من منا لا يفكر في موقع الإنسان في الكون ولا يتساءل في ما إذا كانت هناك حياة أخرى في هذا الفلك الفسيح؟ يعتقد الأغلب بأن هذا السؤال هو سؤال “فلسفي” لا جوانب علمية له ولا يمكن الإجابة عنه، أو أن حيّزه في قصص وأفلام الخيال العلمي فقط، والتي يطلق مؤلفوها لخيالهم العنان، فيبتدعون المخلوقات الغريبة ويصمّمون العوالم العجيبة، لكن في الحقيقة هذا السؤال هو علمي محض، له خبراؤه وتقنيّاته وأساليب دراسته المميزة والمتعدّدة، وله إسقاطاته العميقة على فهمنا للكون إجمالاً، وبالرغم من قِدَم هذا السؤال، إلا أن دراسته لم تتبوّأ موقعا مركزيا في دراسات علماء الفلك حتى قبل عقدين من الزمن، حيث ابتدأ هذا المجال من الدراسة في احتلال موقع الصدارة في أبحاثنا، حتى أصبح من أهم مواضيع البحث فيها.
ما هي الحياة؟
أحد الأسئلة المبدئية التي يثيرها هذا الموضوع هو: ماذا نقصد بحياة؟ ما هي الصفات الجوهرية المشتركة لكل كائن حي، من أبسطها إلى أكثرها تركيبا؟ بالرغم من بساطة هذا السؤال في الظاهر، إلا أن الإجابة عنه صعبة جدًّا، إذ لا توجد حتى الآن إجابة واضحة، ومتّفق عليها بالنسبة لأنواع الحياة على الأرض، فمثلا؛ لا يزال هناك اختلافا بالرأي في ما إذا كانت الفيروسات هي كائنات حية − بالأساس نتيجة لعدم وجود مبنى خلوي لها، مع أنها تحمل الشفرة الجينية وتستطيع الانقسام والتكاثر إذا ما دخلت إلى خلية جسم حي، والأغلب يصفها بأنها كائنات على حافة الحياة، فما بالك إذا كان السؤال يدور حول حياة في كواكب منتشرة على مدى الفلك، والتي قد تكون مبنية على أسس مختلفة تماما عن الأرض، التي بها كيمياء ذرّة الكربون هي الكيمياء (العضوية) الأساسية للحياة. ربما هنالك حياة أخرى في الكون تعتمد على التفاعلات الكيماوية لعنصر آخر، كذرّة السيليكون مثلا، التي تشبه ذرة الكربون كونها تستطيع تكوين أربعة أربطة كيماوية مع عناصر أخرى − يقتضي التنويه هنا بأنه على الرغم من أن 28٪ من قشرة الكرة الأرضية هي من السيليكون (المادة الأساسية في الرمل) مقابل نسبة ضئيلة جدا من الكربون (فقط 0.03٪)، فالحياة على الأرض أساسها الكربون، أو لعل بعض أشكال الحياة في الكون هي صناعية، روبوتات ذكية مثلا، وغيرها. لكن في ما يلي سأفترض بأن كيمياء الحياة خارج الأرض هي أيضا مبنية على أساس ذرة الكربون، أي نفس الكيمياء العضوية التي تحكم الأجسام الحية على الأرض.
الحياة في الكون؟
يعتقد أغلب العلماء بأن الحياة في الكون هي ظاهرة منتشرة جدا، هذا بالرغم من عدم إيجاد أي شكل من أشكالها خارج الكرة الأرضية حتى الآن، بل ويذهب بعضهم أكثر من ذلك. فيزيائي الفلك الإنجليزي فرد هويل (Fred Hoyle) اقترح بأن بذور الحياة الأولى على الكرة الأرضية قد أتت من المريخ، يبني العلماء اعتقادهم حول انتشار الحياة في الكون على عدة حجج، أهمها أن الأرض لا يميزها أي شيء خاص، وأن هناك مئات مليارات النجوم مثل الشمس، في مئات مليارات المجرات التي نراها في الكون، لهذا على الأغلب بأننا سنجد كواكب سيّارة عديدة مثل الأرض تدور حول نجومها.
كم عدد هذه الكواكب؟ هذا ما لم يكن واضحا إلا مؤخرا وهو ما سأذكره لاحقا في المقال، بالإضافة إلى ذلك، هناك أدلة دامغة، ومتراكمة، تشير إلى وجود عدد كبير من المواد العضوية في الفضاء في المادة ما بين النجوم (Interstellar Medium)، من ضمنها حوامض أمينية عديدة كالچليسين (من المركبات الدي-أن-إيه) ومركبات مرتبطة به، وهذا الأخير أمر مذهل، فالنجوم خلال دورة حياتها وموتها وما يتبعها من انفجارات وإطلاق المواد إلى الفضاء الفسيح ما بينها، تُنتج كما هذه المركبات المعقدة التي هي حجارة البناء للحياة.
اكتشاف كواكب سيّارة خارج المجموعة الشمسية
حتى عام 1995 انحصرت الأبحاث التي تحاول رصد وجود حياة خارج الكرة الأرضية بفرعين: الأول تركز في فحص وجود حياة على كواكب سيّارة في المجموعة الشمسية، كالمريخ أو أقمار المشتري. بالطبع هذه الحياة، إذا لم يستحِل وجودها، فستكون بدائية جدا، نتيجة للحرارة الشديدة أو البرد القارس السائد على هذه الأجسام الذي يمنع تطور أشكال حياة معقدة، أمّا الثاني فاعتمد محاولة رصد إشارات تأتي من الفضاء السحيق التي لا يمكن أن تكون نتيجة ظواهر طبيعية، أي إشارات تدل بوضوح على أن مصدرها من حياة ذكية تعمدت إرسال تلك الإشارات، مما يشير إلى وجود حضارة متقدمة، متمكّنة من قوانين الطبيعة وكيفية استغلالها لِبَثِّ مثل هذه الإشارات (كمشروع SETI).
