ليس صحيحا أن فنا يحجب فنا آخر.. كلها أمور دعاية وتسويق
محمد الحمامصي
النقد علم ومعرفة مثل الكيمياء والطب
يشكو الكتاب والشعراء العرب دائما من تراجع النقد عن دوره الطليعي، مغفلين الكثير من المشاكل التي تخرج حتى عن دائرة النقد والناقد، مثل غياب صناعة الكتاب التي أغرقتنا بكتب مهولة الكم وضعيفة المحتوى. “العرب” التقت الناقد والمفكر المصري أحمد يوسف علي للحديث حول واقع النقد من زوايا مختلفة.
قدم الناقد والمفكر المصري أحمد يوسف علي أستاذ النقد الأدبي والبلاغة على مدار ما يقارب نصف قرن 22 كتابا علميا مطبوعا ومنشورا في مصر والأردن والسعودية والإمارات، فضلا عن نتاج واسع من الدراسات والبحوث والمقالات النقدية والتحليلية، جميعها تشكل مشروعا في البحث النقدي والبلاغي يقوم على مراجعة المعلوم المتواتر في الفكر العربي، ووضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية الصحيحة، ووصله بقضايا الحاضر ومستجدات البحث العلمي المعاصر.
وقد حصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، تقديرا لمشروعه النقدي الهام، الذي نذكر من بين كتبه “نظرية الشعر، رؤية لناقد قديم”، “مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين من بشار إلى أبي العلاء"، "قراءة النص، دراسة في الموروث النقدي"، "دوائر النقد الأدبي"، "نقد الشعر ونقد الثقافة"، "ابن الرومي، الصوت والصدى في النقد القديم"، "اللغة الأدبية والتعبير الاصطلاحي".
يقول أحمد يوسف علي "ليس لي مشروع نقدي فقط ولكني أمتلك رؤية شاملة للعلم والفكر والفن والدين. فقد اشتغلت بالعلم والبحث في موضوعاته المعروفة والمجهولة منذ أن تخرجت في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1975 حتى الآن. وبدأت هذه الرحلة في الجامعة والمجتمع المصري، ولم تقف عند حدود الوطن، وتفاعلت مع قضايا العلم والفكر والثقافة على امتداد الساحة الإنسانية عامة، والساحة العربية على وجه خاص. فكان لي حضوري الفعَّال في الشأن الثقافي العربي، وفي الجامعات العربية إما بالكتابة في المجلات العلمية والثقافية، وإما بالتدريس، وإما بالتحكيم العلمي، أو المشاركة في المؤتمرات".
النقد علم ومعرفة
◙ أحمد يوسف علي حصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية في الآداب تقديرا لمشروعه النقدي الهام
ويضيف "لقد تبلور كل ذلك في كتبي المنشورة، وفي أبحاثي، وفي مقالاتي العديدة. قدمت مشروعاً علمياً في البحث النقدي والبلاغي والثقافي تتحدد ملامحه في مراجعة المعلوم المتواتر في الفكر العربي ومساءلته، بوضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية الصحيحة، ووصله بقضايا الحاضر، ومستجدات البحث العلمي المعاصر. واتسعت الدائرة لتبحث عن المجهول، وغير السائد والمألوف في ثقافتنا العربية الممتدة في رصد القضايا.
وهو ما أنجزته في البحث عن تصورات الشعراء للشعر من بشَّار إلى أبي العلاء المعري، ثم الانتقال إلى بيئة الأندلس للكشف عن نماذج أخرى من الشعراء أمثال ابن خفاجة الأندلسي، وما أنجزته في رصد زاوية المبدع في الاختيار والتأليف في كتابي 'أم كلثوم، الشعر والغناء’ المنشور مطلع العام الجاري 2023 في مركز اللغة العربية بالإمارات".
