كسر التابوهات لجسد المرأة في السينما الإيرانية
ـ حميد عقبي
المتأمل للسينما الإيرانية يجد أنه منذ نهاية الثمانينات بدأت مرحلة عودة وتطور ظهور الشخصيات النسائية وأن تأخذ مكانها في السيناريو والتدرج إلى البطولة بعد أن عايشت محاذير كثيرة وبقيت في الظل خلال السنوات الأولى للثورة الخمينية.
في سينما عهد ما قبل هذه الثورة شغلت النساء ثلاثة أدوار رئيسية على الشاشة : دور الأم التقليدية، والزوجة المنقذة، والمرأة المغرية الخطيرة، وهذا النوع الأخير تم رفضه من النظام الإسلامي وسنت قوانين تجرمه لهدف محوه فلا يمكن أن يقبل أي عمل تظهر فيه امرأة عاهرة أو راقصة بل أن اللقطة القريبة لوجه امرأة تصبح مرفوضة في حال وجود إيحاء مغري، وكذلك وجهة نظر الرجال لجسد المرأة ووجهها يظل مرفوضاً من الرقابة، كما يتم تحريم أي تلامس جسدي بين الرجال والنساء مهما تكن الأسباب.
الأفلام الفارسية
منذ ظهور السينما في إيران مرت بعدة مراحل وكانت الأفلام الفارسية بالبداية تكتفي بتصوير الواقع الطبقي للمرأة ووجود الرجل الذي يحميها، وظهرت أفلام في الستينات تصور شخصيات نسائية بملابس الموضة وطريقة حياتهن لكن تظل القوة للرجل، ثم تطور ظهور المرأة وتصوير الجسد دون أي موانع وكانت بطلات الأفلام راقصات وبائعات المتعة وظل الرجل الحامي والمدافع عنها، وسميت هذه الموجة بالأفلام الشعبية وهي أفلام مسلية وفيها أغاني ورقصات ومطاردات ولم تكن السينما تحظى بأي دعم رسمي ولا توجيه، ومع ذلك انتعش الإنتاج وبنيت دور العرض السينمائي في أغلب المدن الكبرى.
ومع قيام الثورة تم فرض معايير إسلامية صارمة في مجمل الحياة الاجتماعية واستحداث نظام أخلاقي جديد في كل المظاهر والسلوكيات الحسية للمرأة حيث منع التبرج، بهذا استحدث نظام رقابة متشدد على السينما وجميع الفنون بحيث يمنع الفساد بحسب وجهة نظر النظام الجديد، وهكذا أصبح وجود امرأة بأي فيلم خاضع للقانون الجديد وتم منع أغلب الفنانين والفنانات الذين لهم أعمال سابقة جريئة وأضطر أغلبهم للفرار أو التقاعد، وأصبحت الشخصيات الأنثوية إما غائبة أو مصورة بشكل مهمش، خاصة في الأفلام الاجتماعية الأولى للجمهورية الإسلامية.
أفلام الحرب
في غالبية أفلام الثمانينات وخلال الحرب الإيرانية العراقية ظهرت الكثير من الأفلام التعبوية التي تحض على الحرب والجهاد وتقدس الشهادة، وأغلب هذه الأفلام بطولتها من الرجال وقد تظهر شخصية الأم الصابرة أو المشجعة للجهاد والشهادة، وهذه النوعية من الأفلام كانت تبتعد عن مشاكل المرأة وتركز فقط في تصوير الشباب وخلق الإيمان بالحرب المقدسة، وفي الأفلام الاجتماعية والكوميدية سنجد تصوير المرأة كزوجة مطيعة أي تطبخ الطعام وتقدم الشاي وهي بغطاء الشعر، وإذا خرجت تلف على جسدها العباية وتخفي معظم وجهها ولا يمكن أن يسمح بأي دلالة جنسية مهما كانت صغيرة أو عفوية، نظرة الكاميرا للمرأة كانت حذرة جداً وبلقطات بعيدة أو متوسطة ولا تجوز أي ملمسات جسدية ولم تكن مواضيع الحب والعشق والغراميات حتى لو كانت بريئة وعاطفية مطروحه لأنها قد تتسبب في رفض السيناريو وإن تم حدوث أي تجاوزات بسيطة فالفيلم يمنع من العرض.