ما تغيّر قبل عقدين هو اكتشاف أول كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية يدور حول نجم شبيه بالشمس، على يد فريق أبحاث سويسري، هذا الاكتشاف أدّى إلى فتح آفاق جديدة وخلق نشاطا وإثارة في مجال البحث عن حياة أخرى في الكون.
ولكن كيف نكتشف وجود كواكب سيّارة حول نجوم أخرى؟ الصعوبة الأساسية في رصد هذه الأجسام تكمن في أنها لا تشع طاقة من نفسها كالنجوم، الكواكب السيّارة بحسب تعريفها هي أجسام غير متوهّجة، لا تحمل من الكتلة ما يكفي لإشعال تفاعل نووي يؤدي إلى توهّجها (لفعل ذلك تحتاج كتلة الجسم بأن تكون أكبر بـ 10٪ من كتلة الشمس على الأقل). فعلى سبيل المثال، 99٪ من كتلة المجموعة الشمسية تحملها الشمس نفسها، وباقي الأجسام التي من ضمنها كل الكواكب السيّارة، تحمل 1٪ فقط من الكتلة في هذه المجموعة، لهذا فاكتشاف ورصد الكواكب السيّارة خارج المجموعة الشمسية يتم غالبا بواسطة طرق غير مباشرة.
هنالك عدة طرق مستعملة لرصد كواكب سيّارة خارج المجموعة الشمسية، للإيجاز سأذكر هنا أهم طريقتين: طريقة السرعة الشعاعية وطريقة العبور. يستطيع القارئ غير المعني التّغاضي عن الفقرتين التاليتين:
1. طريقة السرعة الشعاعية (Radial Velocity): ما يحدث عندما يدور الكوكب السيّار، مهما كانت كتلته، حول النجم الأم في الحقيقة هو أن كلّاً منهما يدور حول الآخر، لكن لأن كتلة النجم أكبر بكثير من كتلة الكوكب السيّار، يكون مركز الدوران المشترك (مركز الثقل) قريبا جدا من مركز النجم، إذًا تعتمد هذه الطريقة على أن الكوكب السيّار(الذي لا نراه) عند دورانه يحدث تغييرًا طفيفًا جدا في حركة النجم الأم (الذي نراه). نستطيع رصد هذه الحركة لكثير من النجوم بدقة كبيرة (كما يقيس الشرطي سرعة السيّارة)، ما يمكّننا من استخلاص صفات الكوكب السيّار التي يسببها. من الواضح بأنه من الأسهل رصد الكواكب السيّارة الكبيرة والقريبة من نجمها بهذه التقنية، لأنها تؤدي إلى حركة أوضح للنجم الأم. الرسم المرفق يبين الحركة المشتركة للنجم والكوكب السيّار حول مركز مشترك. تغيير سرعة النجم خلال دورانه بالنسبة للراصد يؤدي لحيود ضوءه نحو الأزرق، إذا كان اتجاه حركته في اتجاهنا، أو نحو الأحمر، إذا كان اتجاه حركته في الاتجاه المضاد (تأثير دوبلر)، مما يمكنّا استخلاص صفات الكوكب السيّار غير المرئي.
2. طريقة العبور (Transit): تدور الكواكب السيّارة حول نجمها الأم في مستوى ثنائي الأبعاد محدد، فمثلا، تدور الكواكب السيّارة الثمانية في المجموعة الشمسية جميعها في نفس المستوى. فإذا مرّ كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية أمام نجمه، عندما كنا نرصد الأخير وحجب جزء صغير منه يضعف دفق أشعته بشكل ضئيل (كما يحدّ عند عبور الزهرة أو عطارد أمام شمسنا)، نستطيع من خلال هذا التغيير الضئيل جدا في ضوء النجم الأم تحديد الكثير من صفات الكوكب السيّار العابر، بالطبع تتطلب هذه الطريقة أجهزة تصوير حساسة جدا بحيث تستطيع رصد مثل هذا التأثير الواهن. يُحَتِّمُ علينا ضعف هذا التأثير وضع هذه الأجهزة على متن أقمار صناعية خارج غلاف الأرض الجوي (كالقمر الصناعي كبلر)، نتيجة للتشويش الذي تحدثه حركة الهواء الذي يمنع رصد هذه الظاهرة من الأرض.في هذه التقنية يكون التأثير واضحا أكثر كلما كَبُرَ حجم الكوكب السيّار وكلما اقترب من نجمه، ما يؤدي إلى حجب جزء أكبر من أشعة هذا النجم. الرسم المرفق يبين التغيّر الذي يطرأ على شدة الضوء القادم من النجم حين يعبر بينه وبين الراصد الكوكب السيّار. في القسم الأسفل نرى قياس حقيقي لهذا التغيير (المبيّن بواسطة النقاط الصغيرة السوداء) والدالة التي تلائمه المبينه باللون الأحمر.
حتى الآن اكتُشف ما يقارب 3400 كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية، رُصدت أغلبيتها الساحقة بواسطة تقنيتي العبور والسرعة الشعاعية. ولهذه الكواكب السيّارة كتل وأحجام مختلفة، تدور حول نجومها على أبعاد متنوعة. أكثرية الكواكب السيّارة التي وُثّقت ذات كتلة أكبر من كتلة الأرض بكثير وتدور حول نجمها على بعد صغير، وذلك نتيجة لسهولة رصدها نسبيا! أدت هذه الاكتشافات في العقدين الأخيرين إلى تقدير عدد الكواكب السيّارة في مجرتنا (درب التبانة) لوحدها، بحوالي المئة مليار، وهو رقم مذهل.
