عزلة «الامبراطور الأخير»
إذ كان ثمة من واجب يدعونا للتنقيب عن مغزى انتاج فيلم مكلف مثل “الامبراطور الأخير" فإن علينا أن نتأمل في أساليب المخرج الإيطالي برناردو برتولتشي، منذ فيلمه “القرن العشرين 1900” الذي أخرجه العام 1976ـ وما قبله “الممتثل” 1970 ـ حيث كرس جزءا كبيراً من شغله في البحث عن سجايا الشعوب في خصال الشخصيات الإنسانية .فيلم القرن العشرين "1900- رصد فيه جزءاً من التاريخ الإيطالي المعاصر بعيداً عن الأباطيل القومية، وقريباً من الواقع الإنساني.
ولأن الصين هي الصين التي يصعب على الأوروبي معرفتها، فقد دخل في فيلمه «الامبراطور الأخير» من بوابتها الملكية، ولكنه لم يقدر أن يخرج من بوابة الشعب، فنال أوسكار هوليود عن استحقاق وجدارة، وصنع فيلماً يليق ببرتولوتشي، ولكنه يتكيء على أمجاد ملحمته الفيلمية الرئيسية.
برناردو برتولوتشي مواليد 1940 حصد مجده في وقت مبكر، فعمره السينمائي يعود إلى مطلع الستينيات يوم عمل كمساعد للمخرج بيير باولو بازوليني في فيلم "أكاتوني". ونفّذ أول فيلم له عام 1962 بعنوان "الرفيقة" وحظي ثاني أعماله «بداية الثورة» بأول انتباه عالمي، يوم حصل على جائزة النقّاد الشباب في مهرجان كان الدولي عام 1964.
هذا الشاعر الذي هجر الشعر إلى السينما، وبقي يحتفظ منه بعينه السحرية، أخرج مجموعة من الأفلام المهمة وبينها "السماء الواقية" و"التانغو الأخير في باريس" عام 1972 أكثر أفلام السبعينيات إثارة للضجيج في العالم تشارك في بطولته مارلون براندو وماريا شنايدر التي هجرت التمثيل بعد ان أصيبت بانتكاسة نفسية بسبب تصرف مارلون براندو معها. أفزع هذا الفيلم رقابات الأفلام في العالم بمختلف تلاوينها لما يحويه من إباحية، واستهانة بالأعراف الأسرية والاجتماعية، فعمدت إلى تقطيع أجزاء كبيرة منه، ولم تجرؤ على منعه، فقد تحصّن بشهرته، وبفضول الناس وتشوقهم لرؤيته.
بعد "التانغو الأخير" بقي الناس ينتظرون خطوته التالية في الوصول إلى هوليوود، فقد كانت تناديه بأصوات منتجيها الكبار، ولكنه أدار لها ظهره، وأخرج فيلم القرن العشرين أو «1900» معززاً انتماءه إلى جيل السينما الستيني في إيطاليا الذي سعى إلى خلق سينما تقف على مبعدة من لغة هوليوود السينمائية.
انتهى من فيلم القرن العشرين 1900 عام 1977، وهو شريط يستغرق خمس ساعات، واعتبره النقاد ملحمة سينمائية هامة في تاريخ السينما المعاصرة.
الفيلم ينطلق من هوى طبقي في معالجة جزء من التاريخ الإيطالي يبتدئ مطلع هذا القرن. والصراع فيه يعتمد على المجابهات بين شخصيات تمثل في تقاطعها وتوازيها، احتدامات الطبقات في صعودها وهبوطها، وعلى تشّعب هذه الموضوعة واتساعها، فقد استطاع أنْ يدير فنياً سير حركة العلاقات الإنسانية بغناها الداخلي وتنوعها، ومركّباتها المختلفة عبر متابعة تلك الحيوات الدامية لشخوصه. لقد أرانا كم من البشاعة والدم والألم تحملّت إيطاليا لكي تعرف الفاشية على حقيقتها. وكم مُكلّفة تلك الخيبات المتكررة لتحالفات الطبقة العاملة.