في الأفلام الحربية ظهرت النساء بشكل مثالي في أدوار ممرضات وزوجات وأمهات المحاربين والشهداء، في لحظات الوداع قبل الذهاب للجبهات نجد في هذه المشاهد مسافة تمنع الملامسة، حتى حينما يودع زوج زوجته أو أم ولدها وتظل الملامسة محرمة حتى في مشاهد يكون الأبن أو الزوج جثة، فمن المستحيل السماح بأي تلامس جسدي وحتى الملامسات والتواصل الجسدي بين النساء يظل بحذر شديد وأغلب الأفلام تتحاشاه بحيث لا يفهم بشكل خاطئ.
الموجة الجديدة
ظل الوضع معقداً إلى منتصف التسعينات وظهور موجة سينمائية جديدة بدأت تطرح بشجاعة مواضيع جريئة وتعطي للنساء مساحة أكبر وأكثر عمقاً وحضوراً، مع الحذر في تصوير الجسد الأنثوي وبدأت عدة أساليب للتحايل ومرواغة الرقيب، كما أن السينما الإيرانية أصبح لها حضورها الجيد في المهرجانات الدولية وخاصة الأوروبية وكسبت السينما الإيرانية إعجاب الجمهور داخل وخارج إيران ومع كل تجربة جريئة تزداد شهرتها وتألقها العالمي.
بدأت عجلة التجارب لمخرجين ومخرجات بحيث يصبح للمرأة دوراً إيجابياً فاعلاً، في فيلم عروس (1990) للمخرج بهروز افخمی، نجد أن العروس الشابة هي من تشجع زوجها على التخلص من الخوف والجبن، في هذا الفيلم نجد بالبداية الزوجة بفستان الفرح وفي أجمل مظهر ولقطات متوسطة قريبة لوجهها، وفي أفلام داريوش مهرجوئي مثل فيلم ليلى (1996) نجد البطلة أحد المكونات المهمة والعميقة في المسار الفيلمي بحيث تتضح ثمة علاقات ذات حساسية مثل الحب، الطفولة، العلاقات الاجتماعية والعلاقات الزوجية، “ليلى” جزء من سلسلة من الصور التي اشتغل فيها داريوش مهرجوي على الشخصيات المعقدة التي تكافح مع قضايا الحياة الحديثة في إيران، بين الحفاظ على الفردية والاعتماد على المجتمع، وأسئلة عن الخضوع للنظام القائم والتحرر، وبدأت تظهر أفلام بأسماء نساء وتكون صور الممثلات على بوسترات الأفلام.
في فيلم أشجار الزيتون 1994 للمخرج عباس كياروستامي نجد الشاب حسين الذي يقع في حب طاهره لكنها ترفضه وهي أعلى تعليماً منه.
وفي أفلام التسعينات نرى تطورات مهمة بحيث أصبحت المرأة مرئية بشكل واضح، ويمكن أن تظل في مستوى النظر وتُحسّ بها الكاميرا وبمقدور الشخصية أن تضحك مع رجال أو تغني، وهنالك أفلام لمخرجات تفرغن لتناول قضية حقوق المرأة، أمثال رخشان بني اعتماد وفيلمها نرجس (1991) من الأفلام المهمة جداً وكذلك فيلم الوشاح الأزرق، وكذلك أفلام تهمينة ميلاني، التي تبنت المشاكل النسوية مثل فيلم أولاد الطلاق 1989 وفيلم امرأتان 1999، نجد في أفلامها تفكيراً وأسئلة بصوت عالي عن مشاكل المرأة وما يحيط به من قسوة ذكورية، كما أن بوران درخشندة وأحدة من المخرجات المهمات بعدة أفلام وثائقية وروائية تنتصر فيها لبنات وطنها، ويمكن مشاهد فيلم سجن النساء (2000) لمخرجته منية حكمت، حيث لأول مرة تظهر امرأة بدون غطاء الرأس لكنها حليقة الشعر، كل هذا لا يعني أن الانفرجات تتوسع، فالكثير من المخرجين والمخرجات تصادموا مع الرقيب ومنعت مشاريع كثيرة وتم محاكمة البعض.