شروط وجود حياة
ولكن ما لهذا ولسؤال وجود الحياة خارج المجموعة الشمسية؟ بالطبع لا نتوقع أن تكون هناك حياة على جميع هذه الكواكب السيّارة. لكي نبحث عن وجود حياة هنالك بعض الشروط التي يجمع المختصون على ضرورة وجودها لفتح المجال لحياة بيولوجية بأن تتطور:
*الشرط الأول بأن لا تكون كتلة الكوكب السيّار أصغر ولا أكبر من الأرض بكثير، ففي الحالة الأولى تكون جاذبية الكوكب السيّار صغيرة بحيث تهرب غازاته إلى الفضاء فلا يكون له غلاف جوي (كما هي حال قمرنا). أما في الحالة الثانية، أي حين تكون كتلته كبيرة نسبيا، يتكون حوله غلاف جوي كثيف ذو ضغط كبير جدا (كما هي حال المشتري الذي يُعتقد بأن نواته صلبة)، بالإضافة إلى ذلك فالجاذبية الشديدة تمنع تطور كائنات حية كبيرة.
*الشرط الثاني هو بأن لا يكون الكوكب السيّار بعيداً جدا عن نجمه بحيث تكون برودته قارسة تسمح للماء، إذا وجد على سطحه، بأن يكون فقط في الحالة الصلبة (كالمريخ مثلا)، وبألا يكون قريبا جدا من النجم بحيث تكون الحرارة على سطحه كالأتون المستعر فتسمح للماء، إذا وجد عليه، بأن يكون فقط في الحالة الغازية (كالزهرة). تسمّى هذه المنطقة حول كل نجم، التي تسمح لكوكب سيّار له كتلة مشابهة لكتلة الأرض وذي غلاف جوي بوجود الماء في الحالة السائلة، بالمنطقة القابلة للسكنى (Habitable Zone).
علينا توخي الحذر هنا، فتوفُّر هذه الشروط لا يعني وجود حياة على هذه الكواكب بشكل تلقائي. كما أن توفرها لا يعني بأنه لا يمكن لحياة، ولو بدائية، بأن تتكون على الكواكب التي لا تفي بهذه الشروط. كل ما يعنيه هذا هو بأنه من خلال تجربتنا في المجموعة الشمسية، نحن نعرف بأن هذه الشروط تساعد على تكوّن حياة عضوية، كما هي الحال على الأرض. أي أننا نعطي أولوية للبحث عن وجود حياة على كواكب سيّارة التي لها شروطاً مشابهة للكرة الأرضية!
عدد الكواكب التي من الممكن أن تأوي حياة
تحوي جعبة مراصدنا حتى الآن حوالي المئتي كوكب سيّار تدور في المنطقة القابلة للسكنى، اكتُشفت أغلبيتها الساحقة بواسطة القمر الصناعي كبلر، عشرون منها، بكتلة تشبه الأرض أو أكبر قليلا، قد توفر الشروط لتطور حياة عليها. سأعطي هنا مثالين اكتُشفا في السنة الأخيرة؛ الأول هو الكوكب السيّار كبلر 452 ب، الذي يدور حول نجم يشبه الشمس، وكتلته خمسة أضعاف كتلة الأرض، يبعد هذا الكوكب عن المجموعة الشمسية 1400 سنة ضوئية وعمره أكبر من عمر الأرض بمليار عام، أي أن تطور الحياة- إذا كانت موجودة عليه- قد يسبقنا بمليار عام (سأعود لهذه النقطة لاحقا)! المثال الثاني هو اكتشاف حديث جدا أعلنه مؤخرا المرصد الأوروبي الجنوبي واكتُشف بواسطة تقنية السرعة الشعاعية. المثير في هذا الاكتشاف هو أن النجم الذي يدور حوله هذا الكوكب السيّار هو قنطر الأقرب (Proxima Centauri)، وهو أقرب نجم على الشمس (يبعد عنا فقط 4.2 سنة ضوئية)، ما سيمكّن مراقبته بدقة كبيرة بواسطة المراصد المستقبلية التي ستبنى خلال عقد من الزمن.
بناء على العينة الصغيرة التي رصدناها حتى الآن، نستطيع تقدير عدد الكواكب السيّارة التي توفر الشرطين اللذين ذكرناهما، أي تشبه الأرض ومدارها يقع في المنطقة القابلة للسكنى، في مجرتنا لوحدها، بحوالي المليار كوكب سيّار. هذا عدا أنه في الكون المرئي لوحده ما يعادل المئة مليار مجرة. فلنقف برهة لنتأمل ما تعنيه هذه الأرقام ولنتخيل الإمكانيات غير المحدودة لأنواع الحياة وأشكالها في الكون. كما ذكرت سابقا فالمادة “البين نجمية” (Interstellar Medium) مليئة بالمواد العضوية المركبة، لهذا من الممكن تصور أن هنالك حياة على أغلب هذه الكواكب السيّارة.
من تجربة الحياة الوحيدة التي نعرفها حتى الآن، أي على الأرض، نحن نعلم بأن الحياة ابتدأت بشكل بدائي جدا (وحيدات الخلية)، وتطورت بسرعة نسبية لأشكال حياة معقدة. بالطبع لا نستطيع أن نجزم بأن هذا التطور يحدث على جميع الكواكب السيّارة، ولكن من المعقول أن نتوقع وجود أشكال حياة مركبة على عدد كبير من الكواكب السيّارة.