◙ الأصوات التي قالت إن هذا زمن الرواية مخطئة لأن الفنون ليست مثل مبتكرات التكنولوجيا يمحو بعضها بعضا
ويرى أنه من دائرة غير المألوف في بحوثه رصد تصورات نظرية واضحة المعالم عند الباقلاني، وهو ما اقتضى تتبع كل مصادره وترتيبها وإعادة قراءتها لتخرج في كتاب “قراءة النص، دراسة في الموروث النقدي”. ويأتي في نفس الإطار ما قدمه عن الاستعارة المرفوضة التي تبلورت في موازنة الآمدي في كتابه "الاستعارة المرفوضة في الموروث البلاغي والنقدي". وقد شُغِل بتتبع النص الأدبي وصور تغيره شعرا وسردا، فبحث في دراسات تطبيقية العديد من النماذج عبر مراحل تاريخ الأدب العربي المختلفة وتبلور ذلك في كتابه "تجربة قراءة الشعر" ودعم ذلك بمجموعة من الدراسات النظرية التي تكشف عن مفاهيم مُغايرة لنظرية الأدب، ورصد علاقات الأدب بالعلوم والفنون المختلفة. وتوفر على قراءة النص القرآني قراءة مغايرة رصدها في كتابه “في صحبة القرآن". ولعل في قراءة كتبه ودراساته ما يؤكد كل ذلك.
وحول رؤيته لمناهج أقسام اللغة العربية وما إمكانية تطويرها في ظل ما تشهده اللغة العربية من تدهور، يلفت علي إلى أن "مناهج أقسام اللغة العربية لا تواكب متطلبات الحياة المعاصرة. فمازالت تنظر إلى اللغة باعتبارها لغة الدين فقط وليست لغة الحضارة والإنسان بما يسمح بنقدها ووضعها في سياقات علوم اللغة المعاصرة. وحصر اللغة في إطار الدين يحجبها عن التفاعل مع المتغيرات الاجتماعية والعلمية. فطرق تدريس اللغة العربية لتواكب متطلبات التعامل اليومي تختلف عن طرق دراسة الأدب".
ويتابع "وإذا أردنا تغيير الوضع الحالي للغتنا فلا مفر من تغيير طرق التدريس وتغيير المحتوى المدروس، والارتقاء بمستوى المدرس علميا ومهاريا، وإفساح المجال واسعا كي تكون اللغة حاضرة في الأنشطة التعليمية والاجتماعية داخل المدرسة والجامعة، وكذا تغيير سياسة سوق العمل التي تركز على اللغة الأجنبية ولا تطلب خريجي اللغة العربية. وإعادة النظر في معايير اختيار المذيعين والمذيعات في الراديو والتلفزيون لتكون من بينها إجادة التواصل باللغة والتحدث والقراءة. ويكون من الخطأ البين إصلاح مناهج تعليم العربية في الجامعة وحدها. فالإصلاح والتطوير يبدأ من المرحلة الأولى في الروضة فلا نعلم أطفالنا فيها لغة أجنبية على حساب لغتهم الأم".
ويؤكد أنه "لا يستطيع ناقد مهما تكن قدراته المادية والعلمية مواكبة كل ما تجود به المطابع يوميا في بلده أو حتى في مدينته. فقد اتسعت دوائر النشر وتعددت وتنوعت وآخرها النشر الإلكتروني. فقد كان الناقد قبل هذا الاتساع يواكب ما تجود به الصحف وأحيانا الإذاعة، وكان نقده بابا من أبواب اكتشاف الأعمال الجيدة، والأقلام الموهوبة كما فعل طه حسين مثلا مع الحكيم، وما فعل رجاء النقاش مع الطيب صالح ومحمود درويش، وما قدمته جماعة الأمناء فاروق خورشيد وعزالدين إسماعيل وصلاح عبدالصبور وأحمد رشدي صالح وغير هؤلاء".
◙ الشعر هو فن العربية الأول الذي ظل متربعا على عرشه زمنا طويلا لا ينازعه فن آخر إلى أن خرج العرب من طور البداوة والقبيلة إلى طور التحضر والتمدن والدولة
ويقر بأن الكتابة النقدية الجادة صارت قليلة بسبب التسرع في القراءة والكتابة، والكتابة من أجل الأغراض وهي كثيرة، وبسبب تهافت الأقلام على ذوي الجاه والمال، وتسويغ المتهافت والهابط من الأعمال الأدبية شعرا ورواية بكل ألوان الشعر والرواية. ولا يدري كيف يكون الشاعر شاعرا وهو لا يمتلك ناصية اللغة، ولا يمتلك الحد الأدنى من المعرفة بالشعر وتاريخه وأساليبه ونماذجه الكبرى. وقل مثل هذا على من يكتبون ما يعتقدون أنه رواية أو قصة قصيرة.