كانت مقدرته الإخراجية في إدارة الفيلم ترشحه لأفضل الجوائز العالمية لو قُيض له التقدم إلى مسابقة ما، رغم حساسية موضوعاته، وميلها نحو رؤية سياسية لا تلقى قبولاً لدى بعض نقّاد الغرب والمشرفين على مسابقاته.
أراد مخرج من هذا الطراز التصدي لموضوعة أخرى من الشرق فذهب إلى الصين، وحاول نبش ماضيها القريب، ولكنها بقيت مغلقة بوجهه على ما يبدو، وبقي طموحه في كسر سورها العظيم للنفاذ إلى روح الشعب أمنية صعبة التحقق، فاعتمد على سيرة فردية لبطل لم يحكم يوماً، وعندما حاول فقد عرشه. وكان عليه، حسبما جاء في فيلمه، أن يرى التاريخ سينمائياً بزاوية محددة تبدأ وتنتهي بحياة إنسان، حتى ولو كان هذا الإنسان امبراطوراً، ومدينة معزولة، هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الواقع "المدينة المحرمة" التي ترعرع فيها الامبراطور، وكانت في عزلة كاملة عن الشعب ومجريات الأحداث العظيمة التي مرت بها الأمة الصينية وقتذاك، ولكن انشغاله بتلك السيرة لم يكن انشغالاً هوليودياً، فقد أوجد لها امتداداتها وتعميماتها الإنسانية العميقة التي تصنع من مادة الأحلام واقعاً إنسانياً، حتى ولو تصدت له شعرياً. كان برتولتشي يدور حول إنسانية امبراطوره وعذاباته اليومية للخروج من عزلة فُرضت عليه، عزلة تقف بين تاريخين، تاريخ على وشك الانتهاء، وآخر يصارع ليغليه.
ـ الرجال ليسوا رجالاً هنا.. أنهم فكرة، حلم.
هكذا تخبره داواجا الامبراطورة العجوز وهي تتوجه امبراطوراً جديداً على الصين، وهي بهذا تملي عليه مستقبلاً ينتظره خارج المعبد البوذي، ويلاحقه إلى قلب أوروبا في هزيمة روحه وهشاشتها الإنسانية.
أراد برتولوتشي في هذا الفيلم أن يقول إن بطله لم يكن بطلاً إغريقياً ممجداً، يقود جيشاً أو يصنع هزيمة أو انتصاراً، ولكنه ناضل على جبهة روحه لكي يكون إنساناً، وليس فكرة مجردة. وكان عليه أن يتملّى في التقاليد والأعراف المملة البطيئة التي تسّوره ليكتشف أيما ثغرة للنفاذ منها. وفي بحثه عن خلاصه الشخصي، وفي أحيان عن خلاص بلاده، لم يجد سوى في شخص أستاذه البريطاني معبراً للوصول إلى العالم الأرضي، بعيداً عن "المدينة المحرّمة". وهي موضوعة نظر إليها برتولوتشي من زاوية استشراقية بحتة، فالرجل الأبيض هنا هو الحضارة، والحرية الإنسانية وعادات الحياة الجميلة. ولم يغمز بطله البريطاني سوى بلقطة واحدة كان ترميزها المتكرر في أفلام ومسرحيات عديدة عاملاً من عوامل إضعافها، فهو يعتلي كرسياً مرتفعاً ليشهد هزيمة الامبراطور بأعصاب باردة بعد أن أشرف على مبارياته في لعبة التنس الأوروبية.