وجود حياة ذكية
لكن كم من هذه الكواكب السيّارة تأوي حياة ذكية وليست فقط مركبة؟ وهنا بالطبع نقصد كائنات تسأل أسئلة حول وجودها في الكون، وتملك من قدرة الإدراك ما يسمح لها بسبر غور قوانين الطبيعة والتعمق بفلسفة الوجود، وتملك التطور التكنولوجي والتنظيم الاجتماعي المتقدم. أي في كم من هذه الكواكب تقطن كائنات متقدمة كالإنسان؟ طبعا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال لكننا ربما نستطيع استخلاص بعض الحكمة من تطور الحياة على الأرض.
لنأخذ مثلا الحقيقة التالية، تكونت الكرة الأرضية قبل حوالي 4.5 مليار عام، وبعد ذلك بقليل ابتدأت الحياة بالظهور على الأرض (أقدم دلائل مادية على وجود حياة عمرها 3.7 مليار عام)، مقابل هذا عمر جنسنا البشري (ما يسمى الإنسان العاقل)، الكائن الحي الواعي الوحيد الذي نعرف عنه، هو 200 ألف عام فقط − وفي العشرة آلاف سنة الأخيرة فقط، على أثر الثورة الزراعية والتي تعتبر بداية التاريخ، أنشأ البشر حضارات وأطرًا منظمة. أي أنه خلال معظم تاريخ الحياة على الأرض لم تكن هناك حياة ذكية. هذا ومن الجدير ذكره أنه لولا حدوث أحداث عشوائية لما كان الجنس البشري موجودا اليوم. فمثلا، لولا انقراض الديناصورات غير الطائرة (الطيور هي من بواقي الديناصورات)، لما ارتقت الحيوانات اللبونة إلى قمة السلسلة الغذائية التي سمحت بتطورنا نحن. أو لو لم ينجُ الجنس البشري من الانقراض قبل حوالي السبعين ألف عام، حيث يقدر الخبراء هبوط تعداد الجنس البشري إلى ألفَيْ إنسان على الكرة الأرضية قاطبة (كما يظهر، نتيجة لانفجار بركاني كبير في جزيرة سوماترا). وهناك العديد من الأحداث الأخرى التي حدثت نتيجة الصدفة والتي لولاها لما كانت هناك حياة ذكية على الأرض!
هل هذا يعني بأنه لم تكن لتتطور حياة ذكية أخرى على الأرض؟ لا ندري الإجابة عن هذا السؤال، ولكننا نعرف اليوم بأن هناك الكثير من الحيوانات التي تملك ملَكات وصفات متقدمة قد تتطور مع الزمن لتتحول إلى حياة ذكية ومفكرة، فمثلا نحن نعرف بأن الغراب قادر على حل مشاكل معقدة نسبيا، وهي صفة كنا نعتقد بأنها حصرية بالإنسان، ونعرف بأن الاتصال ما بين الدولفينات يرتقي لأكثر من إصدار أصوات للتحذير من الخطر، هل من الممكن أن يتطور هذا إلى استعمال لغة في المستقبل؟ لا نعرف، ولكننا نعرف بأن ملكة اللغة عند الإنسان هي ملكة خاصة به تعود إلى طفرة جينية (هذا أساس نظرية نوعم تشومسكي في علم اللغة).
إذًا نستطيع التلخيص بأنه في ما يتعلق بتطور حياة ذكية، ما لا نعرفه هو أكثر بكثير مما نعرفه. وأن تجربتنا على الأرض قد تكون فريدة من نوعها أو شائعة جدا في الكون. السبيل الوحيد لمعرفة الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة هو بالاستمرار في هذا المشروع الرائع الذي نسعى به لاكتشاف ما حولنا في الكون، وفهمه. فمن يعرف ماذا سنجد وما ستكون تداعياته على الجنس البشري. فقد نكتشف مليارات الكواكب الصالحة للحياة وعليها أجناس ومخلوقات غريبة، ربما بعضها ذكي، يسبقنا بكثير، أنشأ حضارات وبنى إمبراطوريات وطوّر المعارف والفلسفة وسبر غور الطبيعة. وربما نكتشف بأن هناك أشكال حياة غريبة تختلف عن مبنى الحياة على الأرض، ولربما حتى أشكال حياة صناعية طورتها أصلا حياة بيولوجية قد انقرضت منذ زمن بعيد. أو لربما لا نجد حياة أخرى أبدًا. فمهما كانت اكتشافاتنا فهي ستساعدنا، لا محالة، في محاولة فهمم موقعنا في الكون وتطورنا.
هل تدمر الحياة الذكية نفسها؟
في الختام أود أن أضيف تساؤلا آخر ذا بعد أخلاقي وقيمي، مستقى أيضا من تجربتنا على الكرة الأرضية؛ ما الذي يضمن أن تستمر الحياة الذكية إذا نشأت ولا يقضي عليها غرورها وقلة تدبيرها وكرهها للآخر وخوفها من المختلف؟ فمثلا خلال الحرب الباردة- كما نعلم اليوم- كان هنالك على الأقل خمس حالات من الإنذار النووي، أشهرها خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، التي كان بها الجنس البشري قاب قوسين وأدنى من حرب دمار شامل بين الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة، بإمكانها محو الجنس البشري قاطبة، بل وأسوأ من ذلك هو تجاهلنا لظاهرة الاحتباس الحراري التي نحن سببها، والتي تدفع الطبيعة والبيئة إلى كارثة كبيرة تتضمن انقراض أعدادا كبيرة جدا من الأحياء، قد يكون الجنس البشري من ضمنها.
