ذو نُواس
(…-102ق.هـ/ … -524م)
ذو نُواسٍ الحِمْيَرِيّ، اشْتُهِر بين العرب بذلك فجَهِلُوا اسمه واسم أبيه، واضطربوا فيهما اضْطِرابًا عظيمًا؛ فقال بعضُهم: هو زرعة بن كعب، وقال آخرون: زرعة بن حسّان، وذهبتْ طائفةٌ إلى أنّه ذرعة بن تَبّان بن أسعد بن كَرِب، إلى غيرِ ذلك مِنَ الاختلافاتِ في أسماء الحِمْيَرِيِّيْن ـ وهي آفَةٌ أَتَتْ على أَنْسابٍ كثيرةٍ في حِمْيَر فَأَفْسَدَتْها، وأدخلتْ فيهم مَنْ ليس منهم، وأخرجتِ الحِمْيَرِيَّ صَلِيْبَةً، عِلَّتُها أَنّ أَهْلَ الأَنسابِ لم يُرْزَقُوا معرفةَ اللّسان الحِمْيَرِيّ، فاختلفوا فيه. عرفه الرُّوم باسم دمنوس أو داميانس، مَلِكٌ باطِشٌ جبّارٌ مِنْ مُلُوك حِمْيَر.
شَبَّ ذو نُواسٍ في كَنَفِ حُكْم مَلِكٍ خَبِيْثٍ مِنْ مُلُوك حِميَر، لم يَحْمِدِ النّاسُ سِيْرَته، ولم يَرْضُوا عن فعالِه، فنَهَض له ذو نُواسٍ فقتله، وأراح حِمْيَر مِنْ شَرِّه، فمَلَّكُوه عليهم جَزاءَ ما صَنَع، ثمّ تَهَوَّد وسَمَّى نَفْسَه يُوسُفَ، وهَوَّد أهلَ اليمن فسَطَع نَجْمُه، ثمّ علا حين ثار سنة 516م على الرّوم (البيزنطيين) والأَحْباش، وأَنْكَرَ عليهم سَعْيَهم إلى بَسْطِ نُفُوذِهم على اليمن، وإِرْسالَهم المُبشِّرين بالنّصرانيّة إلى نَجْران وما جاورها، وجَيَّشَ لذلك الجُيُوش، وسار بها إلى نَصارَى نَجْران، فدَعاهم إلى اليهوديّة وخيَّرَهم بين ذلك والقَتْل فاخْتاروا القَتْل، فحفر أخدوداً، فحَرَّقَ مَنْ حَرَّقَ في النّار، وقَتَلَ مَنْ قَتَلَ بالسَّيْف، ومَثَّلَ بهم حتّى قَتَلَ منهم خَلْقًا عظيمًا، ففي ذي نُواس وجُنْدِه أَنْزَل الله جلّ وعلا: )قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُوْدِ * النَّارِ ذاتِ الوَقُوْد( (البروج 4-5).
ولمّا تَناهى خَبَرُ أهل نَجْران إلى الروم غَضِبَ القَساوِسَة لهم، وهالَتْهم جُرْأَةُ ذي نُواس، وجَهَرَ السّاسَة بمَطامِعِهم في غَزْو بلاد اليمن، وأَفْصَحُوا عن رَغْبَتهم في السَّيْطرَة على باب المَنْدَب، وبَسْطِ أَيْدِيْهم على خَيْراتِ اليَمَنِ، بُنِّها وعِنَبِها، ولُبانِها ووَرْسِها (الوَرس: نبات كالسمسم يُصبغ به وتتخذ منه الزعفران)، وتَوابِلِها وبَخُورِها، فأَطْلَقوا العِنان لِقادَة الجُيُوش؛ وأَذْكَوا الحَماسَة في نُفُوس جُنُودهم، وطَمِحُوا في مُلْكِ اليمن المُتَّصِل، الّذي لم يَطْمَحْ فيه طامِحٌ قبلهم.
