فريد طراد عراب الفن والمؤثر في بنيان بيروت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فريد طراد عراب الفن والمؤثر في بنيان بيروت


    فريد طراد عراب الفن والمؤثر في بنيان بيروت


    مركبة زمنية تعيد النظر في التحولات الكبرى التي شهدها لبنان.
    الجمعة 2023/09/01

    لوحات توثق لتحولات مأساوية

    يقدم غاليري صالح بركات معرضا مختلفا يغوص في عمق ذاكرة بيروت، يحتفي بمسيرة فريد طراد التشكيلي والمهندس المعماري الذي شغف بالفن وكانت له لمسة واضحة في معمار بيروت، لكنه رغم انشغاله بتشييد أشهر المباني ترك موهبته التشكيلية في الأقبية المهجورة، لترى النور اليوم بعد نحو أربعة عقود من الغياب وتكون شاهدة على أكبر التحولات السياسية التي شهدها البلد.

    كل لبنانيّ مُخضرم ولد في الستينات من القرن الماضي يعلم أن في شوارع بيروت وأزقتها تصول جرافة عملاقة ذات أصول غامضة ليست كأيّ جرافة عادية ذات خصائص عادية يبتاعها أصحاب ورشات الإعمار والمشاريع الهندسية. جرافة تعمل بعمق وعلى جميع الأصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومنذ عقود عديدة، تحت جنح ظلام المُعاصرة المتغاضية عن ذهب المدينة المنقوش في راحة يديها المفتوحتين على العالم.

    ليلا، تهدر تحت شعار الحداثة الذي يسري جنبا إلى جنب مع الحروب وفي ظل الأزمات المتواصلة التي تضرب المدينة وهويتها دون توقف.

    وربما كل لبناني مُخضرم ولد في الستينات من القرن الماضي يوّد لو لم يكن واعيا بما يحدث أمام ناظريه كي يستطيع أن يعيش حرا من قيود الذاكرة الساطعة التي تتوق إلى ألق المدينة العريق الذاهب نحو الزوال.



    نقول ربما، فليس كل لبناني من مواليد الستينات الذهبية يعيش تحت وطأة النكران أو الرغبة فيه. لمدينة بيروت، مواليد لازالت إلى الآن تنصب عواميد ضوء الذاكرة لاسيما في كل لحظة يهدأ فيها هدير الجرافة العملاقة. من هؤلاء، وليس حصرا نذكر صالح بركات صاحب صالة فنية عريقة ولدت من رحم صالة أجيال التي لعبت دورا أساسيا في الحركة الثقافية والفنية اللبنانية.

    على هامش المعارض الفنية التي أقامتها هذه الصالة، ثمة معارض تتخطى حدودها الآنيّ لتلقي المراسي بعيدا في الذاكرة اللبنانية حتى لا يتفتت الصخر الذي بنيت على أساسه المدينة البحرية الجميلة بيروت.

    من تلك المعارض “ثلاثون سنة ونستمر بالتقدّم”. ذكر صالح بركات يومها حول نشوء فكرة المعرض “كنّا بصدد أرشفة وإعادة فتح المخازن واستذكار حصيلة الأعمال المتوفّرة منذ ثلاثين سنة. وأتت هذه الفكرة: لمَ لا نقيم معرضا لكافّة مقتنياتنا؟”.

    ويضيف “يضمّ المعرض 160 عملا فنّيا بين لوحة ومنحوتة منتقاة من أرشيف الغاليري على مدى ثلاثة عقود تعود إلى 85 فنّاناً لبنانياً وعربياً. الناظر مباشرة يبصر في العنوان تطلّعاً نحو الأمام، بقايا إيمان بهذه المدينة، نترقّب الإيجابيّات الباقية تحت كلّ هذا الخراب، وذلك بفعل إيماننا ببيروت مدينةً قادرة على العيش والحب والحياة”.

    ومن المعارض الضخمة الأخرى نذكر أيضا وباختصار معرض “بيروت، مدينة من نسيج رغبات العالم/يوميات وضاح فارس” ضم بشكل رئيس صورا فوتوغرافية التقطتها عدسة الفنان متعدد الأهواء وضاح فارس بالأسود والأبيض عن كوكبة من الوجوه والمشاهد الوامضة من زمن بيروت الذهبي الذي اشتد بريقه ما بين سنة 1960 والسنة التي انفجرت فيها الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، لتُسقط على المدينة مقصلتها دون أن تنجح في إعدامها. ووضاح فارس كان صاحب صالة “كونتاك” الرائدة والتي أخذت على عاتقها الترويج للفنانين اللبنانيين والعرب، في حين كانت العديد من الصالات التجارية منهمكة بعرض الأعمال الفنية الغربية.