هذا كله لأن “ذكاءنا” يُملي علينا تسخير الطبيعة لمنفعتنا، ظانين أنّنا فوق الطبيعة وأنها وجدت لتخدمنا، هذا عدا الحروب وقتل الأبرياء وسفك الدماء الروتيني وأبشع أنواع التنكيل التي يقوم بها الإنسان ضد أخيه الإنسان يوميا. أي أنه ليس من البعيد بأننا إذا استمرينا بهذا الطريق سينتهي بنا هذا “الذكاء” بأن ندمر أنفسنا. إذًا ما الذي يضمن لنا بأن الحياة الذكية في الكون، أينما كانت، لم تتبع نفس النهج الذي نتبعه نحن وأدى بها “ذكاؤها” إلى القضاء على نفسها!
لا بد لمثل هذه التساؤلات بأن ترشد أبحاثنا، ليس فقط في ما يتعلق بإيجاد حياة على كواكب أخرى بل، ولربما أهم من ذلك، لفحص إسقاطاتها على كيف نعيش حياتنا ونعامل بيئتنا. فلعلّنا نجد يوما في هذا الفضاء الفسيح، حياة واعية وذكية تتعالى عن إرضاء مصالحها الآنيّة الضيقة، وتعيش حياتها بتوازن مع بيئتها والكائنات الأخرى التي تشاركها الحياة على كوكبها. لعل تلك الحياة الواعية، ليست ذكية ومُحِبة للمعرفة فحسب، بل أيضا حكيمة، قنوعة، صبورة ومتواضعة، تعي بأنها يجب أن لا تستعبد الطبيعة بل تكون شاكرة لها، لأنها تعيش بفضلها، ولا تتجاهل المخلوقات الأخرى، ضاربة بعرض الحائط شروط معيشتها وسلامتها، بل تشاطرها خيرات كوكبها، لربما كانت كائنات فضائية كهذه، إذا وُجِدت، هي من نعته الأقدمون بالآلهة.
ما هي الحياة؟
أحد الأسئلة المبدئية التي يثيرها هذا الموضوع هو: ماذا نقصد بحياة؟ ما هي الصفات الجوهرية المشتركة لكل كائن حي، من أبسطها إلى أكثرها تركيبا؟ بالرغم من بساطة هذا السؤال في الظاهر، إلا أن الإجابة عنه صعبة جدًّا، إذ لا توجد حتى الآن إجابة واضحة، ومتّفق عليها بالنسبة لأنواع الحياة على الأرض، فمثلا؛ لا يزال هناك اختلافا بالرأي في ما إذا كانت الفيروسات هي كائنات حية − بالأساس نتيجة لعدم وجود مبنى خلوي لها، مع أنها تحمل الشفرة الجينية وتستطيع الانقسام والتكاثر إذا ما دخلت إلى خلية جسم حي، والأغلب يصفها بأنها كائنات على حافة الحياة، فما بالك إذا كان السؤال يدور حول حياة في كواكب منتشرة على مدى الفلك، والتي قد تكون مبنية على أسس مختلفة تماما عن الأرض، التي بها كيمياء ذرّة الكربون هي الكيمياء (العضوية) الأساسية للحياة. ربما هنالك حياة أخرى في الكون تعتمد على التفاعلات الكيماوية لعنصر آخر، كذرّة السيليكون مثلا، التي تشبه ذرة الكربون كونها تستطيع تكوين أربعة أربطة كيماوية مع عناصر أخرى − يقتضي التنويه هنا بأنه على الرغم من أن 28٪ من قشرة الكرة الأرضية هي من السيليكون (المادة الأساسية في الرمل) مقابل نسبة ضئيلة جدا من الكربون (فقط 0.03٪)، فالحياة على الأرض أساسها الكربون، أو لعل بعض أشكال الحياة في الكون هي صناعية، روبوتات ذكية مثلا، وغيرها. لكن في ما يلي سأفترض بأن كيمياء الحياة خارج الأرض هي أيضا مبنية على أساس ذرة الكربون، أي نفس الكيمياء العضوية التي تحكم الأجسام الحية على الأرض.
الحياة في الكون؟
يعتقد أغلب العلماء بأن الحياة في الكون هي ظاهرة منتشرة جدا، هذا بالرغم من عدم إيجاد أي شكل من أشكالها خارج الكرة الأرضية حتى الآن، بل ويذهب بعضهم أكثر من ذلك. فيزيائي الفلك الإنجليزي فرد هويل (Fred Hoyle) اقترح بأن بذور الحياة الأولى على الكرة الأرضية قد أتت من المريخ، يبني العلماء اعتقادهم حول انتشار الحياة في الكون على عدة حجج، أهمها أن الأرض لا يميزها أي شيء خاص، وأن هناك مئات مليارات النجوم مثل الشمس، في مئات مليارات المجرات التي نراها في الكون، لهذا على الأغلب بأننا سنجد كواكب سيّارة عديدة مثل الأرض تدور حول نجومها.
كم عدد هذه الكواكب؟ هذا ما لم يكن واضحا إلا مؤخرا وهو ما سأذكره لاحقا في المقال، بالإضافة إلى ذلك، هناك أدلة دامغة، ومتراكمة، تشير إلى وجود عدد كبير من المواد العضوية في الفضاء في المادة ما بين النجوم (Interstellar Medium)، من ضمنها حوامض أمينية عديدة كالچليسين (من المركبات الدي-أن-إيه) ومركبات مرتبطة به، وهذا الأخير أمر مذهل، فالنجوم خلال دورة حياتها وموتها وما يتبعها من انفجارات وإطلاق المواد إلى الفضاء الفسيح ما بينها، تُنتج كما هذه المركبات المعقدة التي هي حجارة البناء للحياة.