ويؤكد أن الكثير مما تفيض به المطابع من شعر ورواية وقصة قصيرة ليس له نسب قريب أو بعيد بالشعر والرواية وغيرهما. فالفنون هي بيت الجمال. ولا جمال في كثير مما تدفع به هذه الأقلام. هذا بالإضافة إلى أن النقد، وهو علم، صار شغلة من لا شغلة له. والكثير ممن يتصدرون منصة النقد ليسوا نقادا ولا يعرفون أبسط قواعده. فالنقد الحقيقي مواجهة علمية لعمل أدبي متعدد المعارف والثقافات والعلاقات، ومتعدد الأصوات اللغوية، وذي صلات تاريخية تمثل تقاليد هذا الفن. ويتساءل: أين هؤلاء النقاد من كل ذلك، وهم لم يصبروا على القراءة، ولم يتزودوا للكتابة؟
ويتابع علي “إذا آمنا بأن النقد علم ومعرفة كما أن الكيمياء والطب علم، فليس لدينا أزمة ولسنا بحاجة إلى نظرية نقدية تحمل قوميتنا، فليس عندنا كيمياء عربية، ولكن عندنا علماء في الكيمياء مثلهم مثل غيرهم من علماء العالم. ولكننا بحاجة ماسة إلى الإسهام الحقيقي في علم النقد والإفادة من منجزاته، وإلى امتلاك المنهج. فالعلم منهج. وأزمتنا هي أزمة حضارية لأن الكثير ممن يحملون لواء النقد تخلفوا عن مواكبة منجزات النقد الأدبي الموروثة، كما تخلفوا عن مثيلاتها المعاصرة واستمرأوا الكتابة بوصفها ثرثرة أو فضفضة".
الثقافة المعاصرة
◙ أحمد يوسف علي: ليس لي مشروع نقدي فقط ولكني أمتلك رؤية شاملة للعلم والفكر والفن والدين
يؤكد علي أن الشعر هو فن العربية الأول الذي ظل متربعا على عرشه زمنا طويلا لا ينازعه فن آخر إلى أن خرج العرب من طور البداوة والقبيلة إلى طور التحضر والتمدن والدولة، فظهرت فنون أخرى تلبية لحاجات التواصل الجديدة بين الدولة ورعاياها في كل أنحاء المعمورة. فظهر فن الرسالة وتعدد وتنوع وزاحم الشعر، ثم ظهر فن المقامة، وفن النثر الصوفي، وظهر ما عرف بحل النظم ونظم النثر مما يدل على قوة المزاحمة والتنافس، وظهر نقد أدبي يفسر كل ذلك ويشرحه وظهرت كتب نقد النثر بجوار كتب نقد الشعر.
ويضيف "في زمن النهضة الأدبية، عادت للشعر زعامته على يد البارودي وشوقي وحافظ ولكنها زعامة لم تطل ولم تدم لبزوغ فنون أدبية أخرى وهي كل أشكال الكتابة النثرية. وظهرت أصوات تقول إن هذا زمن الرواية وهذا غير صحيح لأن الفنون ليست مثل مبتكرات التكنولوجيا يمحو بعضها بعضا. فشعر امرئ القيس مازال مقروءا بجوار شعر نزار وثلاثية محفوظ وأرض الشرقاوي. وباتساع منازع القراء تتسع الحاجة إلى كل الفنون. فليس صحيحا أن فنا يحجب فنا آخر، ولكنها أمور الدعاية والتسويق والترويج لجوقة من الكتاب تربعوا على عرش السلطة الثقافية في مصر فكانوا يمثلون الاستبداد الثقافي والفكري في أبشع صوره. والعجيب أنهم كانوا يكتبون عن الاستبداد ويغضون الطرف عن المستبد".
ويشير إلى أن قصيدة النثر تمثل من حيث المفهوم والمصطلح مشكلا من أهم مشكلات النقد المعاصر، لأنها في حقيقتها خروج على شكل القصيدة التقليدية وفلسفتها، ومع ذلك يطلقون عليها قصيدة، ويطلقون على المجموع الشعري منها ديوانا. والديوان مفهوم متصل بالقصيدة.
