إسماعيل الرفاعي يكتب ويرسم كأنه يتذكر الخلق في أرض التراجيديا الداكنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إسماعيل الرفاعي يكتب ويرسم كأنه يتذكر الخلق في أرض التراجيديا الداكنة

    إسماعيل الرفاعي يكتب ويرسم كأنه يتذكر الخلق في أرض التراجيديا الداكنة



    إسماعيل الشاعر هو إسماعيل الرسام

    قبل أن يتعلم البشر الكتابة أتقنوا التعبير بالرسم. الرسم والكتابة كانا صنوين، تفرقت بهما الحضارة كل إلى جهة وإلى اشتغال ومجال، ولكن العلاقة السُّريّة مع رحم الحضارة الإنسانية الأول ما تزال ماثلة. هذا ما تؤكده تجربة الرسام والشاعر والكاتب السوري إسماعيل الرفاعي.

    إسماعيل الشاعر هو إسماعيل الرسام ويصحّ العكس أيضا. يكتب إسماعيل من ذاكرته، ذاكرة الطفل الذي اقتلعته الحياة من ضفته الأولى دير الزور، التي تقع على مقربة من الحدود مع العراق، ويشقها نهر الفرات، من هناك من ضفة الفرات الذي يهب المدينة الجافة الحياة ومن حركات

    الأشجار والناس والأحداث يأخذ الفنان مادته من أصوات وألوان ووجوه وضباب وماء ليكتب ويرسم تماما بنفس القدر.
    تأريخ بالوجوه



    حكايات كثيرة تتكثّف خلف كل وجه


    أن يجمع أحدهم بين الرسم وكتابة الشعر تحديدا لهو المتعة. الشعر في النهاية صورة، والرسم صورة، الشعر حساسية في تكثيف المشاهد والذكريات والخيالات والتصورات والرؤى من خلال الكلمة، والرسم أيضا كذلك، فقط مع تغيير الكلمة باللون وحركة الريشة.

    أعمال الرفاعي الداكنة في أغلبها، تأتي من تلك الذاكرة البعيدة. تذكرني بعض أعمال إسماعيل بالمرحلة الزرقاء لبيكاسو، ممثلة في تلك اللوحات التي يغلب عليها اللون الأزرق والتي أنجزها الفنان الإسباني بين عامي 1901 و1904 والتي ترصد الأجساد الهزيلة والكآبة التي تغرق فيها تأريخا لفترة حالكة من تاريخ إسبانيا.

    قلت تذكرني لكن لا تشابه بين شخصيات بيكاسو وشخصيات الرفاعي. لا في الحركة ولا في الجسد ولا في اللون والملامح (رغم أن الرفاعي يستعمل الأزرق بدوره). يرسم الرفاعي شخوصه عن بعد في حركاتها المنحنية إلى أعلى وأسفل، ويرسمها عن قرب، يسلط عدسته على وجوهها يعري أجسادها ويحجب أحيانا ملامحها، بينما الوجوه الصامتة تراوح بين الحزن والنعاس والغضب واليأس واللامبالاة.

    يؤرخ الرفاعي لمدينته وشعبه من خلال الوجوه بشكل مختلف. أحيانا نجده يجمع بين اللوحة والوجه المتفسّخ والكتابة، وهو ما أتقنه في دفتره "عند منعطف النهر" بشكل قويّ.
    أجساد الرسام في حركاتها وهي تتعانق أو تنحني أو تتكوّر كأنها تقول ما قاله المسيح: إلهي إلهي لم تركتني

    دير الزور حاضرة لا من خلال المكان واستعادته بل باستعادة إنسانها الثائر الحزين، الذي عجنته القرون منذ حكم حمورابي البابلي، والآشوريين والكلدانيين والفرس والمقدونيين والرومان وصولا إلى المسلمين. تخيل كم تعاقب على المكان من بشر وأعراق وتفاصيل حتى تكتنز الوجوه التي يلتقطها الرفاعي بكل تلك الحكايات التي من مهمتنا كمتلقين لا معرفتها وإنما الشعور بها.

    وجوه الفنان متعددة فيها مغمض الأعين وفيها التي تصوب نحوك نظرة مساءلة والتي تشيح بنظرها وغيرها، وهي في النهاية حالات تدفعك إلى التساؤل، وجوه ناقصة المعالم ولكنها تقودك دون ضياع إلى الحكايات، حكايات كثيرة تتكثّف خلف كل وجه ومن خلاله، منها ما هو واضح كالعشاء الأخير للمسيح أو صلبه، وفيها ما هو أبعد في الخلق من حكايا الهامش والمجهول في ظلام التاريخ، وكأن الوجوه في النهاية قصائد دراميّة. وكم تنقص الشعر العربي الدراما فيما يغرق في الغنائية.

    يرسم إسماعيل وجهه أيضا. فان غوخ أعاد رسم وجهه من جديد ليصوره مثلما كان يشاء، بخطوط أكثر حدّة وألوان أكثر إشراقا وملامح ذئبيّة. لم يُعد إسماعيل رسم وجهه لإعادة بنائه بل للوعي به إلى أين صار وكيف تحوّل الطفل الذي ما زال يسكنه ويحرّك ذكرياته بالريشة والقلم، ويلهو بها.
    اللعب بالظلال



    اللوحة قطعة أثرية تآكل منها ما تآكل


    لا يكتفي الرسام بالوجوه، بل الأجساد البشرية الغارقة في الضباب والتي لا نتبيّن ملامح واضحة لها، وكأن اللوحة قطعة أثرية تآكل منها ما تآكل ومن وظيفة الرائي لبحث، ما حكاية هؤلاء، قبل أن يهتم إلى من هم هؤلاء.