لم يكن دور الأوروبي الذي مثلّه بيتر أوتول هنا دوراً تنويرياً، بل كانت مقاصده ترقى إلى مستوى كشف مفاسد الطغمة التي تدير المدينة المحرمة في الخفاء. من خلال هذا الدور، الذي أراده برتولوتشي حاول أعادة ترتيب الاعتقاد عن مطامح الاستعمار الغربي التاريخية في هذه البقعة المغلقة من العالم.
الحب هو الفقدان
نقّب برتولتشي في سيرة هذا الامبراطور عن التفصيلات الإنسانية الصغيرة، لكي يخلق منها عالماً لا يتوغل في روح الشعب الصيني، ولكنه يتصل به بروابط خفية هي من صلب تراثه وطقوسه المتوارثة من أجيال، والتي تركت بصماتها على تاريخ الصين الحديث بعد الثورة، وتمثّلت بين ما تمثّلت بفكرة عبادة الفرد التي تولت مهمة تهشيم الثورة من الداخل.
لعل حياة هذا الامبراطور المستلبة تبدأ بانتزاعه من أحضان أمه، وتركه للوعة الفقدان الأولى، لكي تتوجه امبراطوراً، أي فكرة مطلقة فوق مشاعر البشر ونوازعهم. وبعيداً عن عيون الرقباء ينسج علاقة أمومية بديلة بمربيته، علاقة فائقة العذوبة يصوغها المخرج في لقطتين شعريتين هامتين في الفيلم، يستعين فيها بالتشكيل والإضاءة والحوار الهامس. الأولى عندما تقص عليه وهي ترضعه، قصة الشجرة التي عندما تهاوت تفرقت عنها القردة، وهي حكاية ذات دلالة، والثانية تتمثل بحركتها وهي تهدهده بعد أن التجأ إلى صدرها ليرضع وهو صبي تجاوز سن الرضاعة بكثير، لعبة الأصابع الموحية التي يستخدمها المخرج كدليل للتواصل في أكثر من لقطة في الفيلم مستمدة من شكل الحركة التشيكلية للرقص الصيني. هذه العلاقات الحبيّة التي تربطه بمربيته يفقدها بقرار بعد أن اكتشف الحراس إنسانيتها، فيركض وراء العربة التي تقل مربيته إلى المجهول. ثم يتابع ركضة وراء العربة التي تنتزع منه زوجته في زمن لاحق. أمام بوابة مدينته المحرمة تتهاوى أحلامه في الحب واحداً بعد الآخر.
الفيلم يقول لنا أن ليست الأقدار وحدها من صَنّع عزلة الإنسان، ولا البعد الجغرافي، بل تركيبة الإنسان ذاتها التي هي مزيج من العادات والتقاليد المتوارثة التي تسكن أعماقه دون إرادة منه. لعل طموح الامبراطور للخروج من أكذوبة السلطة المزيفة ينقلب إلى الضد عندما يذهب إلى أوروبا، ويعيش على هواه... "لقد حلمت أن أكون دون جوان!"، ولكنه يعود عند أول فرصة يلّوح له بها اليابانيون الذين استعمروا بلده . ويظل ساكتاً حتى عندما يجتاحون منشوريا، أرض أجداده، ويقيمون مذابحهم فيها: "أتعرفين معنى أن أكون امبراطوراً مرة أخرى"، يخاطب زوجته التي ترثي هوان سلطته، في ظل حراب اليابانيين، تاركاً إياها لخدر الأفيون الذي يهرب الصينيون بواسطته من واقعهم إلى عالم الأحلام والموت. لا يكترث للعلاقة المثلية التي تنسجها الجاسوسة اليابانية مع زوجته، والمخرج لا يأتي جديداً بإشاراته الفنية حول فقدان الامبراطور قدراته على ممارسة الحب مع زوجته، واضطرارها الانصياع إلى الجاسوسة اليابانية التي تكرهها تعويضاً، ولكنه يتركنا متأملين في العلاقة بين زوجتيه الأولى والثانية ومصائر كل واحدة منهن على حدة.