ويقر بأن قصيدة النثر نبت خاص بشاعرها، بمعنى أن كل شاعر يكتبها له تقاليده الخاصة به ولا يبني كتابته على تقاليد مرعية مثل القصيدة التقليدية، أو حتى قصيدة الشعر “الحر” عند حجازي أو عبدالصبور أو حسن طلب مثلا. وقصيدة النثر وزنيا ليست من بنات العروض ولا من تفعيلاته، ولكنها من بنات الإيقاع والوقع. وهما مفهومان يحتاجان إلى تفصيل ليس هذا مجاله.
ويرى علي أن الحراك الثقافي في مصر والعالم العربي جزء من الحراك الثقافي في العالم في ظل ما بعد الحداثة الذي يركز على العابر والمغمور والمنسي والمحظور سواء في الفن أو في الفكر أو في الحريات أو في النظر إلى المجتمع والدولة وحريات الأفراد. فالتركيز على التشظي والاختلاف في الثقافات والعقائد ينذر بكارثة كبرى تهدد مفاهيم كانت مستقرة مثل الدين ووظيفته، والنوع البشري والحريات، واللغة والبيئة.
ويضيف “مع أن المجتمعات الغربية تعيش هذا التشظي، فإن رسوخ التقاليد الديمقراطية ومؤسسات الدولة والاقتصاد يحميها من التمزق والتفتت عل العكس مما يحدث في بلادنا. ولذلك لزم تعميق تداول السلطة سلميا، وتعميق مبدأ المساءلة والمحاسبة، فلا حرية بلا
مسؤولية. ولزم التركيز على العلم والبحث العلمي بوصفهما المخرج الوحيد مما نمر به من الأزمات. ومازالت الثقافة العربية لم تحسم موقفها من العلم ولا من الدولة المدنية، ولا من الدين، ولا من المرأة، ولا من حقوق الأقلية، ولا من التاريخ والواقع".
محمد الحمامصي
النقد علم ومعرفة مثل الكيمياء والطب
يشكو الكتاب والشعراء العرب دائما من تراجع النقد عن دوره الطليعي، مغفلين الكثير من المشاكل التي تخرج حتى عن دائرة النقد والناقد، مثل غياب صناعة الكتاب التي أغرقتنا بكتب مهولة الكم وضعيفة المحتوى. “العرب” التقت الناقد والمفكر المصري أحمد يوسف علي للحديث حول واقع النقد من زوايا مختلفة.
قدم الناقد والمفكر المصري أحمد يوسف علي أستاذ النقد الأدبي والبلاغة على مدار ما يقارب نصف قرن 22 كتابا علميا مطبوعا ومنشورا في مصر والأردن والسعودية والإمارات، فضلا عن نتاج واسع من الدراسات والبحوث والمقالات النقدية والتحليلية، جميعها تشكل مشروعا في البحث النقدي والبلاغي يقوم على مراجعة المعلوم المتواتر في الفكر العربي، ووضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية الصحيحة، ووصله بقضايا الحاضر ومستجدات البحث العلمي المعاصر.
وقد حصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، تقديرا لمشروعه النقدي الهام، الذي نذكر من بين كتبه “نظرية الشعر، رؤية لناقد قديم”، “مفهوم الشعر عند الشعراء العباسيين من بشار إلى أبي العلاء"، "قراءة النص، دراسة في الموروث النقدي"، "دوائر النقد الأدبي"، "نقد الشعر ونقد الثقافة"، "ابن الرومي، الصوت والصدى في النقد القديم"، "اللغة الأدبية والتعبير الاصطلاحي".