اكتشاف كواكب سيّارة خارج المجموعة الشمسية
حتى عام 1995 انحصرت الأبحاث التي تحاول رصد وجود حياة خارج الكرة الأرضية بفرعين: الأول تركز في فحص وجود حياة على كواكب سيّارة في المجموعة الشمسية، كالمريخ أو أقمار المشتري. بالطبع هذه الحياة، إذا لم يستحِل وجودها، فستكون بدائية جدا، نتيجة للحرارة الشديدة أو البرد القارس السائد على هذه الأجسام الذي يمنع تطور أشكال حياة معقدة، أمّا الثاني فاعتمد محاولة رصد إشارات تأتي من الفضاء السحيق التي لا يمكن أن تكون نتيجة ظواهر طبيعية، أي إشارات تدل بوضوح على أن مصدرها من حياة ذكية تعمدت إرسال تلك الإشارات، مما يشير إلى وجود حضارة متقدمة، متمكّنة من قوانين الطبيعة وكيفية استغلالها لِبَثِّ مثل هذه الإشارات (كمشروع SETI).
ما تغيّر قبل عقدين هو اكتشاف أول كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية يدور حول نجم شبيه بالشمس، على يد فريق أبحاث سويسري، هذا الاكتشاف أدّى إلى فتح آفاق جديدة وخلق نشاطا وإثارة في مجال البحث عن حياة أخرى في الكون.
ولكن كيف نكتشف وجود كواكب سيّارة حول نجوم أخرى؟ الصعوبة الأساسية في رصد هذه الأجسام تكمن في أنها لا تشع طاقة من نفسها كالنجوم، الكواكب السيّارة بحسب تعريفها هي أجسام غير متوهّجة، لا تحمل من الكتلة ما يكفي لإشعال تفاعل نووي يؤدي إلى توهّجها (لفعل ذلك تحتاج كتلة الجسم بأن تكون أكبر بـ 10٪ من كتلة الشمس على الأقل). فعلى سبيل المثال، 99٪ من كتلة المجموعة الشمسية تحملها الشمس نفسها، وباقي الأجسام التي من ضمنها كل الكواكب السيّارة، تحمل 1٪ فقط من الكتلة في هذه المجموعة، لهذا فاكتشاف ورصد الكواكب السيّارة خارج المجموعة الشمسية يتم غالبا بواسطة طرق غير مباشرة.
هنالك عدة طرق مستعملة لرصد كواكب سيّارة خارج المجموعة الشمسية، للإيجاز سأذكر هنا أهم طريقتين: طريقة السرعة الشعاعية وطريقة العبور. يستطيع القارئ غير المعني التّغاضي عن الفقرتين التاليتين:
1. طريقة السرعة الشعاعية (Radial Velocity): ما يحدث عندما يدور الكوكب السيّار، مهما كانت كتلته، حول النجم الأم في الحقيقة هو أن كلّاً منهما يدور حول الآخر، لكن لأن كتلة النجم أكبر بكثير من كتلة الكوكب السيّار، يكون مركز الدوران المشترك (مركز الثقل) قريبا جدا من مركز النجم، إذًا تعتمد هذه الطريقة على أن الكوكب السيّار(الذي لا نراه) عند دورانه يحدث تغييرًا طفيفًا جدا في حركة النجم الأم (الذي نراه). نستطيع رصد هذه الحركة لكثير من النجوم بدقة كبيرة (كما يقيس الشرطي سرعة السيّارة)، ما يمكّننا من استخلاص صفات الكوكب السيّار التي يسببها. من الواضح بأنه من الأسهل رصد الكواكب السيّارة الكبيرة والقريبة من نجمها بهذه التقنية، لأنها تؤدي إلى حركة أوضح للنجم الأم. الرسم المرفق يبين الحركة المشتركة للنجم والكوكب السيّار حول مركز مشترك. تغيير سرعة النجم خلال دورانه بالنسبة للراصد يؤدي لحيود ضوءه نحو الأزرق، إذا كان اتجاه حركته في اتجاهنا، أو نحو الأحمر، إذا كان اتجاه حركته في الاتجاه المضاد (تأثير دوبلر)، مما يمكنّا استخلاص صفات الكوكب السيّار غير المرئي.
2. طريقة العبور (Transit): تدور الكواكب السيّارة حول نجمها الأم في مستوى ثنائي الأبعاد محدد، فمثلا، تدور الكواكب السيّارة الثمانية في المجموعة الشمسية جميعها في نفس المستوى. فإذا مرّ كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية أمام نجمه، عندما كنا نرصد الأخير وحجب جزء صغير منه يضعف دفق أشعته بشكل ضئيل (كما يحدّ عند عبور الزهرة أو عطارد أمام شمسنا)، نستطيع من خلال هذا التغيير الضئيل جدا في ضوء النجم الأم تحديد الكثير من صفات الكوكب السيّار العابر، بالطبع تتطلب هذه الطريقة أجهزة تصوير حساسة جدا بحيث تستطيع رصد مثل هذا التأثير الواهن. يُحَتِّمُ علينا ضعف هذا التأثير وضع هذه الأجهزة على متن أقمار صناعية خارج غلاف الأرض الجوي (كالقمر الصناعي كبلر)، نتيجة للتشويش الذي تحدثه حركة الهواء الذي يمنع رصد هذه الظاهرة من الأرض.في هذه التقنية يكون التأثير واضحا أكثر كلما كَبُرَ حجم الكوكب السيّار وكلما اقترب من نجمه، ما يؤدي إلى حجب جزء أكبر من أشعة هذا النجم. الرسم المرفق يبين التغيّر الذي يطرأ على شدة الضوء القادم من النجم حين يعبر بينه وبين الراصد الكوكب السيّار. في القسم الأسفل نرى قياس حقيقي لهذا التغيير (المبيّن بواسطة النقاط الصغيرة السوداء) والدالة التي تلائمه المبينه باللون الأحمر.
