا يشكل سوى غطاء خارجي لمستوى من السرد، يكون غاصا بالأسئلة الوجودية التي تتعلق بمصائر الأفراد الهائمين على وجوههم في عالم لم يتمكنوا على الأقل من تحييده. حين نطبق الكتاب بعد أن قرأنا صفحته الأخيرة نشعر أن ما فاتنا أكثر مما قبضنا عليه بالرغم من متعتنا في القراءة.
حياة بلا زخارف
موهبة الحبيب السالمي تكمن في قدرته على أن يبقي الجمال سالما بالرغم مما يحيط به من خيبات وخسائر وعذابات وآلام وشعور عميق بالفقدان. يصنع معادلة طرفاها الفن والحياة. في كل منهما يضع شيئا من تجربته. في الفن شيء من الحياة وفي الحياة شيء من الفن. لقد عاش غريبا ليكتب واقتنع بعد صدمات عديدة أنه يكتب ليؤكد غربته.
الحبيب السالمي هو صانع رواياته وهو صنيعها في الوقت نفسه.
ولد الحبيب السالمي عام 1951 في العلا التابعة لمحافظة القيروان وسط تونس. درس اللغة العربية ودرسها في محافظة باجة في شمال غرب تونس وباريس. أصدر كتابه الأول عام 1977 وهو عبارة عن مجموعة قصصية بعنوان “من الرجل المهاجر” ولم ينشر كتابه القصصي الثاني إلا عام 1986 وكان بعنوان “امرأة الساعات الأربع”.
كان السالمي قد استقر في باريس قبل ذلك بسنة. منذ عام 1988 بدأ السالمي بنشر رواياته. كانت “جبل العنز” روايته الأولى. أما “عطلة في حي النور” فهي روايته الأخيرة التي صدرت عام 2023. ما بينهما أصدر عددا من الروايات، من بينها “الاشتياق إلى الجارة” التي أهلته لنيل جائزة كتارا عام 2021 كما وصلت ثلاث من رواياته إلى القوائم الطويلة والقصيرة لجائزة “بوكر” العربية في أبوظبي.
يستعمل السالمي في أسلوبه لغة مقتضبة، مشدودة خالية من الزخرف البلاغي وبعيدة عن الثرثرة. لا يميل إلى الوصف بقدر ما يندفع إلى الداخل باحثا عن تفاصيل شعرية تميز طرق أبطاله في التفكير وردود الأفعال والموقف الذي يتطلبه الحدث الذي غالبا ما يكون له وقعه النفسي الذي يغير من المحتوى بسبب ما يستدعيه من ذكريات.
يعير الحبيب السالمي صوته لأبطاله ويستعير في الوقت نفسه أصواتهم. هو وهم من طينة واحدة. مهاجرون بين زمنين ومجتمعين وثقافتين ومكانين. تجمعهم الغربة وتفرقهم بالقوة نفسها. فهم ضحايا وهم ليسوا كذلك. يضعهم السالمي في أماكن متفرقة من سلم انتمائهم إلى مجتمعهم الجديد الذي يظل يمارس عليهم ظغوطا حتى لو اجتهدوا في الاندماج به.
هاوية غربة لا تنتهي
يكتب السالمي عما يعرفه وهو المقيم في باريس منذ أربعين سنة. وإقامته ليست من النوع السطحي، بل متجذرة لما تنطوي عليه من مفاهيم ثقافية عميقة المحتوى.
◙ واقع المهاجر ليس كما نعتقد (لوحة للفنان أنس سلامة)
يعرف السالمي أبطاله الفرنسيين مثلما يعرف أبطاله القادمين من شمال أفريقيا ومن بلده تونس بالتحديد. وهو إذ يكتب أعمالا أدبية متخيلة فإنه يضع فيها خلاصة خبرته الحياتية وليس في ذهنه أن يناقش مشكلات الهجرة بكل ما تحمله من سوء فهم متبادل بين الطرفين.