اعتمد الفيلم في متابعته مصير بطله التراجيدي على أسلوب الاسترجاع والتداعي، حين عاد المخرج به من المعتقل الذي زج الشيوعيون الامبراطور فيه إلى ساعة تتويجه الأولى. ومر سراعاً على شخصيات الثوار فبدا سجانوه على درجة القسوة والاستبداد، انكمشت مقابلها خطايا الامبراطور الوطنية. ولم يكن بينهم من يمكن أن ينسج معه جسراً من التواصل الإنساني، عدا الشخصية التي انقذت حياته من الانتحار، والتي ذهبت إلى المقصلة أيام حصاد الثورة الثقافية اللاحقة. كان حوار الامبراطور مع هذه المرحلة من عمر الصين، مرحلة الثورة، حواراً مقطوعاً، فهو من الماضي، من الأحلام والرؤى، والثورة أرضية بخيرها وشرها.
المكان هنا هو بؤرة التجّمع التي لا تبقى دونها أية قيمة للفعل أو الشخصية أو الزمن.. هي أرض الصين التي أراد برتولوتشي أن يفك طلاسم رطانتها العصية على الفهم عبر تملّي صورتها البرانية الأخاذة، فكان سيد صنعته في فيلم هادئ، عذب، استخدام في إضاءته الأصفر المبهر في تنويع تشكيلي مستفيداً من طرز البناء والأثاث الصيني ليشيد ديكوراً أنفق عليه مبالغ ضخمة، ولم يستخدم الحشود الكبيرة على ما يتوقع المرء من هكذا أفلام، بل اعتمد على الصور الوثائقية للحرب.. ولم يظهر لحظات الصدام بين الحاكم والشعب، وانتفاضات الناس وتمرداتهم، فالامبراطور يتحدث عنها في حواره مع أستاذه كلعبة يرى نفسه شديد الشوق لممارساتها.
حركة الفيلم في الغالب تعتمد على الترتيب والنظام الذي استمده من الهدوء في الطقوس البوذية وموسيقاها الرتيبة، وعلى عكس أفلامه الأخرى، وبالأخص فيلمه الملحمي " القرن العشرين" ، لم يصور العنف والمجازر والدماء، بل تابعت كاميرته بشوق وتذوق جمالي وجوه أبطاله، وأبرزت سجايا الجمال الأصفر، وصبرت على حوارات عميقة هادئة تأخذ بها اللقطة مداها دون أن يتدخل المونتاج.
الفيلم لم يتجول في شارع صيني واحد، ولم يدخلنا غابة أو مستنقعاً أو حديقة عامة أو بيتاً لعامة الناس. لقد كانت الظلال الدقيقة لقصر الامبراطور تحكم حركة حاشيته، وانشداههم في عالم بدا مسحوراً خارج الواقع والتاريخ.
ولكنه، وبعد مسيرات الصين الطويلة في دروب آلامها يعني شيئاً آخر.. انتبه له المخرج في خاتمه فيلمه الأخادة التي تزن وحدها صنعة أستاذ في الإخراج، لا يعادلها ذهب الأوسكار وحده.
فاز فيلم "الأمبراطور الأخير" 1988 بتسع جوائز أوسكار وكان من إنتاج أميركي وبمساهمة صينية رسمية، حيث صُوّر الفيلم في الصين بمساعدة آلاف الممثلين والكومبارس والفنيين الصينيين. وتأتي أعداد الأوسكارات التي حصل عليها في المرتبة الثالثة في تاريخ هذه الجائزة منذ تأسيسها، بعد فيلم «بن هور» الذي حاز عام 1960على أحد عشر أوسكاراً وفيلم "قصة الحي الغربي" ـ وست سايد ستوري ـ الذي حاز عام 1963 على عشرة أوسكارات. اما جوائز "الامبراطور الأخير" فكانت: "جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج ومونتاج وتصوير وصوت وموسيقى وأزياء.