    أما الحيز المكاني الذي عرضت فيه تلك الشواهد الحيّة عن مدينة لن تموت، فهو مُشبع بالدلالات أنقذه صالح بركات، الشخصية الفنية المتشرّبة بفكر وثقافة بيروت الذي يشهد تاريخ ميلاده سنة 1967 على أنه من جيل الحرب عن جدارة، حينما أخذ على عاتقه تحويل المكان إلى صالة فنية شاسعة عندما كان مهددا بأن يصبح مستودعا للبضائع، وهو الذي كان سابقا “سينما كليمنصو”، المكان الأوّل في المنطقة العربية الذي عرضت فيه أفلام غير تجارية لكبار المخرجين السينمائيين من أمثال برغمان وفيلليني.

    أكثر ما لفت في هذا المعرض يومها أن المرء لا يغادره إلا وروحه مثقلة بالأسى على ماض عرفه أو عايشه أو تذكر منه الشيء القليل، وسمع وقرأ عنه مثل ما حدث مع صالح بركات، صاحب الصالة، وغيره من جيل الحرب المُتصل اتصالا روحيا بنبض بيروت الستينات حتى يومياتها القلقة هذه. وأتت بضع كلمات من صالح بركات لتضعنا في صلب أهمية المعرض واختلافه عن أيّ حدث ثقافي تناول حتى الآن بيروت الستينات.



    تساءل صاحب الصالة قائلا “هل من الممكن إعادة ربط أوصال المدينة ببعضها البعض على النحو الذي كانت عليه سابقا؟ نعم. ولكن كيف؟ لا زلت أبحث عن وسيلة لتحفيز ذلك، ثمة فوران ثقافي في كل زاوية من بيروت، لا بل في كل منطقة من لبنان، ليس كل مُبتذل يصرخ في وجهنا اليوم هو كل ما في بيروت الآن”.

    أما اليوم فصالح بركات يوغل أكثر في ماضي بيروت العريق العائم على زبد الذاكرة، ذاكرة لا هي أرادت أن تغور إلى عتمة الأعماق ولا استطاعت حتى اليوم أن تعيد استيلاد ذاتها في شكل أمواج تعيد تلاطمها الصاخب على صخور أجمل المدن قاطبة، بيروت. فهو ينظم معرضا ضخما يصل إلى فترة ما بعد الاستعمار الفرنسي التي شهدت نشوء مهندسين لبنانيين شيدوا عمارات راعت العراقة وتميزت بالحداثة في آن واحد.

    يركز المعرض الذي يستمر حتى 23 سبتمبر الجاري على المهندس اللبناني وعرّاب الفن فريد طراد الذي كان له تأثير هائل على بنيان بيروت في الفترة الممتدة من 1926 وصولا إلى سنة 1969. كما ساهم بشكل أساسي في بنيانها المديني العام. كما أنجز في هذه الفترة عمارات بديعة لازالت صامدة حتى الآن. وقد عيّنه الرئيس فؤاد شهاب رئيسا لمجلس تنفيذ المشاريع الكبرى منذ تأسيسه عام 1963. وكان فريد طراد نموذجيا في مشاريعه الهندسية، ومما صمّم نذكر فندق “ريجنت” أحد أكبر فنادق زمانه، وسينما “أمبير” وقصر العدل في بيروت وهنغارات المطار الضخمة ذات الأطواق الخرسانية.

    إضافة إلى ذلك كان فريد طراد رساما وكان من أكثر داعمي الفن حماسة. وقد راكم خلال حياته المئات من الأعمال الفنية التي ولدت أو عُرضت في بيروت قبل بداية الانهيار العام في آواخر الستينات.

    تحضر في المعرض أعمال هي من بدايات الفنان إلي كنعان وبول غيراغوسيان وجورج سير ويوسف حويك وميشيل بصبوص وأرميني وغيرهم كثر. ومن الأعمال حضرت تلك التي تعود إلى فنانين مغمورين وآخرين مجهولين سعى صالح بركات وفريق عمله للإمساك بطرف الخيط الذي يوصل إليهم وإلى سيرتهم الفنية.

    يحلو لصالح بركات خلال حديث مقتضب معه أن يطلق على معرضه هذا تعبير مركبة زمنية وقد صدق في توصيفه. إذ يحلّ صمت عذب في الصالة الواسعة ويعبق بعطر غرائبي لأنه مُحمّل بأنفاس المئات من الأعمال التي بقيت لأكثر من 40 سنة مخبأة في مستودع معتم على غفلة من التحولات المأساوية التي عبرت بيروت ولا تزال.



يعمل...
X