في الفن المعاصر.. بانكسي أو قلب الفن للمألوف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في الفن المعاصر.. بانكسي أو قلب الفن للمألوف


    في الفن المعاصر.. بانكسي أو قلب الفن للمألوف


    معزوز عبد العلي
    الأحد 2023/09/03

    فن احتجاجي يتجاوز خاصية المقدس

    يمكن إدراج أعمال بانكسي ضمن ما يسمى بفن الفضاء الحضري، أو بفن الشارع (Street Art)، ولعل هذه التسمية تحمل في طياتها أبعادا سياسية لأن أنصار هذا الفن يعتبرونه ممارسة أو فعلا أو تدخلا في الواقع بما يسمح بتغييره. يتم هذا التدخل والاحتجاج أو التعبير بأشكال مختلفة مثل الرسم على الجدران (الجداريات) أو في الباصات ومحطات الميترو، أو في ردهات صالات العرض، ويستعمل وسائل متعددة مثل الصور والأيقونات والعلامات البصرية، والصباغة بالفرشاة أو اللفائف، أو عرض أشرطة فيديو أو غيرها. وهو فن يتبنى ثقافة ضد نخبوية أو ثقافة مضادة للثقافة الرسمية ورموزها.

    ومن أهم أعلام هذا الفن باسكيا الأميركي وبانكسي الإنجليزي، وغالبا ما يوصف هذا الفن بأنه يقوم على تدخلات شبه سرية وغير مشروعة لأن كثيرا من أكبر العواصم العالمية مثل نيويورك وباريس وساو باولو وبرلين تمنع وتحظر هذا الفن بحجة أنه يشوه جمالية المدن الكبرى، ويشوش على الحياة العامة بما يروجه من قيم التمرد والاحتجاج، وينغص راحة وسكينة الاستهلاك السعيد. فالفضاء العام في أنظار فناني الشارع أفضل حامل أو مسند لإبداع صور وأيقونات جديدة في سبيل الاحتجاج السياسي والثقافي، خارج أطر اللوحة والحوامل التقليدية في المتاحف المؤسسية.

    يرجع الفضل إلى بانكسي في خلق فكرة عرض وتعليق أعماله في المتاحف المكرسة سريا وبكيفية غير قانونية إلى جانب الأعمال أو اللوحات المكرسة في تاريخ الفن، وذلك من أجل جلب الانتباه إليها، وخلق نوع من جمالية الصدمة حسب تعبير بودلير معتمدا في ذلك على عنصر المفاجأة، وعلى عنصر صدم المشاهد.

    ما يسترعي الانتباه هو أن هذا الفنان جعل من فنه احتجاجا وصرخة ضد الحروب، فها هو يتدخل في الزمان والمكان عينه من أجل التنديد بها مثل رسمه على جدران إحدى البنايات المهدمة طفْلة وهي تشرئب للإمساك ببالون طائر ينفلت من بين يديها، ثم عمد في مقام آخر إلى بيع لوحته في مزاد علني، وبعد المزايدات تم بيعها، ولكن بمجرد عقد الصفقة مزقت إربا إربا بواسطة آلية تمزيق ثبتت في ظهرها، وهي رسالة مفادها أن الفن يسخر ويهزأ من القيم التبادلية والمالية في المجتمعات المعاصرة، ومن ثم فهو حامل لثقافة مضادة.

    فن الشارع ضد النخبوية ويطالب بالحق في الظهور في الفضاء العام ولكن ليس أي ظهور وكيفما كان

    ماذا يعني فن الشارع؟ ما القيم الجمالية الحامل لها، وماذا ينتظر منه كممارسة فنية؟ إذا اعتمدنا على تنظير والتر بنيامين للفن المعاصر هو في نظره فن طلق ما يسمى بالهالة السحرية التي تحيطه، وغيب خاصية “المقدس” فيه، أو على الأقل يمزج بين المقدس والدنيوي، وينافس الصور الإعلانية. إنه فن يعطي أهمية قصوى للفضاء بما هو فضاء حضري، فضاء المدينة المعاصرة، جماليا وسياسيا ومعماريا.

    ليس كل ما يعلق أو يرسم أو يلصق في الشارع فن شارع، إنما لا يكون فنا سوى إذا اجتمعت فيه عناصر متشابكة جمالية وغيرها، سوى إذا تقاطعتْ فيه نوايا ومقاصد فنية وجمالية، من ناحية الإنتاج والتلقي.

    فن الشارع هو الذي يطالب بالحق في الظهور في الفضاء العام، ولكن ليس أي ظهور وكيفما كان، بل الظهور الجمالي الذي يتحف الناظر ويعجبه، ويحرك مشاعره بكيفية تجعله يعي الرهانات السياسية والبيئية والجمالية المطروحة عليه. هو فن لاعتبارات فنية من حيث لعبه على الأشكال الفنية، والرموز الفنية استنادا إلى خيال إبداعي، ثم لاعتبارات جمالية لأنه يفسح المجال لتجربة جمالية للفضاء وللمدينة بصفة عامة بكيفية مختلفة، وبوسائل مغايرة تعتمد على عنصر المفاجأة والمشاركة والتدخل الفعلي الآني والمباشر.