وتَعَلَّل الرّوم والأَحْباش حين غَزْو اليمنَ بمُناصَرة المُضْطَهَدِين مِنَ النَّصارى، وبَدَأَ ذلك بأَنْ اسْتَصْرخَ رجلٌ مِنْ نَصارى نَجْران النَّجاشيَّ مَلِكَ الحَبَشَة - وكان نصرانيًّا -وأَوْقَفَه على نُسْخَةٍ من الإِنْجِيْل قد أَحْرَقَتِ النارُ بعضَها، فأَحْفَظَ النَّجاشيَّ ما سمع ورأى، فأَعَدّ جيشًا عظيمًا، وكاتَبَ قيصر الرّوم -الّذي كان يَدِيْن بِمِلَّتِه - يُخْبِرُه بالمصيبة الّتي حَلَّتْ بأهل نَجْران، ويطلب منه إرسال سفن تحمل رجاله الغازِيَة وعَتادَهم إلى اليمن، فلَبَّى القيصر طلبه، وبعث إليه بحاجته، فحملتِ السُّفُنُ غُزاةَ الأَحْباش يَرْأَسُهُم أَرْياطٌ، حتّى أَلْقَتْ بهم قُرْب عَدَن، حيث يُرابِطُ ذو نُواس في حِمْيَرَ ومن أطاعه من قبائل اليمن، وهم قِلَّة، بعد أَنْ تَخَلَّى عنه أَقْيالٌ عِدَّة (جَمع قَيْل: وهو دون المَلِك مِنْ مُلُوك حِمْيَر)، والتْقَى الفَرِيْقان وتَصافَّا للقتال، فتَناوَشا في وَقْعَة كان الصَّبْرُ والشَّرَف فيها لِذِي نُواس ورَهْطِه، والظَّفَرُ لأَرْياطٍ وجُنْدِه، وخَشِيَ ذو نُواسٍ على نفسه الأَسْرَ، فوَجَّه جَوادَه صَوْبَ البَحْر وأَقْحَمَه لُجَجَه، فمات غَرِيْقًا، ونَفَقَ جَوادُه مُسْرَجًا مُلْجَمًا.
ودخل الأَحْباش بعد مَصْرَعِ ذي نُواسٍ بلاد اليمن، وطَمَسُوا آثار الحِمْيَريّين، وسَعَوا إلى التّبْشِيْر بالنّصْرانيّة، فنَهَضَ لهم سيف بن ذي يَزَن[ر] وانتصر عليهم وأخرجهم من بلاده، ورَفَع الظُّلامَة عن أهله وبلدِه بمُسانَدةِ الفُرْس.
مقبل التام عامر الأحمدي
(…-102ق.هـ/ … -524م)
ذو نُواسٍ الحِمْيَرِيّ، اشْتُهِر بين العرب بذلك فجَهِلُوا اسمه واسم أبيه، واضطربوا فيهما اضْطِرابًا عظيمًا؛ فقال بعضُهم: هو زرعة بن كعب، وقال آخرون: زرعة بن حسّان، وذهبتْ طائفةٌ إلى أنّه ذرعة بن تَبّان بن أسعد بن كَرِب، إلى غيرِ ذلك مِنَ الاختلافاتِ في أسماء الحِمْيَرِيِّيْن ـ وهي آفَةٌ أَتَتْ على أَنْسابٍ كثيرةٍ في حِمْيَر فَأَفْسَدَتْها، وأدخلتْ فيهم مَنْ ليس منهم، وأخرجتِ الحِمْيَرِيَّ صَلِيْبَةً، عِلَّتُها أَنّ أَهْلَ الأَنسابِ لم يُرْزَقُوا معرفةَ اللّسان الحِمْيَرِيّ، فاختلفوا فيه. عرفه الرُّوم باسم دمنوس أو داميانس، مَلِكٌ باطِشٌ جبّارٌ مِنْ مُلُوك حِمْيَر.
شَبَّ ذو نُواسٍ في كَنَفِ حُكْم مَلِكٍ خَبِيْثٍ مِنْ مُلُوك حِميَر، لم يَحْمِدِ النّاسُ سِيْرَته، ولم يَرْضُوا عن فعالِه، فنَهَض له ذو نُواسٍ فقتله، وأراح حِمْيَر مِنْ شَرِّه، فمَلَّكُوه عليهم جَزاءَ ما صَنَع، ثمّ تَهَوَّد وسَمَّى نَفْسَه يُوسُفَ، وهَوَّد أهلَ اليمن فسَطَع نَجْمُه، ثمّ علا حين ثار سنة 516م على الرّوم (البيزنطيين) والأَحْباش، وأَنْكَرَ عليهم سَعْيَهم إلى بَسْطِ نُفُوذِهم على اليمن، وإِرْسالَهم المُبشِّرين بالنّصرانيّة إلى نَجْران وما جاورها، وجَيَّشَ لذلك الجُيُوش، وسار بها إلى نَصارَى نَجْران، فدَعاهم إلى اليهوديّة وخيَّرَهم بين ذلك والقَتْل فاخْتاروا القَتْل، فحفر أخدوداً، فحَرَّقَ مَنْ حَرَّقَ في النّار، وقَتَلَ مَنْ قَتَلَ بالسَّيْف، ومَثَّلَ بهم حتّى قَتَلَ منهم خَلْقًا عظيمًا، ففي ذي نُواس وجُنْدِه أَنْزَل الله جلّ وعلا: )قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُوْدِ * النَّارِ ذاتِ الوَقُوْد( (البروج 4-5).