حتى الآن اكتُشف ما يقارب 3400 كوكب سيّار خارج المجموعة الشمسية، رُصدت أغلبيتها الساحقة بواسطة تقنيتي العبور والسرعة الشعاعية. ولهذه الكواكب السيّارة كتل وأحجام مختلفة، تدور حول نجومها على أبعاد متنوعة. أكثرية الكواكب السيّارة التي وُثّقت ذات كتلة أكبر من كتلة الأرض بكثير وتدور حول نجمها على بعد صغير، وذلك نتيجة لسهولة رصدها نسبيا! أدت هذه الاكتشافات في العقدين الأخيرين إلى تقدير عدد الكواكب السيّارة في مجرتنا (درب التبانة) لوحدها، بحوالي المئة مليار، وهو رقم مذهل.
شروط وجود حياة
ولكن ما لهذا ولسؤال وجود الحياة خارج المجموعة الشمسية؟ بالطبع لا نتوقع أن تكون هناك حياة على جميع هذه الكواكب السيّارة. لكي نبحث عن وجود حياة هنالك بعض الشروط التي يجمع المختصون على ضرورة وجودها لفتح المجال لحياة بيولوجية بأن تتطور:
*الشرط الأول بأن لا تكون كتلة الكوكب السيّار أصغر ولا أكبر من الأرض بكثير، ففي الحالة الأولى تكون جاذبية الكوكب السيّار صغيرة بحيث تهرب غازاته إلى الفضاء فلا يكون له غلاف جوي (كما هي حال قمرنا). أما في الحالة الثانية، أي حين تكون كتلته كبيرة نسبيا، يتكون حوله غلاف جوي كثيف ذو ضغط كبير جدا (كما هي حال المشتري الذي يُعتقد بأن نواته صلبة)، بالإضافة إلى ذلك فالجاذبية الشديدة تمنع تطور كائنات حية كبيرة.
*الشرط الثاني هو بأن لا يكون الكوكب السيّار بعيداً جدا عن نجمه بحيث تكون برودته قارسة تسمح للماء، إذا وجد على سطحه، بأن يكون فقط في الحالة الصلبة (كالمريخ مثلا)، وبألا يكون قريبا جدا من النجم بحيث تكون الحرارة على سطحه كالأتون المستعر فتسمح للماء، إذا وجد عليه، بأن يكون فقط في الحالة الغازية (كالزهرة). تسمّى هذه المنطقة حول كل نجم، التي تسمح لكوكب سيّار له كتلة مشابهة لكتلة الأرض وذي غلاف جوي بوجود الماء في الحالة السائلة، بالمنطقة القابلة للسكنى (Habitable Zone).
علينا توخي الحذر هنا، فتوفُّر هذه الشروط لا يعني وجود حياة على هذه الكواكب بشكل تلقائي. كما أن توفرها لا يعني بأنه لا يمكن لحياة، ولو بدائية، بأن تتكون على الكواكب التي لا تفي بهذه الشروط. كل ما يعنيه هذا هو بأنه من خلال تجربتنا في المجموعة الشمسية، نحن نعرف بأن هذه الشروط تساعد على تكوّن حياة عضوية، كما هي الحال على الأرض. أي أننا نعطي أولوية للبحث عن وجود حياة على كواكب سيّارة التي لها شروطاً مشابهة للكرة الأرضية!
عدد الكواكب التي من الممكن أن تأوي حياة
تحوي جعبة مراصدنا حتى الآن حوالي المئتي كوكب سيّار تدور في المنطقة القابلة للسكنى، اكتُشفت أغلبيتها الساحقة بواسطة القمر الصناعي كبلر، عشرون منها، بكتلة تشبه الأرض أو أكبر قليلا، قد توفر الشروط لتطور حياة عليها. سأعطي هنا مثالين اكتُشفا في السنة الأخيرة؛ الأول هو الكوكب السيّار كبلر 452 ب، الذي يدور حول نجم يشبه الشمس، وكتلته خمسة أضعاف كتلة الأرض، يبعد هذا الكوكب عن المجموعة الشمسية 1400 سنة ضوئية وعمره أكبر من عمر الأرض بمليار عام، أي أن تطور الحياة- إذا كانت موجودة عليه- قد يسبقنا بمليار عام (سأعود لهذه النقطة لاحقا)! المثال الثاني هو اكتشاف حديث جدا أعلنه مؤخرا المرصد الأوروبي الجنوبي واكتُشف بواسطة تقنية السرعة الشعاعية. المثير في هذا الاكتشاف هو أن النجم الذي يدور حوله هذا الكوكب السيّار هو قنطر الأقرب (Proxima Centauri)، وهو أقرب نجم على الشمس (يبعد عنا فقط 4.2 سنة ضوئية)، ما سيمكّن مراقبته بدقة كبيرة بواسطة المراصد المستقبلية التي ستبنى خلال عقد من الزمن.
بناء على العينة الصغيرة التي رصدناها حتى الآن، نستطيع تقدير عدد الكواكب السيّارة التي توفر الشرطين اللذين ذكرناهما، أي تشبه الأرض ومدارها يقع في المنطقة القابلة للسكنى، في مجرتنا لوحدها، بحوالي المليار كوكب سيّار. هذا عدا أنه في الكون المرئي لوحده ما يعادل المئة مليار مجرة. فلنقف برهة لنتأمل ما تعنيه هذه الأرقام ولنتخيل الإمكانيات غير المحدودة لأنواع الحياة وأشكالها في الكون. كما ذكرت سابقا فالمادة “البين نجمية” (Interstellar Medium) مليئة بالمواد العضوية المركبة، لهذا من الممكن تصور أن هنالك حياة على أغلب هذه الكواكب السيّارة.
من تجربة الحياة الوحيدة التي نعرفها حتى الآن، أي على الأرض، نحن نعلم بأن الحياة ابتدأت بشكل بدائي جدا (وحيدات الخلية)، وتطورت بسرعة نسبية لأشكال حياة معقدة. بالطبع لا نستطيع أن نجزم بأن هذا التطور يحدث على جميع الكواكب السيّارة، ولكن من المعقول أن نتوقع وجود أشكال حياة مركبة على عدد كبير من الكواكب السيّارة.
