يقول عالم الفلك (كيسي بابوفيتش) من جامعة تكساس: »لكل منا رؤيته الخاصة للأحداث، حتى لمجرة درب التبانة. لكن الصورة ليست جذابة على الدوام كما تطفو على السطح في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي«.
يلاحظ بابوفيتش أن المجرات القرصية الكبيرة كمجرة درب التبانة، لم تكن على الدوام بنيات حلزونية منتظمة الشكل _على النحو التي نراه في الكون اليوم_ كمجرة دولاب الهواء. بل على العكس من ذلك، يعتقد بابوفيتش وغيره من الخبراء الدوليين _المتخصصين في تشكيل المجرات وتطورها_ أن أسلاف المجرات سواء كانت مجرة درب التبانة، المجرات القرصية، المجرات الحلزونية المماثلة، أو أي منها كانوا أصغر حجمًا وأقل تنظيمًا، بيد أنهم كانوا نشطين للغاية في أطوار شبابهم، قبل حوالي 8 إلى 10 مليار سنة.
في البحث المُشار إليه آنفا، الذي مولته (الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء الأمريكية_NASA)، و(مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية_NSF)، أوضح بابوفيتش وزملاؤه أن هذه الأنواع الفتية لمثل هذه المجرات كانت تَمور بنجوم جديدة بمعدل أسرع من أي فترة أخرى في فترات حياتها، ما يشير إلى أنها لابد أن تكون ثرية بالمواد المكوِّنة للنجوم بشكل مثير للدهشة. لدى العلماء الآن أدلة مُقنعة تُعد بمثابة أدلة قاطعة في سياق علم الفلك المجري.
مصفوفة (مرصد آلما ALMA) _التابع للمرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي_ هي مصفوفة من المَقارب الراديوية الضخمة والمتطورة للغاية، تقع على ارتفاع 16.500 قدم فوق مستوى سطح البحر في صحراء آتاكاما شمالي تشيلي. استخدمها فريق من علماء الفلك بقيادة بابوفيتش في دراسة أربعة أنواع من المجرات الفتية للغاية والمماثلة لمجرة درب التبانة، تبعد عنا حوالي 9 مليارات سنة ضوئية. أي أن هذا الفريق تمكن من رصدها كما بدت قبل 9 مليار سنة ضوئية. اكتشف الفريق أن كل مجرة من هذه المجرات كانت ثرية _بشكل مدهش_ بغاز أول أكسيد الكربون، وهو مادة تعقب رئيسية معروفة تُستخدم للكشف عن الغاز الجزيئي الذي يعد وقودًا لتشكيل النجوم.
أُعلنت نتائج الدراسة _التي توصل إليها الفريق_ في ورقة علمية أُرسلت لموقع (آرخايف الإلكتروني arXiv.org) التابع لمكتبة جامعة كورنيل، وتقرر نشرها في العدد الافتتاحي الخاص بعلم الفلك من مجلة الطبيعية في يناير/ كانون الثاني.
يقول بابوفيتش، المؤلف الرئيسي للورقة العلمية، وعضو في معهد (جورج فيدياس وسينثيا وودز ميتشل) للفيزياء الأساسية وعلم الفلك التابع لجامعة تكساس: «استخدمنا مصفوفة مرصد آلما للكشف عن أنواع فتية من المجرات المماثلة لمجرة درب التبانة، ووجدنا أن هذه المجرات تحتوي بالفعل على كميات من الغاز الجزيئي أعلى بكثير من غيرها، وهو الغاز الذي من شأنه تأجيج تشكُّل النجوم بسرعة». يضيف قائلا: «إنني أُشبِّه هذه المجرات بالفتية المراهقين الذين يستهلكون كميات هائلة من الطعام اللازمة لنموهم خلال سِنِيّ مراهقتهم».
فضلا عن بابوفيتش، فإن فريق البحث يشمل أيضًا زميلي جامعة تكساس عالم الفلك (رايان كوادري)، وعالمة الفلك (كيم- في واي تران)، علاوة على علماء فلك من كل من: مرصد (ليدن) في هولندا، جامعتي (سوينبرن وماكواري) الاستراليتين، المراصد الوطنية لعلم الفلك البصري_NOAO، جامعة (تكساس) الأمريكية، مرصد (ليون) في فرنسا، ومعهد (ماكس بلانك) لعلم الفلك في ألمانيا.
صورة مُرَكبَّة التقطها مِقراب هابل الفضائي للغاز الجزيئي _مُشارًا إليه باللون الأحمر_ لأربع مجرات فتية شبيهة بمجرة درب التبانة. درسها عالم الفلك كيسي بابوفيتش من جامعة تكساس وزملاؤه باستخدام مصفوفة مرصد آلماALMA_. الصور المُلتقطة للغاز الجزيئي بمِقراب هابل أكثر وضوحًا بكثير من تلك المُلتقطة من مرصد آلما. لذا، حين يبدو الغاز هنا كهالة، فإن بابوفيتش يقول: »من المرجح أن يكون ذلك بسبب تداخله مع ضوء النجوم الموجود في المجرات«.