لا يدين أحدا غير أن العنصرية التي يواجهها المهاجرون غالبا ما تطل برأسها وهو يعرف أن لا أحد في إمكانه أن يقطعه. فالمسافة تظل قائمة بين المهاجر ومجتمعه الجديد وبينه ومجتمعه القديم. وهنا بالضبط يتلمس الروائي طريقه إلى ضياع الفرد بين مجتمعين.
يفتح السالمي قوسا لا يغلقه لأنه يعرف أنه سيرى أبطاله في كل لحظة عيش وهم يتجددون كما لو أنهم خرجوا من رواياته ليجدوا لهم مكانا في الحياة المباشرة. بمعنى أن الروائي لا يكتفي بجلب أبطاله من الشارع إلى الورق بل يعمل أيضا على إخراجهم من الكتب إلى المقاهي التي تغص بها أحياء المهاجرين الذين سيظل سوء الفهم يرافقهم حتى الموت.
في “الاشتياق إلى الجارة”، وهي واحدة من أشهر رواياته، يستعير البطل وهو من أصل تونسي لسان الفرنسيين في الحديث عن أبناء جلدته. يتبنى آراءهم وينظر من خلال زوايا نظرهم إلى المهاجرين العرب مستعملا ضمير الغائب “هم” في الإشارة إليهم. غير أن محنته الوجودية تبدأ حين يقع في غرام الجارة وهي مثله من أصل تونسي. سيقع بين نارين، ليست الخيانة إحداهما وهو المتزوج من امرأة فرنسية.
مظهريا يقف البطل بين سيدة فرنسية جميلة وأنيقة لطيفة ومرموقة وخادمة تونسية قادمة من الضواحي حيث يقع الهامش الذي يقيم فيه المهاجرون. ولكن في الداخل يذهب البطل المثقف إلى ما هو أسوأ وهو يعالج الحب باعتباره قدرا لا يستطيع الهرب منه حين يكشف عن عنصرية مكتسبة طبقيا ويتحدث عن مستواه ومستواها.
وبغض النظر عن ذلك الموقف بأبعاده غير الإنسانية الذي كان السالمي صريحا في الكشف عنه فقد انطوى السرد على قدر هائل من الطاقة التعبيرية التي جعلت من الرواية نصا غراميا رائعا ينتقل بين بلاغة المشاعر وشهوانية الحواس. وهو ما كان الحبيب السالمي متمكنا منه في كل رواياته.
قراءة كتب السالمي تفتح طريقا لمعرفة أحوال مجتمع يسعى بشتى الطرق إلى تزوير أوضاعه وإحاطتها بأنواع مختلفة من الزخارف. ذلك هو مجتمع المهاجرين.
◙ الروائي يفتح قوسا لا يغلقه لأنه يعرف أنه سيرى أبطاله في كل لحظة وهم يتجددون كما لو أنهم خرجوا من رواياته
فاروق يوسف
كاتب عراقي
الكاتب التونسي يستعمل لغة مقتضبة مشدودة خالية من الزخرف البلاغي وبعيدة عن الثرثرة لا يميل إلى الوصف بل يندفع إلى الداخل.
صانع رواياته وهو صنيعها في الوقت نفسه
إذا لم يكتب الروائي سيرته في رواياته فإنه على الأقل يضمنها الأسئلة التي أقلقته وأثارت لديه نزعة الكشف عن المواقع الخفية في حياته بما يجعله قادرا على إدارة حركة شخصياته في إطار فلسفة العيش.
لا يجد الكاتب التونسي الحبيب السالمي وهو الذي نشر أكثر من عشر روايات حتى الآن، أن من واجب الروائي أن يجيب على تلك الأسئلة بقدر ما يسعى إلى اعتبارها حاضنة للقاءات غامضة وعابرة، مرحة وغاضبة، مرتجلة وضرورية غير أنها تبقى الأصل الذي يؤسس معنى لحياة، يحاول المرء أن يؤثثها بما يليق به لا بما يليق بها.