تحول الكثير من المخرجين والمخرجات في إيران إلى خلق دهشة شعرية بديعة وببطولة نساء، في أفلام أصغر فرهادي مثلاً ومن بداية فيلمه الأربعاء الأخير إلى فيلمه الأخير البطل، مروراً بخصوص إيلي، 2009، يستثمر فرهادي ليبعث برسائل مشفرة إلى النظام الإيراني والأنظمة المشابهه، فهنا نجده يقول بوسع النساء فعل أشياء كثيرة والمساهمة بالتنمية والادارة والحكم، هنا بالفيلم نرى أن النساء قد حولن ذلك البيت إلى مكانٍ رائع وكانت تعمه الفوضى وظهر لنا بالبداية موحشاً، بلمسات سريعة أصبح يضج بالحياة والدفء، أي أن تعطيل دور المرأة وجعلها محكومة من الدرجة الثانية وتقييد مواهبها وقدراتها يضرُ بتنمية مجتمعاتنا.
في هذا الفيلم نرى شخصيات نسائية، نراها تشارك في الغناء والتصفيق لرقصات الرجال، ثم نراها تركض وقد ينكشف جزء من رأسها، إيلي والذي سمي الفيلم بأسمها ماتت غرقاً ربما لتنقذ طفلاً وبعد أن وجدوها وتعرف عليها خطيبها، تركها في ثلاجة الموتى وتخلى عنها لأنه يرى أنها مذنبة، مصيرها الفضيحة والنبذ ميتة ولو أنها عاشت كانت ستلاقي نفس المصير أي ستظل منبوذة كونها حاولت مفارقة خطيبها وقبلت التعرف على شخص آخر، فكرت في نفسها وسعاداتها وحاولت وبدعم من صديقتها زبيد كسر بعض التابوهات، لم يكتفي فرهادي بالمواضيع الأجتماعية الجرئية بل ذهب أبعد من ذلك بطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية والوجودية الحقيقية والعميقة المعقدة، كما يُعتبر فيلمه (البائع) تحفة شعرية متخمة بالدلالات حيث التركيز على تعقيدات العلاقات الإنسانية، من خلال ما نشاهده من نكسات مدمرة يواجهها عماد ورنا، أصغر فرهادي، يتميز كمخرج قادر على التقاط تناقضات المشاعر والإزدواجية لدى أبطاله وبطلاته، رنا في فيلم البائع هي ضحية معتدي، تعرض لها وهي تستحم في بيتها وظنته بالبداية زوجها ثم صرخت واغمي عليها ولم يصور لنا المخرج هذا المشهد ولم نسمع القصة بكل تفاصيلها وسبب لها الحادث جروحاً نفسية قاسية وبعد أن يكتشف زوجها الجاني وهو شخص كبير بالسن ومريض بالقلب ولم يعتدي عليها جنسياً ورغم بشاعة خطيئته، فإن رنا تعفو عنه وتطلب من زوجها ألا يفضحه أمام عائلته ولكن الزوج تمادى في الانتقام وأدى هذا إلى موت ذلك الرجل الخمسيني.
في فيلم “هذهِ المرأة تريد حقها” للمخرج محسن توكلي والذي نجح في رسم شخصيات استثنائية والزج بها للدرك الأسفل من الألم، أغلب شخصياته نساء، أربع نساء معذبات يجتمعن في فيلم توكلي ولدى كل واحدة مخاوفها، فرزانة أكثرهن حرقة بعدما أصبح وجهها بشعاً وفقدت عائلتها وخرجت من حياتهم للتفرغ لساعة القصاص من ذلك الشخص الذي شوه وجهها وحياتها، نعيش محنة فرزانة النفسية والجسدية والاجتماعية، لم يقدم المخرج القصة بشكل متسلسل ولم نقع في مواجهة مع هذا الألم إلا حينما رأينا جانباً من وجه فرزانة وتتصاعد الأحداث بشكل درامي لتزج بنا في قلب هذه التراجيديا.
