قراءة في كتاب «داوود عبد السيد : سينما الهموم الشخصية»
«سينماتوغراف» : إسلام العزازي
تشغلُ أفلام المُخرج المصري داوود عبد السيد (1946)، حيّزاً كبيراً من جودة المُنتج الفيلمي المصري. ورغم أن أفلامه التي تنتمي ضمن جيل الواقعية الجديدة، ما زالت تُمثّل مرجعاً قوياً لتجارب سينمائية مصرية مُعاصرة، فإنها لم تحظَ بكتابات ومُراجعات ومُساءلات كافية. للمفارقة، جاءت المُحاولة الأكثر جودةً، ضمن ما كُتب عن داوود عبد السيد حتى الآن، في الكتاب الصادر حديثاً عن «دار المرايا» بعنوان «داوود عبد السيد: سينما الهموم الشخصية» للكاتب والشاعر المصري علاء خالد، الذي ينتمي إلى جيل التسعينيات المُشابه على مُستويات عدة. ففي مقدّمة الكتاب، يربط علاء خالد بين مُكوّنات هُمومه السياسية والمجتمعية، وحتى التساؤلات الشخصية، وبين الحيثيات المُشتركة لأفلام جيل الواقعية الجديدة.
يعتمدُ علاء خالد في قراءته لأفلام داوود عبد السيد على «الحُمولة الشخصية» التي تعني الانطلاق من الداخل، الذاتي والشخصي، إلى الخارج، المُرتبط بالبُعد التأويلي للأفلام. تشملُ قراءة علاء خالد لأفلام عبد السيد، حضور ذاتين: الأولى تقرأ السياق الداخلي، والتأثّر الانطباعي بالفيلم، بينما الذات الثانية، تنتبه إلى العام، الذي يجعلُ من قراءة الفيلم، قراءةً لحيوات عدة على المُستوى الشخصي والعام.
في مُفتتح كتابه المُقسّم إلى جُزء معنيّ بتناول أفلام داوود عبد السيد على أساس عدّة ركائز مُشتركة، وجُزء آخر معنيّ بحوار طويل مع المُخرج وحوارين آخرين مع أنسي أبو سيف مُهندس ديكور جميع أفلام داوود عبد السيد، وراجح داوود مؤلّف موسيقاها، يضع علاء خالد مفهوماً مُفتتحياً لقراءة الأفلام قراءةً ثنائيةً. فالحُمولة الفكرية، تتكوّن من تجربة ذاتية، مُركّبة، ومُفعمة بالتواطؤ والتورط مع الشخصيات في الفيلم، إضافة إلى تجربة غيرية، تستلزمُ النظر إلى المادة الفيلمية بتعددية في الذات الناظرة، مع ضرورة الضبط المرجعي كقطب أساسي.
خلال هذا التوجّه في الكتابة، يجمع علاء خالد أشخاص داوود معاً، في إطار الانطلاق من الهامش، ففيلم «الصعاليك» (1985) يُقدّم المدينة في إطار تغيّر مادي وطبقي، يُتيح لصعلوكين في الميناء، أن يطمحا في الارتقاء، وحين يُحققانه، يُفاجآن بأنّ هذا المسار كان مُتجهاً إلى الوقوع في الهاوية.
على اختلاف مآلات الحكي، يجمع علاء خالد شخصيات الأفلام مؤطّرة بالاستثناء الذي يخرج عن شخصيات عادية ومُتواجدة بيننا في الشارع. فالتحوّلات الحكائية لكل فيلم، لا تمر على فُقراء فقط، أو منبوذين، أو حتّى مُتطلعي إلى التمرّد والحُلم. الاستثناء هنا لأشخاص عاديين، يعيشون في فلك مُجتمعي يشملُ كلّ فيلم، على اختلاف زمنه وظرفه الدرامي والوجودي، ولكلّ حكاية نموذجها الطموح في التجاوز، ليس تجاوز «الأزمة» بمعناها الظاهري فقط، وإنما تجاوز أزمة رُوحية، جوّانية، لها صدى يُحقق تصوّراً فردانياً للحكاية.
في كتاب «كيف تختفي؟»، يُقسّم الكاتب والروائي هيثم الورداني الداخل والخارج عند الطبقة الوُسطى، إلى حيّز آمن للأول، بينما الثاني هو مساحة واسعة، عشوائية، تُعربد بها قوى غاشمة تُهدّد «كود» النسخ الطبقي للفئة الوُسطى. تتجلى الصعلكة، مثل مُقاومة، رغبة مرويّة تُحقق الانفصال الأولي عن الجماعة، وذلك هو شرط الخروج «الأخلاقي» عن الحيّز الطبقي، أن تمتلك الشخصيات أزمات، بعضها عائد إلى أساس تاريخي وسياسي مثل «الصعاليك»، وآخر عائد إلى ملمح جوّاني وحالم مثل «الكيت كات» (1991)، وجميع الأفلام لها حكايات بنفس المسار العُمومي، البدء من عثرة، نفسية أو مادية، والانطلاق نحو تحقيق ما يُسمّيه علاء خالد، ببعده الديني، الخلاص والبعث.