الهوية واختلاف الثقافات
لأنه ذهب إلى غربته في وقت مبكر من حياته فقد رافقه سؤال الهوية لا وقاية من الصدمات بل تعبيرا عن الاختلاف، اختلاف الثقافات الذي هو قيمة جوهرية في عالمه. غالبا ما ينتمي أبطاله إلى طبقات، فئات، مجتمعات مختلفة.
وإذا كان الحب، في مستوييه الروحي والجسدي قد شكل في بعض المنعطفات أو الحالات علاجا للعزلة من خلال الخروج من دائرة الذات إلى عالم الآخرين، فإنه في معظم روايات السالمي يتسم بطابعه المؤقت الذي يخفق في خلق هوية بديلة، قابلة للاستمرار.
وكعادة الروائيين الكبار يقوم الحبيب السالمي بتسليتنا بالحكايات، يمتعنا بلغة آسرة وأحداث مشوقة، من غير أن يحدث أي انخفاض في مستوى الشد ليذهب إلى نهايات، غالبا ما تكون غير متوقعة. غير أن كل ذلك لا يشكل سوى غطاء خارجي لمستوى من السرد، يكون غاصا بالأسئلة الوجودية التي تتعلق بمصائر الأفراد الهائمين على وجوههم في عالم لم يتمكنوا على الأقل من تحييده. حين نطبق الكتاب بعد أن قرأنا صفحته الأخيرة نشعر أن ما فاتنا أكثر مما قبضنا عليه بالرغم من متعتنا في القراءة.
حياة بلا زخارف
موهبة الحبيب السالمي تكمن في قدرته على أن يبقي الجمال سالما بالرغم مما يحيط به من خيبات وخسائر وعذابات وآلام وشعور عميق بالفقدان. يصنع معادلة طرفاها الفن والحياة. في كل منهما يضع شيئا من تجربته. في الفن شيء من الحياة وفي الحياة شيء من الفن. لقد عاش غريبا ليكتب واقتنع بعد صدمات عديدة أنه يكتب ليؤكد غربته.
الحبيب السالمي هو صانع رواياته وهو صنيعها في الوقت نفسه.
ولد الحبيب السالمي عام 1951 في العلا التابعة لمحافظة القيروان وسط تونس. درس اللغة العربية ودرسها في محافظة باجة في شمال غرب تونس وباريس. أصدر كتابه الأول عام 1977 وهو عبارة عن مجموعة قصصية بعنوان “من الرجل المهاجر” ولم ينشر كتابه القصصي الثاني إلا عام 1986 وكان بعنوان “امرأة الساعات الأربع”.
كان السالمي قد استقر في باريس قبل ذلك بسنة. منذ عام 1988 بدأ السالمي بنشر رواياته. كانت “جبل العنز” روايته الأولى. أما “عطلة في حي النور” فهي روايته الأخيرة التي صدرت عام 2023. ما بينهما أصدر عددا من الروايات، من بينها “الاشتياق إلى الجارة” التي أهلته لنيل جائزة كتارا عام 2021 كما وصلت ثلاث من رواياته إلى القوائم الطويلة والقصيرة لجائزة “بوكر” العربية في أبوظبي.
يستعمل السالمي في أسلوبه لغة مقتضبة، مشدودة خالية من الزخرف البلاغي وبعيدة عن الثرثرة. لا يميل إلى الوصف بقدر ما يندفع إلى الداخل باحثا عن تفاصيل شعرية تميز طرق أبطاله في التفكير وردود الأفعال والموقف الذي يتطلبه الحدث الذي غالبا ما يكون له وقعه النفسي الذي يغير من المحتوى بسبب ما يستدعيه من ذكريات.
يعير الحبيب السالمي صوته لأبطاله ويستعير في الوقت نفسه أصواتهم. هو وهم من طينة واحدة. مهاجرون بين زمنين ومجتمعين وثقافتين ومكانين. تجمعهم الغربة وتفرقهم بالقوة نفسها. فهم ضحايا وهم ليسوا كذلك. يضعهم السالمي في أماكن متفرقة من سلم انتمائهم إلى مجتمعهم الجديد الذي يظل يمارس عليهم ظغوطا حتى لو اجتهدوا في الاندماج به.