تؤكد أغلب الأفلام الإيرانية على قوة المرأة وتركز على قضايا شائكة وقد يكون لهن البطولة المطلقة ولا تخضع معادلة الإنتاج على تقاسم البطولة سويا ولا نجد شروطا للنجوم بفرض مساحات طويله في مسار الفيلم حيث حدثت تحولات مهمة في العشرين السنة الأخيرة بوصول عشرات الأفلام إلى أرقى وأشهر المهرجانات الدولية وحصولها على عشرات الجوائز الدولية، رغم أن مخرجي ومخرجات الأفلام لا يمارسون فعل جلد الذات ولا يغرون المشاهد بقصص وخيالات جنسية ولا خرافية أو رعب هم يقدمون بأساليب شعرية سينما تمنح القداسة للإنسان والحياة والحب وأصبحت المرأة من هذه القداسات وليس جسداً مثيراً لجذب الانتباه والفرجة.
الخلاصة
حدثت تحولات مهمة جداً في تناول قضايا المرأة وكسر التابوهات وهنالك أفلام تناقش قضايا كانت محرمة ونجحت العديد من الأفلام في التلاعب مع الرقيب كونها تبتعد عن المباشرة والصدامات وتستخدم اللغة السينمائية بما فيها من بلاغة وسحر وشعرية بليغة.
عشرات الأفلام الإيرانية نجحت ووصلت لمهرجانات دولية عالمية ورغم أنها انتجت بميزانيات ضعيفة وظروف انتاجية بالغة الصعوبة، إلا أن التمييز لم يكن بجلد الذات والكثير من هذه الأفلام لا ينحصر تعبيرها على المجتمع الإيراني بل نشعر أنها تعبر أيضاً وتناقش قضايا شرقية، وربما يمكننا القول أنها إنسانية ولا تذهب للمحلية المحضة.
يزداد إعجاب النقاد والجمهور والباحثين بهذه الأفلام ونتجت مئات البحوث والدراسات في أوروبا عن السينما الإيرانية، ويتزايد الجمهور المحب والمتابع لكل جديد ولا يقتصر تواجد الأفلام في المهرجانات، ففي أوروبا مئات الصالات ترحب بهذه الأفلام وتعيد بث حتى الأفلام التي قد نعتبرها قديمة، وهنالك أسماء مخرجين أصبحوا مرجعاً وملهماً للكثير من التجارب ونضرب مثلاً العبقري الشاعر عباس كيارستمي والذي نجد عنه عشرات المراجع والدراسات والبحوث الجامعية.
هنالك الكثير من الدروس المهمة في مجالات الكتابة السينمائية والإخراج والتي يمكننا أن نستفيد منها وهذه الحركة السينمائية في تطور مستمر رغم كل الصعوبات الإنتاجية وسطوة الرقيب والمثير أن أغلب المخرجين والمخرجات يصرون ويصورون أفلامهم داخل إيران وباللغة الفارسية، ويعتزون بثقافتهم وحضارتهم ويستخدمون السينما كأداة للمقاومة والتغيير، ويمتلكون قدرات إبداعية مذهلة في خلق شعرية بديعة وإنسانية مرهفة وحساسة ولا تغرهم الجوائز ولا مغريات الدعم المشروط من مؤسسات تهدف لتشويه ومسخ كل ما هو روحاني وشرقي وإنساني.
وأغلب الأفلام الإيرانية المتميزة تغوص في الواقع الإنساني وليس مجرد تصوير سطح الواقع الهش ونجد فيها خطابات روحية ميتافيزيقية وإنسانية بالدرجة الأولى وهذه الأفلام لا تندثر ولا يذهب بريقها بالتقادم الزمني وأصبح بعضها ضمن الإرث الفني والثقافي الإنساني ومادة للدراسة والبحت والنقد، جسد المرأة لا يعني تصوير اللحم الأبيض ولا السفور والتعري الرخيص ومشاهد الجنس المبتذلة، وهناك مئات الأفلام تنتج عالمياً وحتى عربياً تصور كل هذا وتجد دعماً إعلامياً وقبلها انتاجياً وقد تفوز ببعض الجوائز لكنها سرعان ما يخفت نجمها وتندثر سريعاً.