    كما أن أجساد الرسام والشاعر في حركاتها وهي تتعانق أو تنحني أو تتكوّر على نفسها كأنها تقول للعالم ما قاله المسيح على الصليب: إلهي إلهي لم تركتني.

    إذن إنه لوم واكتفاء لا طلبا للشفقة أو المواساة، وإنما سخرية من القدر الذي حطم حيوات هؤلاء، وقد تعرضت دير الزور نفسها إلى شتى أنواع التنكيل في الصراع الطاحن الذي طال سوريا وتحولت ثورتها إلى تراجيديا ستبقى ماثلة في الأذهان إلى الأبد.

    الألوان داكنة في أغلبها، نجد الأزرق في تدرجاته أو الأحمر والبنيّ، ولكن في الغالب نجد أنفسنا إزاء الرمادي والأسود والأبيض. الأبيض والأسود هما ظلال في النهاية، لذا قد نقول إن ما نراه ليست شخصيات بل ظلالها.

    العالم الداكن الذي يبدو لوهلة أولى خارج المكان والزمن، هو في الحقيقة ذاكرة حيّة.

    ذاكرة تريدك أن تنبش لتصل إلى ما تقوله وما تسكت عنه.
    الرسام لا يكتفي بالوجوه بل يرسم أيضا الأجساد البشرية الغارقة في الضباب والتي لا نتبيّن ملامح واضحة لها

    من قوة الشعر أنه لا يقول، بل وظيفة الشاعر أن يسكت. يسكت عما يريد قوله ويترك لك كلمات قليلة تقودك إلى عالم لانهائي. هكذا يُحلم الشعر قارئه ومتلقيه. يذهب به بعيدا في ذاته وخارجها، بين الذاتي والموضوعي هناك الطاقة التي تحرّك الشعر وتجعله عالما لانهائيا من التأويلات والأحلام والتصورات والمشاعر والأفكار والقراءات وغيرها.

    يكتب إسماعيل مثلما يرسم، ليس مطالبا بأن يقول بل هو يكثف ما يريد من المتلقي إدراكه. يقدم سرديّة شعرية بصرية في أماكن لا غير محددة، أماكن مختنقة تحت غشاوة الاحتمالات.

    الشعر ليس مكمّلا إذن للرسم بل هو من صميم عمل إسماعيل الرفاعي. حتى في لوحاته التي لا تبتعد عن الجسد البشري وتذهب إلى رصد الخطوط والأشرعة والسفن والحركات والظلال. الشعر حاضر دائما في عمل الرسام.
    الإنسان تاريخ



    رسام وشاعر طفل يكتب سيرة الإنسان


    ولد إسماعيل الرفاعي في مدينة الميادين التابعة لمحافظة دير الزور السورية عام 1967، ونال بكالوريوس فنون جميلة من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، لتنطلق بعدها رحلته مع الرسم والكتابة. وقد أصدر مجموعة شعرية بعنوان “وعد على شفة مغلقة” عام 2002. كما كتب الرواية ونال جائزة الشارقة للإبداع العربي عن روايته “أدراج الطين” عام 2006، ونال جائزة دبي الثقافية 2015.

    مسيرته كفنان موازية لمسيرته ككاتب وشاعر وقد ظفر بجائزة نقيب الفنون الجميلة بسوريا عام 2002، ونال الجائزة الأولى في المعرض السنوي لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية سنة 2013. ونال عضوية نقابة الفنون الجميلة ببلاده، كما أنه عضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية.

    توج إسماعيل الرفاعي بالعديد من الجوائز الفنية والأدبية. المساران متوازيان بين الشاعر الكاتب والفنان، ولكنهما في النهاية لمن يمعن التحديق في مسيرة الرجل طريق واحد، هو طريق الإنسان، الإنسان الذي ما زال الرفاعي إلى اليوم يدافع عنه بالكلمة واللوحة، وما الإنسان في النهاية سوى حكاية وذكرى، الإنسان تاريخ.

    لإسماعيل الرفاعي وجه آخر ربما يجهله الكثيرون، إنه يعزف ويغني بشجن جارح. في مرسمه في مبنى مؤسسة الشارقة للفنون، تختبئ قيثارته، التي يعزف عليها ويؤدي ما ترسّب في ذاكرته من أغان قديمة، تعيد من يسمعها إلى ضفة الفرات، وإلى الحكايات المنسية والآمال المطحونة في ضباب السنوات المارة كالرحى على أجساد الناس والبسطاء والأمهات والآباء والأجداد.

    في مرسم الرفاعي حيث اللوحات بأحجام مختلفة، أغلبها بحجم كبير، تحسّ أنك تدخل إلى دفتر المبدع، دفتر خطه شاعر وكاتب ورسام، من خلاله تقرأ سيرة البشر المنسيين، لا تهم وجوههم ولا أجسادهم ولا أماكنهم ولا تواريخهم، أغلبهم عراة وكأنهم خلقوا للتو وسط أرض التراجيديا الداكنة.





    محمد ناصر المولهي
    كاتب تونسي
يعمل...
X