ـسينما العالم
إذ كان ثمة من واجب يدعونا للتنقيب عن مغزى انتاج فيلم مكلف مثل “الامبراطور الأخير" فإن علينا أن نتأمل في أساليب المخرج الإيطالي برناردو برتولتشي، منذ فيلمه “القرن العشرين 1900” الذي أخرجه العام 1976ـ وما قبله “الممتثل” 1970 ـ حيث كرس جزءا كبيراً من شغله في البحث عن سجايا الشعوب في خصال الشخصيات الإنسانية .فيلم القرن العشرين "1900- رصد فيه جزءاً من التاريخ الإيطالي المعاصر بعيداً عن الأباطيل القومية، وقريباً من الواقع الإنساني.
ولأن الصين هي الصين التي يصعب على الأوروبي معرفتها، فقد دخل في فيلمه «الامبراطور الأخير» من بوابتها الملكية، ولكنه لم يقدر أن يخرج من بوابة الشعب، فنال أوسكار هوليود عن استحقاق وجدارة، وصنع فيلماً يليق ببرتولوتشي، ولكنه يتكيء على أمجاد ملحمته الفيلمية الرئيسية.
برناردو برتولوتشي مواليد 1940 حصد مجده في وقت مبكر، فعمره السينمائي يعود إلى مطلع الستينيات يوم عمل كمساعد للمخرج بيير باولو بازوليني في فيلم "أكاتوني". ونفّذ أول فيلم له عام 1962 بعنوان "الرفيقة" وحظي ثاني أعماله «بداية الثورة» بأول انتباه عالمي، يوم حصل على جائزة النقّاد الشباب في مهرجان كان الدولي عام 1964.
هذا الشاعر الذي هجر الشعر إلى السينما، وبقي يحتفظ منه بعينه السحرية، أخرج مجموعة من الأفلام المهمة وبينها "السماء الواقية" و"التانغو الأخير في باريس" عام 1972 أكثر أفلام السبعينيات إثارة للضجيج في العالم تشارك في بطولته مارلون براندو وماريا شنايدر التي هجرت التمثيل بعد ان أصيبت بانتكاسة نفسية بسبب تصرف مارلون براندو معها. أفزع هذا الفيلم رقابات الأفلام في العالم بمختلف تلاوينها لما يحويه من إباحية، واستهانة بالأعراف الأسرية والاجتماعية، فعمدت إلى تقطيع أجزاء كبيرة منه، ولم تجرؤ على منعه، فقد تحصّن بشهرته، وبفضول الناس وتشوقهم لرؤيته.
بعد "التانغو الأخير" بقي الناس ينتظرون خطوته التالية في الوصول إلى هوليوود، فقد كانت تناديه بأصوات منتجيها الكبار، ولكنه أدار لها ظهره، وأخرج فيلم القرن العشرين أو «1900» معززاً انتماءه إلى جيل السينما الستيني في إيطاليا الذي سعى إلى خلق سينما تقف على مبعدة من لغة هوليوود السينمائية.
انتهى من فيلم القرن العشرين 1900 عام 1977، وهو شريط يستغرق خمس ساعات، واعتبره النقاد ملحمة سينمائية هامة في تاريخ السينما المعاصرة.
الفيلم ينطلق من هوى طبقي في معالجة جزء من التاريخ الإيطالي يبتدئ مطلع هذا القرن. والصراع فيه يعتمد على المجابهات بين شخصيات تمثل في تقاطعها وتوازيها، احتدامات الطبقات في صعودها وهبوطها، وعلى تشّعب هذه الموضوعة واتساعها، فقد استطاع أنْ يدير فنياً سير حركة العلاقات الإنسانية بغناها الداخلي وتنوعها، ومركّباتها المختلفة عبر متابعة تلك الحيوات الدامية لشخوصه. لقد أرانا كم من البشاعة والدم والألم تحملّت إيطاليا لكي تعرف الفاشية على حقيقتها. وكم مُكلّفة تلك الخيبات المتكررة لتحالفات الطبقة العاملة.