** كاتب ومخرج سينمائي يمني ـ مقيم في فرنسا
ـ حميد عقبي
المتأمل للسينما الإيرانية يجد أنه منذ نهاية الثمانينات بدأت مرحلة عودة وتطور ظهور الشخصيات النسائية وأن تأخذ مكانها في السيناريو والتدرج إلى البطولة بعد أن عايشت محاذير كثيرة وبقيت في الظل خلال السنوات الأولى للثورة الخمينية.
في سينما عهد ما قبل هذه الثورة شغلت النساء ثلاثة أدوار رئيسية على الشاشة : دور الأم التقليدية، والزوجة المنقذة، والمرأة المغرية الخطيرة، وهذا النوع الأخير تم رفضه من النظام الإسلامي وسنت قوانين تجرمه لهدف محوه فلا يمكن أن يقبل أي عمل تظهر فيه امرأة عاهرة أو راقصة بل أن اللقطة القريبة لوجه امرأة تصبح مرفوضة في حال وجود إيحاء مغري، وكذلك وجهة نظر الرجال لجسد المرأة ووجهها يظل مرفوضاً من الرقابة، كما يتم تحريم أي تلامس جسدي بين الرجال والنساء مهما تكن الأسباب.
الأفلام الفارسية
منذ ظهور السينما في إيران مرت بعدة مراحل وكانت الأفلام الفارسية بالبداية تكتفي بتصوير الواقع الطبقي للمرأة ووجود الرجل الذي يحميها، وظهرت أفلام في الستينات تصور شخصيات نسائية بملابس الموضة وطريقة حياتهن لكن تظل القوة للرجل، ثم تطور ظهور المرأة وتصوير الجسد دون أي موانع وكانت بطلات الأفلام راقصات وبائعات المتعة وظل الرجل الحامي والمدافع عنها، وسميت هذه الموجة بالأفلام الشعبية وهي أفلام مسلية وفيها أغاني ورقصات ومطاردات ولم تكن السينما تحظى بأي دعم رسمي ولا توجيه، ومع ذلك انتعش الإنتاج وبنيت دور العرض السينمائي في أغلب المدن الكبرى.
ومع قيام الثورة تم فرض معايير إسلامية صارمة في مجمل الحياة الاجتماعية واستحداث نظام أخلاقي جديد في كل المظاهر والسلوكيات الحسية للمرأة حيث منع التبرج، بهذا استحدث نظام رقابة متشدد على السينما وجميع الفنون بحيث يمنع الفساد بحسب وجهة نظر النظام الجديد، وهكذا أصبح وجود امرأة بأي فيلم خاضع للقانون الجديد وتم منع أغلب الفنانين والفنانات الذين لهم أعمال سابقة جريئة وأضطر أغلبهم للفرار أو التقاعد، وأصبحت الشخصيات الأنثوية إما غائبة أو مصورة بشكل مهمش، خاصة في الأفلام الاجتماعية الأولى للجمهورية الإسلامية.
أفلام الحرب
في غالبية أفلام الثمانينات وخلال الحرب الإيرانية العراقية ظهرت الكثير من الأفلام التعبوية التي تحض على الحرب والجهاد وتقدس الشهادة، وأغلب هذه الأفلام بطولتها من الرجال وقد تظهر شخصية الأم الصابرة أو المشجعة للجهاد والشهادة، وهذه النوعية من الأفلام كانت تبتعد عن مشاكل المرأة وتركز فقط في تصوير الشباب وخلق الإيمان بالحرب المقدسة، وفي الأفلام الاجتماعية والكوميدية سنجد تصوير المرأة كزوجة مطيعة أي تطبخ الطعام وتقدم الشاي وهي بغطاء الشعر، وإذا خرجت تلف على جسدها العباية وتخفي معظم وجهها ولا يمكن أن يسمح بأي دلالة جنسية مهما كانت صغيرة أو عفوية، نظرة الكاميرا للمرأة كانت حذرة جداً وبلقطات بعيدة أو متوسطة ولا تجوز أي ملمسات جسدية ولم تكن مواضيع الحب والعشق والغراميات حتى لو كانت بريئة وعاطفية مطروحه لأنها قد تتسبب في رفض السيناريو وإن تم حدوث أي تجاوزات بسيطة فالفيلم يمنع من العرض.