هاوية غربة لا تنتهي
يكتب السالمي عما يعرفه وهو المقيم في باريس منذ أربعين سنة. وإقامته ليست من النوع السطحي، بل متجذرة لما تنطوي عليه من مفاهيم ثقافية عميقة المحتوى.
◙ واقع المهاجر ليس كما نعتقد (لوحة للفنان أنس سلامة)
يعرف السالمي أبطاله الفرنسيين مثلما يعرف أبطاله القادمين من شمال أفريقيا ومن بلده تونس بالتحديد. وهو إذ يكتب أعمالا أدبية متخيلة فإنه يضع فيها خلاصة خبرته الحياتية وليس في ذهنه أن يناقش مشكلات الهجرة بكل ما تحمله من سوء فهم متبادل بين الطرفين.
لا يدين أحدا غير أن العنصرية التي يواجهها المهاجرون غالبا ما تطل برأسها وهو يعرف أن لا أحد في إمكانه أن يقطعه. فالمسافة تظل قائمة بين المهاجر ومجتمعه الجديد وبينه ومجتمعه القديم. وهنا بالضبط يتلمس الروائي طريقه إلى ضياع الفرد بين مجتمعين.
يفتح السالمي قوسا لا يغلقه لأنه يعرف أنه سيرى أبطاله في كل لحظة عيش وهم يتجددون كما لو أنهم خرجوا من رواياته ليجدوا لهم مكانا في الحياة المباشرة. بمعنى أن الروائي لا يكتفي بجلب أبطاله من الشارع إلى الورق بل يعمل أيضا على إخراجهم من الكتب إلى المقاهي التي تغص بها أحياء المهاجرين الذين سيظل سوء الفهم يرافقهم حتى الموت.
في “الاشتياق إلى الجارة”، وهي واحدة من أشهر رواياته، يستعير البطل وهو من أصل تونسي لسان الفرنسيين في الحديث عن أبناء جلدته. يتبنى آراءهم وينظر من خلال زوايا نظرهم إلى المهاجرين العرب مستعملا ضمير الغائب “هم” في الإشارة إليهم. غير أن محنته الوجودية تبدأ حين يقع في غرام الجارة وهي مثله من أصل تونسي. سيقع بين نارين، ليست الخيانة إحداهما وهو المتزوج من امرأة فرنسية.
مظهريا يقف البطل بين سيدة فرنسية جميلة وأنيقة لطيفة ومرموقة وخادمة تونسية قادمة من الضواحي حيث يقع الهامش الذي يقيم فيه المهاجرون. ولكن في الداخل يذهب البطل المثقف إلى ما هو أسوأ وهو يعالج الحب باعتباره قدرا لا يستطيع الهرب منه حين يكشف عن عنصرية مكتسبة طبقيا ويتحدث عن مستواه ومستواها.
وبغض النظر عن ذلك الموقف بأبعاده غير الإنسانية الذي كان السالمي صريحا في الكشف عنه فقد انطوى السرد على قدر هائل من الطاقة التعبيرية التي جعلت من الرواية نصا غراميا رائعا ينتقل بين بلاغة المشاعر وشهوانية الحواس. وهو ما كان الحبيب السالمي متمكنا منه في كل رواياته.
قراءة كتب السالمي تفتح طريقا لمعرفة أحوال مجتمع يسعى بشتى الطرق إلى تزوير أوضاعه وإحاطتها بأنواع مختلفة من الزخارف. ذلك هو مجتمع المهاجرين.
◙ الروائي يفتح قوسا لا يغلقه لأنه يعرف أنه سيرى أبطاله في كل لحظة وهم يتجددون كما لو أنهم خرجوا من رواياته
فاروق يوسف
كاتب عراقي