كانت مقدرته الإخراجية في إدارة الفيلم ترشحه لأفضل الجوائز العالمية لو قُيض له التقدم إلى مسابقة ما، رغم حساسية موضوعاته، وميلها نحو رؤية سياسية لا تلقى قبولاً لدى بعض نقّاد الغرب والمشرفين على مسابقاته.
أراد مخرج من هذا الطراز التصدي لموضوعة أخرى من الشرق فذهب إلى الصين، وحاول نبش ماضيها القريب، ولكنها بقيت مغلقة بوجهه على ما يبدو، وبقي طموحه في كسر سورها العظيم للنفاذ إلى روح الشعب أمنية صعبة التحقق، فاعتمد على سيرة فردية لبطل لم يحكم يوماً، وعندما حاول فقد عرشه. وكان عليه، حسبما جاء في فيلمه، أن يرى التاريخ سينمائياً بزاوية محددة تبدأ وتنتهي بحياة إنسان، حتى ولو كان هذا الإنسان امبراطوراً، ومدينة معزولة، هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الواقع "المدينة المحرمة" التي ترعرع فيها الامبراطور، وكانت في عزلة كاملة عن الشعب ومجريات الأحداث العظيمة التي مرت بها الأمة الصينية وقتذاك، ولكن انشغاله بتلك السيرة لم يكن انشغالاً هوليودياً، فقد أوجد لها امتداداتها وتعميماتها الإنسانية العميقة التي تصنع من مادة الأحلام واقعاً إنسانياً، حتى ولو تصدت له شعرياً. كان برتولتشي يدور حول إنسانية امبراطوره وعذاباته اليومية للخروج من عزلة فُرضت عليه، عزلة تقف بين تاريخين، تاريخ على وشك الانتهاء، وآخر يصارع ليغليه.
ـ الرجال ليسوا رجالاً هنا.. أنهم فكرة، حلم.
هكذا تخبره داواجا الامبراطورة العجوز وهي تتوجه امبراطوراً جديداً على الصين، وهي بهذا تملي عليه مستقبلاً ينتظره خارج المعبد البوذي، ويلاحقه إلى قلب أوروبا في هزيمة روحه وهشاشتها الإنسانية.
أراد برتولوتشي في هذا الفيلم أن يقول إن بطله لم يكن بطلاً إغريقياً ممجداً، يقود جيشاً أو يصنع هزيمة أو انتصاراً، ولكنه ناضل على جبهة روحه لكي يكون إنساناً، وليس فكرة مجردة. وكان عليه أن يتملّى في التقاليد والأعراف المملة البطيئة التي تسّوره ليكتشف أيما ثغرة للنفاذ منها. وفي بحثه عن خلاصه الشخصي، وفي أحيان عن خلاص بلاده، لم يجد سوى في شخص أستاذه البريطاني معبراً للوصول إلى العالم الأرضي، بعيداً عن "المدينة المحرّمة". وهي موضوعة نظر إليها برتولوتشي من زاوية استشراقية بحتة، فالرجل الأبيض هنا هو الحضارة، والحرية الإنسانية وعادات الحياة الجميلة. ولم يغمز بطله البريطاني سوى بلقطة واحدة كان ترميزها المتكرر في أفلام ومسرحيات عديدة عاملاً من عوامل إضعافها، فهو يعتلي كرسياً مرتفعاً ليشهد هزيمة الامبراطور بأعصاب باردة بعد أن أشرف على مبارياته في لعبة التنس الأوروبية.
لم يكن دور الأوروبي الذي مثلّه بيتر أوتول هنا دوراً تنويرياً، بل كانت مقاصده ترقى إلى مستوى كشف مفاسد الطغمة التي تدير المدينة المحرمة في الخفاء. من خلال هذا الدور، الذي أراده برتولوتشي حاول أعادة ترتيب الاعتقاد عن مطامح الاستعمار الغربي التاريخية في هذه البقعة المغلقة من العالم.