    انهمك هذا الفنان في سبر أغوار اللون الأزرق العميق، وأنشأ ما يمكن تسميته بماركة مسجلة للون الأزرق، وهو ما عرف اختصارا بـ”IKB international Klein Blue” صباغة واحدة لكل شيء. إن اللون الأزرق هو أكثر من مجرد لون، إنه رمز كيميائي. وغالبا ما كان يختار موضوعاته في انسجام مع رؤيته الميتافيزيقية حتى كاد أن يجعل منه غايته وضالته اللونية، واشتغل على الفراغ إلى حد أنه أبدع صورة تمثل شخصا يقفز في الفراغ، فاندمج في فنه المادي واللامادي، اللون واللا لون.

    فن الشارع يعطي أهمية قصوى للفضاء بما هو فضاء حضري، فضاء المدينة المعاصرة، جماليا وسياسيا ومعماريا

    وظف بانكسي اللون الأزرق كأثر تتركه الأجساد الأنثوية العارية على قماش اللوحة. لماذا اللون الأزرق؟ لأنه أكثر الألوان تجريدا، إنه لون السماء، لون اللامتناهي، لون المطلق. أحادية اللون الأزرق هي بمثابة علامة مميزة له.

    يمكن النهل من نظريات عديدة في الألوان مثل تلك التي صاغها فنانون كبار من حيث أن الفن روحاني، وأن الألوان تلعب دورا روحانيا. هلْ للون جذور لا شعورية؟ هل توجد في عمق اللاشعور أم على سطح اللغة الاجتماعية؟

    لماذا هذا الميل شبه الطفولي عند بعض الفنانين إلى ألوان بعينها دون أخرى؟ تحتاج الصباغة التجريدية إلى لغة ألوان بعد انفصالها عن أشياء الواقع، وبعد إعطائها قيمة خاصة بها دون أي منزع نفعي، أو أي استعمال اجتماعي، أو أي ترميز خيالي.

    يمكن إجمال هذه التجربة في البحث عن نظام متزن في الصباغة والرسم، وفي البحث عن دلالات معينة للألوان في علاقتها بالأشكال، وفي البحث عن لغة وعن معجم بعدما أبدع ما يمكن تسميته بالتعبيرية الغنائية. بالنسبة إلى كاندنسكي توجد علاقات بين الألوان والأشكال. وجعل سولاج من اللون ملْمسا، ومن العين مطْرقة تعبر عن اهتزازات النفس وذبذباتها. الألوان هي في خدمة الروح أو النفس بحيث تغمرها بالإيقاع وبالاهتزاز وبالذبذبة.

    وحتى يتضح الأمر لا ينبغي تحميل مفرداته أكثر مما تحتمل من قبيل تأويلها وفْق دلالات لاهوتية، وإنما ينبغي تفسير الروح مرادفا للنفس أو موازيا للاشعور. الألوان هي أصداء لما يعْتمل في النفس.

    كيف يمكننا أن نفكر في اللون الأسود الممعن في السواد (Outre-noir) عنده؟ إن الأسود عنده يفوق الأسود العادي المثير لانفعال أو لإحساس أو لعاطفة، إنه أكثر من ذلك لون مجرد. إن الأسود ضد الاعتقاد السائد ليس لونا مظْلما وإنما لون يشع نورا وبهاء، ويعكس المنير في النور والمضيء في الضوء. كلمة أو اصطلاح outre بالفرنسية يعني ما وراء، وما يوجد خلف، ومن ثم فهو أشد وأقوى تعبيرا. فاللون الأسود العاكس للنور أكثر من الألوان الأخرى لأنه لونٌ خلوٌ من أي نور.


    هو في بحث دائم عن النور. اللون الأسود لون مضاد لكل الألوان (Anti-couleur)، وهو بذلك نفيٌ لها جميعا وهذا أمر ليس بالهين. فهو اختيار جمالي إستتيقي يراد منه مساءلة الألوان.

    يمكن تصنيف اللون الأسود عند بيير سولاج في مرتبة ما يسمى في لغة الموسيقى بالنغم (ton) وبالإيقاع. وهو يشبه الصمت في الموسيقى إذن الأسود في الصباغة هو بمثابة سكون أو سكينة.

    ما دلالات الأسود في الثقافة الغربية؟ إنه مرادف للصمت، للعزلة، وللوحدة، وفي نفس الآن مرادف للموت، وضد هذه الدلالات السلبية حاول سولاج العثور في الأسود على العودة إلى الحياة، على ميلاد جديد، على خروج من غياهب الظلمات نحو شعاع نور.

    النور بمعنى من المعاني هو ما وراء الأسود، ما وراء نفي الألوان، المادة التي يبحث عنها هي النور، وهو ما لمْ يسبقْ إليه في ميدان الصباغة أو التصوير الصباغي، ويمكن القول إنه وجد في الأسود الممعن في السواد ضالة ميتافيزيقية.

    تتناول إحدى الناقدات في حوار لها مع سولاج وتدعى آن كاميلشارليات موضوع “الحياة الداخلية” أو العوالم الداخلية لديه، وحسب تعريفه هو فإن “العالم الداخلي في الصباغة هو أن تكون في حضرة ما لا يسْبر غوْره”.



    معزوز عبد العلي
    كاتب مغربي

يعمل...
X