تُعزى هذه الصورة إلى المرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي.
على الرغم من أن الوفرة النسبية للغاز المُشكِّل للنجوم تبلغ ذروتها في هذه المجرات، إلا إن بابوفيتش يعتقد بأن تشكيلها لم يكتمل بعد، وأنها أصغر نسبيًا من مجرة درب التبانة كما نراها اليوم. تشير معطيات مرصد آلما الجديدة إلى أن النسبة العظمى من كتلة هذه المجرات تكون في الغاز الجزيئي البارد بدلًا من النجوم، على عكس الحالة الراهنة لمجرة درب التبانة؛ حيث تفوق الكتلة الموجودة في النجوم الكتلة الموجودة في الغاز بنسبة 10 إلى 1. من شأن هذه الملاحظات المساهمة في تكوين صورة كاملة لكيفية تطور المادة في المجرات المماثلة لحجم لمجرة درب التبانة، وكيفية تشكُّل مجرتنا، على حد تعبيره.
يقول بابوفيتش، عضو هيئة تدريس في قسم الفيزياء والفلك في جامعة تكساس منذ عام 2008، ويشغل منصب أستاذ في الفيزياء التجريبية: «توجد معظم النجوم اليوم في مجرات مماثلة لمجرة درب التبانة، لذا فإننا من خلال دراسة كيفية تشكل المجرات المماثلة لمجرة درب التبانة، قد نصل إلى فهم لمواقع النجوم الأكثر مثالية في الكون».
ويضيف قائلا: «يتضح من أبحاثنا الحالية أن المجرات المماثلة في كتلتها لمجرة درب التبانة تكدس معظم الغاز الموجود فيها لمليارات السنين القليلة الأولى من تاريخها. حيث إنها تمتلك في تلك المرحلة معظم الوقود الذي تحتاجه لإنتاج النجوم التي ستحتوي عليها لاحقًا».
يُؤكد وجود احتياطيات كبيرة من الغاز ملاحظات الفريق السابقة، حيث قدمت أول صور ملموسة تعرض قصة تطور مجرة درب التبانة التي لم تكن معروفة من قبل على الإطلاق. من بين تفاصيل أخرى، كشفت دراستهم النقاب عن أن معدل مواليد النجوم هو أعلى 30 مرة مما هو عليه الحال في مجرة درب التبانة في الوقت الحاضر؛ حيث يبلغ المعدل قرابة نجم كل سنة مقارنة بحوالي 30 نجم في السنة، قبل 9.5 مليار سنة.
يقول بابوفيتش: «بفضل مصفوفة مرصد آلما والآليات المتقدمة الأخرى _التي تسمح لنا إمعان النظر فيما كان قبل نحو تسع مليارات سنة، لتحليل المجرات التي يحتمل أن تكون على غرار سلف مجرة درب التبانة_ يمكننا بالفعل إثبات ما تشير إليه ملاحظاتنا».
مُنح بابوفيتش وفريقه في الآونة الأخيرة المزيد من الوقت بمرصد آلما، لإحراز تقدم ملموس في دراسة درجة حرارة وكثافة الغاز المُكوّن للنجوم، الذي يساعد في قياس ورسم تحولاتها وأطوارها المختلفة، ووضع تصور للتأثيرات ذات الصلة داخل المجرات. يقول بابوفيتش: «إن هذا سوف يكشف لنا الطريقة التي شكَّلت بها هذه المجرات النجوم التابعة لها بهذه الوتيرة السريعة مقارنة بالظروف الحالية».
يُعدُّ بابوفيتش، كوادري وتران من بين قلة قليلة من علماء الفلك في أنحاء العالم الذين قضوا سنوات في دراسة مجرات بعيدة مُختارة بعناية، مماثلة في كتلتها لكتلة سلف مجرة درب التبانة، التي كُشِف عنها النقاب في مشروعين لدراسة أعماق سماء الكون، هما: (مشروع المُجَمَّع الكوني لدراسة خارج المجرة العميق بالأشعة تحت الحمراء القريبة) و(مشروع دراسة تطور أربع من المجرات النجمية). تجاوز الفريق نطاق مرصد آلما؛ إذ استخدم في بحثه الملاحظات الواردة من مِقرابي هابل وسبيتزر الفضائيين التابعين لناسا، ومِقراب هيرشل الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأوربية. كما وفرت صور هابل _المُلتقطة من مشروع المُجمَّع الكوني لدراسة خارج المجرة العميق بالأشعة تحت الحمراء القريبة_ معلومات تفصيلية حول أحجام المجرات، وكيفية تطورها. بينما ساعدت عمليات الرصد بالأشعة تحت الحمراء _البعيدة الصادرة عن مِقرابي سبيتزر وهابل_ علماء الفلك على تتبع معدل تكوين النجوم.