في الأفلام الحربية ظهرت النساء بشكل مثالي في أدوار ممرضات وزوجات وأمهات المحاربين والشهداء، في لحظات الوداع قبل الذهاب للجبهات نجد في هذه المشاهد مسافة تمنع الملامسة، حتى حينما يودع زوج زوجته أو أم ولدها وتظل الملامسة محرمة حتى في مشاهد يكون الأبن أو الزوج جثة، فمن المستحيل السماح بأي تلامس جسدي وحتى الملامسات والتواصل الجسدي بين النساء يظل بحذر شديد وأغلب الأفلام تتحاشاه بحيث لا يفهم بشكل خاطئ.
الموجة الجديدة
ظل الوضع معقداً إلى منتصف التسعينات وظهور موجة سينمائية جديدة بدأت تطرح بشجاعة مواضيع جريئة وتعطي للنساء مساحة أكبر وأكثر عمقاً وحضوراً، مع الحذر في تصوير الجسد الأنثوي وبدأت عدة أساليب للتحايل ومرواغة الرقيب، كما أن السينما الإيرانية أصبح لها حضورها الجيد في المهرجانات الدولية وخاصة الأوروبية وكسبت السينما الإيرانية إعجاب الجمهور داخل وخارج إيران ومع كل تجربة جريئة تزداد شهرتها وتألقها العالمي.
بدأت عجلة التجارب لمخرجين ومخرجات بحيث يصبح للمرأة دوراً إيجابياً فاعلاً، في فيلم عروس (1990) للمخرج بهروز افخمی، نجد أن العروس الشابة هي من تشجع زوجها على التخلص من الخوف والجبن، في هذا الفيلم نجد بالبداية الزوجة بفستان الفرح وفي أجمل مظهر ولقطات متوسطة قريبة لوجهها، وفي أفلام داريوش مهرجوئي مثل فيلم ليلى (1996) نجد البطلة أحد المكونات المهمة والعميقة في المسار الفيلمي بحيث تتضح ثمة علاقات ذات حساسية مثل الحب، الطفولة، العلاقات الاجتماعية والعلاقات الزوجية، “ليلى” جزء من سلسلة من الصور التي اشتغل فيها داريوش مهرجوي على الشخصيات المعقدة التي تكافح مع قضايا الحياة الحديثة في إيران، بين الحفاظ على الفردية والاعتماد على المجتمع، وأسئلة عن الخضوع للنظام القائم والتحرر، وبدأت تظهر أفلام بأسماء نساء وتكون صور الممثلات على بوسترات الأفلام.
في فيلم أشجار الزيتون 1994 للمخرج عباس كياروستامي نجد الشاب حسين الذي يقع في حب طاهره لكنها ترفضه وهي أعلى تعليماً منه.
وفي أفلام التسعينات نرى تطورات مهمة بحيث أصبحت المرأة مرئية بشكل واضح، ويمكن أن تظل في مستوى النظر وتُحسّ بها الكاميرا وبمقدور الشخصية أن تضحك مع رجال أو تغني، وهنالك أفلام لمخرجات تفرغن لتناول قضية حقوق المرأة، أمثال رخشان بني اعتماد وفيلمها نرجس (1991) من الأفلام المهمة جداً وكذلك فيلم الوشاح الأزرق، وكذلك أفلام تهمينة ميلاني، التي تبنت المشاكل النسوية مثل فيلم أولاد الطلاق 1989 وفيلم امرأتان 1999، نجد في أفلامها تفكيراً وأسئلة بصوت عالي عن مشاكل المرأة وما يحيط به من قسوة ذكورية، كما أن بوران درخشندة وأحدة من المخرجات المهمات بعدة أفلام وثائقية وروائية تنتصر فيها لبنات وطنها، ويمكن مشاهد فيلم سجن النساء (2000) لمخرجته منية حكمت، حيث لأول مرة تظهر امرأة بدون غطاء الرأس لكنها حليقة الشعر، كل هذا لا يعني أن الانفرجات تتوسع، فالكثير من المخرجين والمخرجات تصادموا مع الرقيب ومنعت مشاريع كثيرة وتم محاكمة البعض.