خلال ندوة إطلاق الكتاب في «جمعية الجيزويت» في القاهرة، سُئل داوود عبد السيد عن رأيه بكتابة علاء خالد عن أفلامه. أجاب مخرج «البحث عن سيد مرزوق» بأنّه لم يعمل على الحُكم على كتابة مماثلة عنه، بل حاول اكتشافها، واكتشاف نفسه كفنّان من خلالها. ربما تكون هذه هي الوساطة المُعتادة لأن يعمل صاحب «الكيت كات» على فيلم جديد. فرغم إعلانه اعتزال العمل كمخرج، يظل مُتمسكاً بإعادة إنتاج سينماه، خلال حوار مُطوّل مع علاء خالد، شغل حيّزاً قوياً من الكتاب، لأنّه لم يكن حِواراً دارجاً، آمناً، بل حفل بالصدام في الرأي، والاختلاف، ومُواجهة كل منهما الآخر بأفكاره وأسئلته، فانطباعات داوود عبد السيد عن قراءة علاء خالد لأفلامه، هي عُرضة للأسئلة، وبالكيفية نفسها يُقدم علاء خالد الأفكار المركزية التي كانت في الجُزء الأول والنقدي من الكتاب، فتمثيلات الخلاص المسيحي، وفردانية المشوار في الفيلم، والصعلكة والرمز المديني، وغيرها، وُضعت بين داوود وعلاء في مساحة شائكة، بحيث يُمكن للفكرة أن تُقدّم، ثم تتغير وتُحمّل بمزيد من التركيب في الجزء الحواري، ولا تكتمل إلا بالحضور المُتفاعل من قِبل القارئ.
في الجُزء الأخير من حوارات الكتاب، طعّم علاء خالد مُحتواه بنظرة أكثر سعة، من خلال حواري أُنسي أبو سيف وراجح داوود، إذ تبيّن من الحديث مع الأول، أن المكان، مُمثّل مركزي لخلق «الحالة الفيلمية» لدى داوود. وبالتالي فإن عمل أنسي يشملُ إبداعية خلق بُعد جوّاني لظاهر الموجود، كي يتبين ما وراء معناه.
يدفعنا كتاب علاء خالد، إلى النظر إلى جيل الواقعية الجديدة، وربما إلى إرث السينما المصرية الفنّي إجمالاً، نظرةً مُتعددة، تبحثُ عن المدلولات المرتبطة بالواقع السياسي، ولا تجهِّلُ الفرد، العادي، بما تطويه سيرته من كشف وتجاوز وبعث وفردانية وقُدرة على الحلم.
«سينماتوغراف» : إسلام العزازي
تشغلُ أفلام المُخرج المصري داوود عبد السيد (1946)، حيّزاً كبيراً من جودة المُنتج الفيلمي المصري. ورغم أن أفلامه التي تنتمي ضمن جيل الواقعية الجديدة، ما زالت تُمثّل مرجعاً قوياً لتجارب سينمائية مصرية مُعاصرة، فإنها لم تحظَ بكتابات ومُراجعات ومُساءلات كافية. للمفارقة، جاءت المُحاولة الأكثر جودةً، ضمن ما كُتب عن داوود عبد السيد حتى الآن، في الكتاب الصادر حديثاً عن «دار المرايا» بعنوان «داوود عبد السيد: سينما الهموم الشخصية» للكاتب والشاعر المصري علاء خالد، الذي ينتمي إلى جيل التسعينيات المُشابه على مُستويات عدة. ففي مقدّمة الكتاب، يربط علاء خالد بين مُكوّنات هُمومه السياسية والمجتمعية، وحتى التساؤلات الشخصية، وبين الحيثيات المُشتركة لأفلام جيل الواقعية الجديدة.
يعتمدُ علاء خالد في قراءته لأفلام داوود عبد السيد على «الحُمولة الشخصية» التي تعني الانطلاق من الداخل، الذاتي والشخصي، إلى الخارج، المُرتبط بالبُعد التأويلي للأفلام. تشملُ قراءة علاء خالد لأفلام عبد السيد، حضور ذاتين: الأولى تقرأ السياق الداخلي، والتأثّر الانطباعي بالفيلم، بينما الذات الثانية، تنتبه إلى العام، الذي يجعلُ من قراءة الفيلم، قراءةً لحيوات عدة على المُستوى الشخصي والعام.
في مُفتتح كتابه المُقسّم إلى جُزء معنيّ بتناول أفلام داوود عبد السيد على أساس عدّة ركائز مُشتركة، وجُزء آخر معنيّ بحوار طويل مع المُخرج وحوارين آخرين مع أنسي أبو سيف مُهندس ديكور جميع أفلام داوود عبد السيد، وراجح داوود مؤلّف موسيقاها، يضع علاء خالد مفهوماً مُفتتحياً لقراءة الأفلام قراءةً ثنائيةً. فالحُمولة الفكرية، تتكوّن من تجربة ذاتية، مُركّبة، ومُفعمة بالتواطؤ والتورط مع الشخصيات في الفيلم، إضافة إلى تجربة غيرية، تستلزمُ النظر إلى المادة الفيلمية بتعددية في الذات الناظرة، مع ضرورة الضبط المرجعي كقطب أساسي.