يقول أحمد يوسف علي "ليس لي مشروع نقدي فقط ولكني أمتلك رؤية شاملة للعلم والفكر والفن والدين. فقد اشتغلت بالعلم والبحث في موضوعاته المعروفة والمجهولة منذ أن تخرجت في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1975 حتى الآن. وبدأت هذه الرحلة في الجامعة والمجتمع المصري، ولم تقف عند حدود الوطن، وتفاعلت مع قضايا العلم والفكر والثقافة على امتداد الساحة الإنسانية عامة، والساحة العربية على وجه خاص. فكان لي حضوري الفعَّال في الشأن الثقافي العربي، وفي الجامعات العربية إما بالكتابة في المجلات العلمية والثقافية، وإما بالتدريس، وإما بالتحكيم العلمي، أو المشاركة في المؤتمرات".
النقد علم ومعرفة
◙ أحمد يوسف علي حصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية في الآداب تقديرا لمشروعه النقدي الهام
ويضيف "لقد تبلور كل ذلك في كتبي المنشورة، وفي أبحاثي، وفي مقالاتي العديدة. قدمت مشروعاً علمياً في البحث النقدي والبلاغي والثقافي تتحدد ملامحه في مراجعة المعلوم المتواتر في الفكر العربي ومساءلته، بوضعه في سياقاته التاريخية والاجتماعية الصحيحة، ووصله بقضايا الحاضر، ومستجدات البحث العلمي المعاصر. واتسعت الدائرة لتبحث عن المجهول، وغير السائد والمألوف في ثقافتنا العربية الممتدة في رصد القضايا.
وهو ما أنجزته في البحث عن تصورات الشعراء للشعر من بشَّار إلى أبي العلاء المعري، ثم الانتقال إلى بيئة الأندلس للكشف عن نماذج أخرى من الشعراء أمثال ابن خفاجة الأندلسي، وما أنجزته في رصد زاوية المبدع في الاختيار والتأليف في كتابي 'أم كلثوم، الشعر والغناء’ المنشور مطلع العام الجاري 2023 في مركز اللغة العربية بالإمارات".
◙ الأصوات التي قالت إن هذا زمن الرواية مخطئة لأن الفنون ليست مثل مبتكرات التكنولوجيا يمحو بعضها بعضا
ويرى أنه من دائرة غير المألوف في بحوثه رصد تصورات نظرية واضحة المعالم عند الباقلاني، وهو ما اقتضى تتبع كل مصادره وترتيبها وإعادة قراءتها لتخرج في كتاب “قراءة النص، دراسة في الموروث النقدي”. ويأتي في نفس الإطار ما قدمه عن الاستعارة المرفوضة التي تبلورت في موازنة الآمدي في كتابه "الاستعارة المرفوضة في الموروث البلاغي والنقدي". وقد شُغِل بتتبع النص الأدبي وصور تغيره شعرا وسردا، فبحث في دراسات تطبيقية العديد من النماذج عبر مراحل تاريخ الأدب العربي المختلفة وتبلور ذلك في كتابه "تجربة قراءة الشعر" ودعم ذلك بمجموعة من الدراسات النظرية التي تكشف عن مفاهيم مُغايرة لنظرية الأدب، ورصد علاقات الأدب بالعلوم والفنون المختلفة. وتوفر على قراءة النص القرآني قراءة مغايرة رصدها في كتابه “في صحبة القرآن". ولعل في قراءة كتبه ودراساته ما يؤكد كل ذلك.
وحول رؤيته لمناهج أقسام اللغة العربية وما إمكانية تطويرها في ظل ما تشهده اللغة العربية من تدهور، يلفت علي إلى أن "مناهج أقسام اللغة العربية لا تواكب متطلبات الحياة المعاصرة. فمازالت تنظر إلى اللغة باعتبارها لغة الدين فقط وليست لغة الحضارة والإنسان بما يسمح بنقدها ووضعها في سياقات علوم اللغة المعاصرة. وحصر اللغة في إطار الدين يحجبها عن التفاعل مع المتغيرات الاجتماعية والعلمية. فطرق تدريس اللغة العربية لتواكب متطلبات التعامل اليومي تختلف عن طرق دراسة الأدب".