تحول الكثير من المخرجين والمخرجات في إيران إلى خلق دهشة شعرية بديعة وببطولة نساء، في أفلام أصغر فرهادي مثلاً ومن بداية فيلمه الأربعاء الأخير إلى فيلمه الأخير البطل، مروراً بخصوص إيلي، 2009، يستثمر فرهادي ليبعث برسائل مشفرة إلى النظام الإيراني والأنظمة المشابهه، فهنا نجده يقول بوسع النساء فعل أشياء كثيرة والمساهمة بالتنمية والادارة والحكم، هنا بالفيلم نرى أن النساء قد حولن ذلك البيت إلى مكانٍ رائع وكانت تعمه الفوضى وظهر لنا بالبداية موحشاً، بلمسات سريعة أصبح يضج بالحياة والدفء، أي أن تعطيل دور المرأة وجعلها محكومة من الدرجة الثانية وتقييد مواهبها وقدراتها يضرُ بتنمية مجتمعاتنا.
في هذا الفيلم نرى شخصيات نسائية، نراها تشارك في الغناء والتصفيق لرقصات الرجال، ثم نراها تركض وقد ينكشف جزء من رأسها، إيلي والذي سمي الفيلم بأسمها ماتت غرقاً ربما لتنقذ طفلاً وبعد أن وجدوها وتعرف عليها خطيبها، تركها في ثلاجة الموتى وتخلى عنها لأنه يرى أنها مذنبة، مصيرها الفضيحة والنبذ ميتة ولو أنها عاشت كانت ستلاقي نفس المصير أي ستظل منبوذة كونها حاولت مفارقة خطيبها وقبلت التعرف على شخص آخر، فكرت في نفسها وسعاداتها وحاولت وبدعم من صديقتها زبيد كسر بعض التابوهات، لم يكتفي فرهادي بالمواضيع الأجتماعية الجرئية بل ذهب أبعد من ذلك بطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية والوجودية الحقيقية والعميقة المعقدة، كما يُعتبر فيلمه (البائع) تحفة شعرية متخمة بالدلالات حيث التركيز على تعقيدات العلاقات الإنسانية، من خلال ما نشاهده من نكسات مدمرة يواجهها عماد ورنا، أصغر فرهادي، يتميز كمخرج قادر على التقاط تناقضات المشاعر والإزدواجية لدى أبطاله وبطلاته، رنا في فيلم البائع هي ضحية معتدي، تعرض لها وهي تستحم في بيتها وظنته بالبداية زوجها ثم صرخت واغمي عليها ولم يصور لنا المخرج هذا المشهد ولم نسمع القصة بكل تفاصيلها وسبب لها الحادث جروحاً نفسية قاسية وبعد أن يكتشف زوجها الجاني وهو شخص كبير بالسن ومريض بالقلب ولم يعتدي عليها جنسياً ورغم بشاعة خطيئته، فإن رنا تعفو عنه وتطلب من زوجها ألا يفضحه أمام عائلته ولكن الزوج تمادى في الانتقام وأدى هذا إلى موت ذلك الرجل الخمسيني.
في فيلم “هذهِ المرأة تريد حقها” للمخرج محسن توكلي والذي نجح في رسم شخصيات استثنائية والزج بها للدرك الأسفل من الألم، أغلب شخصياته نساء، أربع نساء معذبات يجتمعن في فيلم توكلي ولدى كل واحدة مخاوفها، فرزانة أكثرهن حرقة بعدما أصبح وجهها بشعاً وفقدت عائلتها وخرجت من حياتهم للتفرغ لساعة القصاص من ذلك الشخص الذي شوه وجهها وحياتها، نعيش محنة فرزانة النفسية والجسدية والاجتماعية، لم يقدم المخرج القصة بشكل متسلسل ولم نقع في مواجهة مع هذا الألم إلا حينما رأينا جانباً من وجه فرزانة وتتصاعد الأحداث بشكل درامي لتزج بنا في قلب هذه التراجيديا.