ولمّا تَناهى خَبَرُ أهل نَجْران إلى الروم غَضِبَ القَساوِسَة لهم، وهالَتْهم جُرْأَةُ ذي نُواس، وجَهَرَ السّاسَة بمَطامِعِهم في غَزْو بلاد اليمن، وأَفْصَحُوا عن رَغْبَتهم في السَّيْطرَة على باب المَنْدَب، وبَسْطِ أَيْدِيْهم على خَيْراتِ اليَمَنِ، بُنِّها وعِنَبِها، ولُبانِها ووَرْسِها (الوَرس: نبات كالسمسم يُصبغ به وتتخذ منه الزعفران)، وتَوابِلِها وبَخُورِها، فأَطْلَقوا العِنان لِقادَة الجُيُوش؛ وأَذْكَوا الحَماسَة في نُفُوس جُنُودهم، وطَمِحُوا في مُلْكِ اليمن المُتَّصِل، الّذي لم يَطْمَحْ فيه طامِحٌ قبلهم.
وتَعَلَّل الرّوم والأَحْباش حين غَزْو اليمنَ بمُناصَرة المُضْطَهَدِين مِنَ النَّصارى، وبَدَأَ ذلك بأَنْ اسْتَصْرخَ رجلٌ مِنْ نَصارى نَجْران النَّجاشيَّ مَلِكَ الحَبَشَة - وكان نصرانيًّا -وأَوْقَفَه على نُسْخَةٍ من الإِنْجِيْل قد أَحْرَقَتِ النارُ بعضَها، فأَحْفَظَ النَّجاشيَّ ما سمع ورأى، فأَعَدّ جيشًا عظيمًا، وكاتَبَ قيصر الرّوم -الّذي كان يَدِيْن بِمِلَّتِه - يُخْبِرُه بالمصيبة الّتي حَلَّتْ بأهل نَجْران، ويطلب منه إرسال سفن تحمل رجاله الغازِيَة وعَتادَهم إلى اليمن، فلَبَّى القيصر طلبه، وبعث إليه بحاجته، فحملتِ السُّفُنُ غُزاةَ الأَحْباش يَرْأَسُهُم أَرْياطٌ، حتّى أَلْقَتْ بهم قُرْب عَدَن، حيث يُرابِطُ ذو نُواس في حِمْيَرَ ومن أطاعه من قبائل اليمن، وهم قِلَّة، بعد أَنْ تَخَلَّى عنه أَقْيالٌ عِدَّة (جَمع قَيْل: وهو دون المَلِك مِنْ مُلُوك حِمْيَر)، والتْقَى الفَرِيْقان وتَصافَّا للقتال، فتَناوَشا في وَقْعَة كان الصَّبْرُ والشَّرَف فيها لِذِي نُواس ورَهْطِه، والظَّفَرُ لأَرْياطٍ وجُنْدِه، وخَشِيَ ذو نُواسٍ على نفسه الأَسْرَ، فوَجَّه جَوادَه صَوْبَ البَحْر وأَقْحَمَه لُجَجَه، فمات غَرِيْقًا، ونَفَقَ جَوادُه مُسْرَجًا مُلْجَمًا.
ودخل الأَحْباش بعد مَصْرَعِ ذي نُواسٍ بلاد اليمن، وطَمَسُوا آثار الحِمْيَريّين، وسَعَوا إلى التّبْشِيْر بالنّصْرانيّة، فنَهَضَ لهم سيف بن ذي يَزَن[ر] وانتصر عليهم وأخرجهم من بلاده، ورَفَع الظُّلامَة عن أهله وبلدِه بمُسانَدةِ الفُرْس.
مقبل التام عامر الأحمدي