ويتابع "وإذا أردنا تغيير الوضع الحالي للغتنا فلا مفر من تغيير طرق التدريس وتغيير المحتوى المدروس، والارتقاء بمستوى المدرس علميا ومهاريا، وإفساح المجال واسعا كي تكون اللغة حاضرة في الأنشطة التعليمية والاجتماعية داخل المدرسة والجامعة، وكذا تغيير سياسة سوق العمل التي تركز على اللغة الأجنبية ولا تطلب خريجي اللغة العربية. وإعادة النظر في معايير اختيار المذيعين والمذيعات في الراديو والتلفزيون لتكون من بينها إجادة التواصل باللغة والتحدث والقراءة. ويكون من الخطأ البين إصلاح مناهج تعليم العربية في الجامعة وحدها. فالإصلاح والتطوير يبدأ من المرحلة الأولى في الروضة فلا نعلم أطفالنا فيها لغة أجنبية على حساب لغتهم الأم".
ويؤكد أنه "لا يستطيع ناقد مهما تكن قدراته المادية والعلمية مواكبة كل ما تجود به المطابع يوميا في بلده أو حتى في مدينته. فقد اتسعت دوائر النشر وتعددت وتنوعت وآخرها النشر الإلكتروني. فقد كان الناقد قبل هذا الاتساع يواكب ما تجود به الصحف وأحيانا الإذاعة، وكان نقده بابا من أبواب اكتشاف الأعمال الجيدة، والأقلام الموهوبة كما فعل طه حسين مثلا مع الحكيم، وما فعل رجاء النقاش مع الطيب صالح ومحمود درويش، وما قدمته جماعة الأمناء فاروق خورشيد وعزالدين إسماعيل وصلاح عبدالصبور وأحمد رشدي صالح وغير هؤلاء".
◙ الشعر هو فن العربية الأول الذي ظل متربعا على عرشه زمنا طويلا لا ينازعه فن آخر إلى أن خرج العرب من طور البداوة والقبيلة إلى طور التحضر والتمدن والدولة
ويقر بأن الكتابة النقدية الجادة صارت قليلة بسبب التسرع في القراءة والكتابة، والكتابة من أجل الأغراض وهي كثيرة، وبسبب تهافت الأقلام على ذوي الجاه والمال، وتسويغ المتهافت والهابط من الأعمال الأدبية شعرا ورواية بكل ألوان الشعر والرواية. ولا يدري كيف يكون الشاعر شاعرا وهو لا يمتلك ناصية اللغة، ولا يمتلك الحد الأدنى من المعرفة بالشعر وتاريخه وأساليبه ونماذجه الكبرى. وقل مثل هذا على من يكتبون ما يعتقدون أنه رواية أو قصة قصيرة.
ويؤكد أن الكثير مما تفيض به المطابع من شعر ورواية وقصة قصيرة ليس له نسب قريب أو بعيد بالشعر والرواية وغيرهما. فالفنون هي بيت الجمال. ولا جمال في كثير مما تدفع به هذه الأقلام. هذا بالإضافة إلى أن النقد، وهو علم، صار شغلة من لا شغلة له. والكثير ممن يتصدرون منصة النقد ليسوا نقادا ولا يعرفون أبسط قواعده. فالنقد الحقيقي مواجهة علمية لعمل أدبي متعدد المعارف والثقافات والعلاقات، ومتعدد الأصوات اللغوية، وذي صلات تاريخية تمثل تقاليد هذا الفن. ويتساءل: أين هؤلاء النقاد من كل ذلك، وهم لم يصبروا على القراءة، ولم يتزودوا للكتابة؟
ويتابع علي “إذا آمنا بأن النقد علم ومعرفة كما أن الكيمياء والطب علم، فليس لدينا أزمة ولسنا بحاجة إلى نظرية نقدية تحمل قوميتنا، فليس عندنا كيمياء عربية، ولكن عندنا علماء في الكيمياء مثلهم مثل غيرهم من علماء العالم. ولكننا بحاجة ماسة إلى الإسهام الحقيقي في علم النقد والإفادة من منجزاته، وإلى امتلاك المنهج. فالعلم منهج. وأزمتنا هي أزمة حضارية لأن الكثير ممن يحملون لواء النقد تخلفوا عن مواكبة منجزات النقد الأدبي الموروثة، كما تخلفوا عن مثيلاتها المعاصرة واستمرأوا الكتابة بوصفها ثرثرة أو فضفضة".