خلال هذا التوجّه في الكتابة، يجمع علاء خالد أشخاص داوود معاً، في إطار الانطلاق من الهامش، ففيلم «الصعاليك» (1985) يُقدّم المدينة في إطار تغيّر مادي وطبقي، يُتيح لصعلوكين في الميناء، أن يطمحا في الارتقاء، وحين يُحققانه، يُفاجآن بأنّ هذا المسار كان مُتجهاً إلى الوقوع في الهاوية.
على اختلاف مآلات الحكي، يجمع علاء خالد شخصيات الأفلام مؤطّرة بالاستثناء الذي يخرج عن شخصيات عادية ومُتواجدة بيننا في الشارع. فالتحوّلات الحكائية لكل فيلم، لا تمر على فُقراء فقط، أو منبوذين، أو حتّى مُتطلعي إلى التمرّد والحُلم. الاستثناء هنا لأشخاص عاديين، يعيشون في فلك مُجتمعي يشملُ كلّ فيلم، على اختلاف زمنه وظرفه الدرامي والوجودي، ولكلّ حكاية نموذجها الطموح في التجاوز، ليس تجاوز «الأزمة» بمعناها الظاهري فقط، وإنما تجاوز أزمة رُوحية، جوّانية، لها صدى يُحقق تصوّراً فردانياً للحكاية.
في كتاب «كيف تختفي؟»، يُقسّم الكاتب والروائي هيثم الورداني الداخل والخارج عند الطبقة الوُسطى، إلى حيّز آمن للأول، بينما الثاني هو مساحة واسعة، عشوائية، تُعربد بها قوى غاشمة تُهدّد «كود» النسخ الطبقي للفئة الوُسطى. تتجلى الصعلكة، مثل مُقاومة، رغبة مرويّة تُحقق الانفصال الأولي عن الجماعة، وذلك هو شرط الخروج «الأخلاقي» عن الحيّز الطبقي، أن تمتلك الشخصيات أزمات، بعضها عائد إلى أساس تاريخي وسياسي مثل «الصعاليك»، وآخر عائد إلى ملمح جوّاني وحالم مثل «الكيت كات» (1991)، وجميع الأفلام لها حكايات بنفس المسار العُمومي، البدء من عثرة، نفسية أو مادية، والانطلاق نحو تحقيق ما يُسمّيه علاء خالد، ببعده الديني، الخلاص والبعث.
خلال ندوة إطلاق الكتاب في «جمعية الجيزويت» في القاهرة، سُئل داوود عبد السيد عن رأيه بكتابة علاء خالد عن أفلامه. أجاب مخرج «البحث عن سيد مرزوق» بأنّه لم يعمل على الحُكم على كتابة مماثلة عنه، بل حاول اكتشافها، واكتشاف نفسه كفنّان من خلالها. ربما تكون هذه هي الوساطة المُعتادة لأن يعمل صاحب «الكيت كات» على فيلم جديد. فرغم إعلانه اعتزال العمل كمخرج، يظل مُتمسكاً بإعادة إنتاج سينماه، خلال حوار مُطوّل مع علاء خالد، شغل حيّزاً قوياً من الكتاب، لأنّه لم يكن حِواراً دارجاً، آمناً، بل حفل بالصدام في الرأي، والاختلاف، ومُواجهة كل منهما الآخر بأفكاره وأسئلته، فانطباعات داوود عبد السيد عن قراءة علاء خالد لأفلامه، هي عُرضة للأسئلة، وبالكيفية نفسها يُقدم علاء خالد الأفكار المركزية التي كانت في الجُزء الأول والنقدي من الكتاب، فتمثيلات الخلاص المسيحي، وفردانية المشوار في الفيلم، والصعلكة والرمز المديني، وغيرها، وُضعت بين داوود وعلاء في مساحة شائكة، بحيث يُمكن للفكرة أن تُقدّم، ثم تتغير وتُحمّل بمزيد من التركيب في الجزء الحواري، ولا تكتمل إلا بالحضور المُتفاعل من قِبل القارئ.
في الجُزء الأخير من حوارات الكتاب، طعّم علاء خالد مُحتواه بنظرة أكثر سعة، من خلال حواري أُنسي أبو سيف وراجح داوود، إذ تبيّن من الحديث مع الأول، أن المكان، مُمثّل مركزي لخلق «الحالة الفيلمية» لدى داوود. وبالتالي فإن عمل أنسي يشملُ إبداعية خلق بُعد جوّاني لظاهر الموجود، كي يتبين ما وراء معناه.
يدفعنا كتاب علاء خالد، إلى النظر إلى جيل الواقعية الجديدة، وربما إلى إرث السينما المصرية الفنّي إجمالاً، نظرةً مُتعددة، تبحثُ عن المدلولات المرتبطة بالواقع السياسي، ولا تجهِّلُ الفرد، العادي، بما تطويه سيرته من كشف وتجاوز وبعث وفردانية وقُدرة على الحلم.