الحب هو الفقدان
نقّب برتولتشي في سيرة هذا الامبراطور عن التفصيلات الإنسانية الصغيرة، لكي يخلق منها عالماً لا يتوغل في روح الشعب الصيني، ولكنه يتصل به بروابط خفية هي من صلب تراثه وطقوسه المتوارثة من أجيال، والتي تركت بصماتها على تاريخ الصين الحديث بعد الثورة، وتمثّلت بين ما تمثّلت بفكرة عبادة الفرد التي تولت مهمة تهشيم الثورة من الداخل.
لعل حياة هذا الامبراطور المستلبة تبدأ بانتزاعه من أحضان أمه، وتركه للوعة الفقدان الأولى، لكي تتوجه امبراطوراً، أي فكرة مطلقة فوق مشاعر البشر ونوازعهم. وبعيداً عن عيون الرقباء ينسج علاقة أمومية بديلة بمربيته، علاقة فائقة العذوبة يصوغها المخرج في لقطتين شعريتين هامتين في الفيلم، يستعين فيها بالتشكيل والإضاءة والحوار الهامس. الأولى عندما تقص عليه وهي ترضعه، قصة الشجرة التي عندما تهاوت تفرقت عنها القردة، وهي حكاية ذات دلالة، والثانية تتمثل بحركتها وهي تهدهده بعد أن التجأ إلى صدرها ليرضع وهو صبي تجاوز سن الرضاعة بكثير، لعبة الأصابع الموحية التي يستخدمها المخرج كدليل للتواصل في أكثر من لقطة في الفيلم مستمدة من شكل الحركة التشيكلية للرقص الصيني. هذه العلاقات الحبيّة التي تربطه بمربيته يفقدها بقرار بعد أن اكتشف الحراس إنسانيتها، فيركض وراء العربة التي تقل مربيته إلى المجهول. ثم يتابع ركضة وراء العربة التي تنتزع منه زوجته في زمن لاحق. أمام بوابة مدينته المحرمة تتهاوى أحلامه في الحب واحداً بعد الآخر.
الفيلم يقول لنا أن ليست الأقدار وحدها من صَنّع عزلة الإنسان، ولا البعد الجغرافي، بل تركيبة الإنسان ذاتها التي هي مزيج من العادات والتقاليد المتوارثة التي تسكن أعماقه دون إرادة منه. لعل طموح الامبراطور للخروج من أكذوبة السلطة المزيفة ينقلب إلى الضد عندما يذهب إلى أوروبا، ويعيش على هواه... "لقد حلمت أن أكون دون جوان!"، ولكنه يعود عند أول فرصة يلّوح له بها اليابانيون الذين استعمروا بلده . ويظل ساكتاً حتى عندما يجتاحون منشوريا، أرض أجداده، ويقيمون مذابحهم فيها: "أتعرفين معنى أن أكون امبراطوراً مرة أخرى"، يخاطب زوجته التي ترثي هوان سلطته، في ظل حراب اليابانيين، تاركاً إياها لخدر الأفيون الذي يهرب الصينيون بواسطته من واقعهم إلى عالم الأحلام والموت. لا يكترث للعلاقة المثلية التي تنسجها الجاسوسة اليابانية مع زوجته، والمخرج لا يأتي جديداً بإشاراته الفنية حول فقدان الامبراطور قدراته على ممارسة الحب مع زوجته، واضطرارها الانصياع إلى الجاسوسة اليابانية التي تكرهها تعويضاً، ولكنه يتركنا متأملين في العلاقة بين زوجتيه الأولى والثانية ومصائر كل واحدة منهن على حدة.