تؤكد أغلب الأفلام الإيرانية على قوة المرأة وتركز على قضايا شائكة وقد يكون لهن البطولة المطلقة ولا تخضع معادلة الإنتاج على تقاسم البطولة سويا ولا نجد شروطا للنجوم بفرض مساحات طويله في مسار الفيلم حيث حدثت تحولات مهمة في العشرين السنة الأخيرة بوصول عشرات الأفلام إلى أرقى وأشهر المهرجانات الدولية وحصولها على عشرات الجوائز الدولية، رغم أن مخرجي ومخرجات الأفلام لا يمارسون فعل جلد الذات ولا يغرون المشاهد بقصص وخيالات جنسية ولا خرافية أو رعب هم يقدمون بأساليب شعرية سينما تمنح القداسة للإنسان والحياة والحب وأصبحت المرأة من هذه القداسات وليس جسداً مثيراً لجذب الانتباه والفرجة.
الخلاصة
حدثت تحولات مهمة جداً في تناول قضايا المرأة وكسر التابوهات وهنالك أفلام تناقش قضايا كانت محرمة ونجحت العديد من الأفلام في التلاعب مع الرقيب كونها تبتعد عن المباشرة والصدامات وتستخدم اللغة السينمائية بما فيها من بلاغة وسحر وشعرية بليغة.
عشرات الأفلام الإيرانية نجحت ووصلت لمهرجانات دولية عالمية ورغم أنها انتجت بميزانيات ضعيفة وظروف انتاجية بالغة الصعوبة، إلا أن التمييز لم يكن بجلد الذات والكثير من هذه الأفلام لا ينحصر تعبيرها على المجتمع الإيراني بل نشعر أنها تعبر أيضاً وتناقش قضايا شرقية، وربما يمكننا القول أنها إنسانية ولا تذهب للمحلية المحضة.
يزداد إعجاب النقاد والجمهور والباحثين بهذه الأفلام ونتجت مئات البحوث والدراسات في أوروبا عن السينما الإيرانية، ويتزايد الجمهور المحب والمتابع لكل جديد ولا يقتصر تواجد الأفلام في المهرجانات، ففي أوروبا مئات الصالات ترحب بهذه الأفلام وتعيد بث حتى الأفلام التي قد نعتبرها قديمة، وهنالك أسماء مخرجين أصبحوا مرجعاً وملهماً للكثير من التجارب ونضرب مثلاً العبقري الشاعر عباس كيارستمي والذي نجد عنه عشرات المراجع والدراسات والبحوث الجامعية.
هنالك الكثير من الدروس المهمة في مجالات الكتابة السينمائية والإخراج والتي يمكننا أن نستفيد منها وهذه الحركة السينمائية في تطور مستمر رغم كل الصعوبات الإنتاجية وسطوة الرقيب والمثير أن أغلب المخرجين والمخرجات يصرون ويصورون أفلامهم داخل إيران وباللغة الفارسية، ويعتزون بثقافتهم وحضارتهم ويستخدمون السينما كأداة للمقاومة والتغيير، ويمتلكون قدرات إبداعية مذهلة في خلق شعرية بديعة وإنسانية مرهفة وحساسة ولا تغرهم الجوائز ولا مغريات الدعم المشروط من مؤسسات تهدف لتشويه ومسخ كل ما هو روحاني وشرقي وإنساني.
وأغلب الأفلام الإيرانية المتميزة تغوص في الواقع الإنساني وليس مجرد تصوير سطح الواقع الهش ونجد فيها خطابات روحية ميتافيزيقية وإنسانية بالدرجة الأولى وهذه الأفلام لا تندثر ولا يذهب بريقها بالتقادم الزمني وأصبح بعضها ضمن الإرث الفني والثقافي الإنساني ومادة للدراسة والبحت والنقد، جسد المرأة لا يعني تصوير اللحم الأبيض ولا السفور والتعري الرخيص ومشاهد الجنس المبتذلة، وهناك مئات الأفلام تنتج عالمياً وحتى عربياً تصور كل هذا وتجد دعماً إعلامياً وقبلها انتاجياً وقد تفوز ببعض الجوائز لكنها سرعان ما يخفت نجمها وتندثر سريعاً.
** كاتب ومخرج سينمائي يمني ـ مقيم في فرنسا