الثقافة المعاصرة
◙ أحمد يوسف علي: ليس لي مشروع نقدي فقط ولكني أمتلك رؤية شاملة للعلم والفكر والفن والدين
يؤكد علي أن الشعر هو فن العربية الأول الذي ظل متربعا على عرشه زمنا طويلا لا ينازعه فن آخر إلى أن خرج العرب من طور البداوة والقبيلة إلى طور التحضر والتمدن والدولة، فظهرت فنون أخرى تلبية لحاجات التواصل الجديدة بين الدولة ورعاياها في كل أنحاء المعمورة. فظهر فن الرسالة وتعدد وتنوع وزاحم الشعر، ثم ظهر فن المقامة، وفن النثر الصوفي، وظهر ما عرف بحل النظم ونظم النثر مما يدل على قوة المزاحمة والتنافس، وظهر نقد أدبي يفسر كل ذلك ويشرحه وظهرت كتب نقد النثر بجوار كتب نقد الشعر.
ويضيف "في زمن النهضة الأدبية، عادت للشعر زعامته على يد البارودي وشوقي وحافظ ولكنها زعامة لم تطل ولم تدم لبزوغ فنون أدبية أخرى وهي كل أشكال الكتابة النثرية. وظهرت أصوات تقول إن هذا زمن الرواية وهذا غير صحيح لأن الفنون ليست مثل مبتكرات التكنولوجيا يمحو بعضها بعضا. فشعر امرئ القيس مازال مقروءا بجوار شعر نزار وثلاثية محفوظ وأرض الشرقاوي. وباتساع منازع القراء تتسع الحاجة إلى كل الفنون. فليس صحيحا أن فنا يحجب فنا آخر، ولكنها أمور الدعاية والتسويق والترويج لجوقة من الكتاب تربعوا على عرش السلطة الثقافية في مصر فكانوا يمثلون الاستبداد الثقافي والفكري في أبشع صوره. والعجيب أنهم كانوا يكتبون عن الاستبداد ويغضون الطرف عن المستبد".
ويشير إلى أن قصيدة النثر تمثل من حيث المفهوم والمصطلح مشكلا من أهم مشكلات النقد المعاصر، لأنها في حقيقتها خروج على شكل القصيدة التقليدية وفلسفتها، ومع ذلك يطلقون عليها قصيدة، ويطلقون على المجموع الشعري منها ديوانا. والديوان مفهوم متصل بالقصيدة.
ويقر بأن قصيدة النثر نبت خاص بشاعرها، بمعنى أن كل شاعر يكتبها له تقاليده الخاصة به ولا يبني كتابته على تقاليد مرعية مثل القصيدة التقليدية، أو حتى قصيدة الشعر “الحر” عند حجازي أو عبدالصبور أو حسن طلب مثلا. وقصيدة النثر وزنيا ليست من بنات العروض ولا من تفعيلاته، ولكنها من بنات الإيقاع والوقع. وهما مفهومان يحتاجان إلى تفصيل ليس هذا مجاله.
ويرى علي أن الحراك الثقافي في مصر والعالم العربي جزء من الحراك الثقافي في العالم في ظل ما بعد الحداثة الذي يركز على العابر والمغمور والمنسي والمحظور سواء في الفن أو في الفكر أو في الحريات أو في النظر إلى المجتمع والدولة وحريات الأفراد. فالتركيز على التشظي والاختلاف في الثقافات والعقائد ينذر بكارثة كبرى تهدد مفاهيم كانت مستقرة مثل الدين ووظيفته، والنوع البشري والحريات، واللغة والبيئة.
ويضيف “مع أن المجتمعات الغربية تعيش هذا التشظي، فإن رسوخ التقاليد الديمقراطية ومؤسسات الدولة والاقتصاد يحميها من التمزق والتفتت عل العكس مما يحدث في بلادنا. ولذلك لزم تعميق تداول السلطة سلميا، وتعميق مبدأ المساءلة والمحاسبة، فلا حرية بلا
مسؤولية. ولزم التركيز على العلم والبحث العلمي بوصفهما المخرج الوحيد مما نمر به من الأزمات. ومازالت الثقافة العربية لم تحسم موقفها من العلم ولا من الدولة المدنية، ولا من الدين، ولا من المرأة، ولا من حقوق الأقلية، ولا من التاريخ والواقع".