اعتمد الفيلم في متابعته مصير بطله التراجيدي على أسلوب الاسترجاع والتداعي، حين عاد المخرج به من المعتقل الذي زج الشيوعيون الامبراطور فيه إلى ساعة تتويجه الأولى. ومر سراعاً على شخصيات الثوار فبدا سجانوه على درجة القسوة والاستبداد، انكمشت مقابلها خطايا الامبراطور الوطنية. ولم يكن بينهم من يمكن أن ينسج معه جسراً من التواصل الإنساني، عدا الشخصية التي انقذت حياته من الانتحار، والتي ذهبت إلى المقصلة أيام حصاد الثورة الثقافية اللاحقة. كان حوار الامبراطور مع هذه المرحلة من عمر الصين، مرحلة الثورة، حواراً مقطوعاً، فهو من الماضي، من الأحلام والرؤى، والثورة أرضية بخيرها وشرها.
المكان هنا هو بؤرة التجّمع التي لا تبقى دونها أية قيمة للفعل أو الشخصية أو الزمن.. هي أرض الصين التي أراد برتولوتشي أن يفك طلاسم رطانتها العصية على الفهم عبر تملّي صورتها البرانية الأخاذة، فكان سيد صنعته في فيلم هادئ، عذب، استخدام في إضاءته الأصفر المبهر في تنويع تشكيلي مستفيداً من طرز البناء والأثاث الصيني ليشيد ديكوراً أنفق عليه مبالغ ضخمة، ولم يستخدم الحشود الكبيرة على ما يتوقع المرء من هكذا أفلام، بل اعتمد على الصور الوثائقية للحرب.. ولم يظهر لحظات الصدام بين الحاكم والشعب، وانتفاضات الناس وتمرداتهم، فالامبراطور يتحدث عنها في حواره مع أستاذه كلعبة يرى نفسه شديد الشوق لممارساتها.
حركة الفيلم في الغالب تعتمد على الترتيب والنظام الذي استمده من الهدوء في الطقوس البوذية وموسيقاها الرتيبة، وعلى عكس أفلامه الأخرى، وبالأخص فيلمه الملحمي " القرن العشرين" ، لم يصور العنف والمجازر والدماء، بل تابعت كاميرته بشوق وتذوق جمالي وجوه أبطاله، وأبرزت سجايا الجمال الأصفر، وصبرت على حوارات عميقة هادئة تأخذ بها اللقطة مداها دون أن يتدخل المونتاج.
الفيلم لم يتجول في شارع صيني واحد، ولم يدخلنا غابة أو مستنقعاً أو حديقة عامة أو بيتاً لعامة الناس. لقد كانت الظلال الدقيقة لقصر الامبراطور تحكم حركة حاشيته، وانشداههم في عالم بدا مسحوراً خارج الواقع والتاريخ.
ولكنه، وبعد مسيرات الصين الطويلة في دروب آلامها يعني شيئاً آخر.. انتبه له المخرج في خاتمه فيلمه الأخادة التي تزن وحدها صنعة أستاذ في الإخراج، لا يعادلها ذهب الأوسكار وحده.
فاز فيلم "الأمبراطور الأخير" 1988 بتسع جوائز أوسكار وكان من إنتاج أميركي وبمساهمة صينية رسمية، حيث صُوّر الفيلم في الصين بمساعدة آلاف الممثلين والكومبارس والفنيين الصينيين. وتأتي أعداد الأوسكارات التي حصل عليها في المرتبة الثالثة في تاريخ هذه الجائزة منذ تأسيسها، بعد فيلم «بن هور» الذي حاز عام 1960على أحد عشر أوسكاراً وفيلم "قصة الحي الغربي" ـ وست سايد ستوري ـ الذي حاز عام 1963 على عشرة أوسكارات. اما جوائز "الامبراطور الأخير" فكانت: "جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج ومونتاج وتصوير وصوت وموسيقى وأزياء.
ـسينما العالم