وجود حياة ذكية
لكن كم من هذه الكواكب السيّارة تأوي حياة ذكية وليست فقط مركبة؟ وهنا بالطبع نقصد كائنات تسأل أسئلة حول وجودها في الكون، وتملك من قدرة الإدراك ما يسمح لها بسبر غور قوانين الطبيعة والتعمق بفلسفة الوجود، وتملك التطور التكنولوجي والتنظيم الاجتماعي المتقدم. أي في كم من هذه الكواكب تقطن كائنات متقدمة كالإنسان؟ طبعا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال لكننا ربما نستطيع استخلاص بعض الحكمة من تطور الحياة على الأرض.
لنأخذ مثلا الحقيقة التالية، تكونت الكرة الأرضية قبل حوالي 4.5 مليار عام، وبعد ذلك بقليل ابتدأت الحياة بالظهور على الأرض (أقدم دلائل مادية على وجود حياة عمرها 3.7 مليار عام)، مقابل هذا عمر جنسنا البشري (ما يسمى الإنسان العاقل)، الكائن الحي الواعي الوحيد الذي نعرف عنه، هو 200 ألف عام فقط − وفي العشرة آلاف سنة الأخيرة فقط، على أثر الثورة الزراعية والتي تعتبر بداية التاريخ، أنشأ البشر حضارات وأطرًا منظمة. أي أنه خلال معظم تاريخ الحياة على الأرض لم تكن هناك حياة ذكية. هذا ومن الجدير ذكره أنه لولا حدوث أحداث عشوائية لما كان الجنس البشري موجودا اليوم. فمثلا، لولا انقراض الديناصورات غير الطائرة (الطيور هي من بواقي الديناصورات)، لما ارتقت الحيوانات اللبونة إلى قمة السلسلة الغذائية التي سمحت بتطورنا نحن. أو لو لم ينجُ الجنس البشري من الانقراض قبل حوالي السبعين ألف عام، حيث يقدر الخبراء هبوط تعداد الجنس البشري إلى ألفَيْ إنسان على الكرة الأرضية قاطبة (كما يظهر، نتيجة لانفجار بركاني كبير في جزيرة سوماترا). وهناك العديد من الأحداث الأخرى التي حدثت نتيجة الصدفة والتي لولاها لما كانت هناك حياة ذكية على الأرض!
هل هذا يعني بأنه لم تكن لتتطور حياة ذكية أخرى على الأرض؟ لا ندري الإجابة عن هذا السؤال، ولكننا نعرف اليوم بأن هناك الكثير من الحيوانات التي تملك ملَكات وصفات متقدمة قد تتطور مع الزمن لتتحول إلى حياة ذكية ومفكرة، فمثلا نحن نعرف بأن الغراب قادر على حل مشاكل معقدة نسبيا، وهي صفة كنا نعتقد بأنها حصرية بالإنسان، ونعرف بأن الاتصال ما بين الدولفينات يرتقي لأكثر من إصدار أصوات للتحذير من الخطر، هل من الممكن أن يتطور هذا إلى استعمال لغة في المستقبل؟ لا نعرف، ولكننا نعرف بأن ملكة اللغة عند الإنسان هي ملكة خاصة به تعود إلى طفرة جينية (هذا أساس نظرية نوعم تشومسكي في علم اللغة).
إذًا نستطيع التلخيص بأنه في ما يتعلق بتطور حياة ذكية، ما لا نعرفه هو أكثر بكثير مما نعرفه. وأن تجربتنا على الأرض قد تكون فريدة من نوعها أو شائعة جدا في الكون. السبيل الوحيد لمعرفة الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة هو بالاستمرار في هذا المشروع الرائع الذي نسعى به لاكتشاف ما حولنا في الكون، وفهمه. فمن يعرف ماذا سنجد وما ستكون تداعياته على الجنس البشري. فقد نكتشف مليارات الكواكب الصالحة للحياة وعليها أجناس ومخلوقات غريبة، ربما بعضها ذكي، يسبقنا بكثير، أنشأ حضارات وبنى إمبراطوريات وطوّر المعارف والفلسفة وسبر غور الطبيعة. وربما نكتشف بأن هناك أشكال حياة غريبة تختلف عن مبنى الحياة على الأرض، ولربما حتى أشكال حياة صناعية طورتها أصلا حياة بيولوجية قد انقرضت منذ زمن بعيد. أو لربما لا نجد حياة أخرى أبدًا. فمهما كانت اكتشافاتنا فهي ستساعدنا، لا محالة، في محاولة فهمم موقعنا في الكون وتطورنا.
هل تدمر الحياة الذكية نفسها؟
في الختام أود أن أضيف تساؤلا آخر ذا بعد أخلاقي وقيمي، مستقى أيضا من تجربتنا على الكرة الأرضية؛ ما الذي يضمن أن تستمر الحياة الذكية إذا نشأت ولا يقضي عليها غرورها وقلة تدبيرها وكرهها للآخر وخوفها من المختلف؟ فمثلا خلال الحرب الباردة- كما نعلم اليوم- كان هنالك على الأقل خمس حالات من الإنذار النووي، أشهرها خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، التي كان بها الجنس البشري قاب قوسين وأدنى من حرب دمار شامل بين الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة، بإمكانها محو الجنس البشري قاطبة، بل وأسوأ من ذلك هو تجاهلنا لظاهرة الاحتباس الحراري التي نحن سببها، والتي تدفع الطبيعة والبيئة إلى كارثة كبيرة تتضمن انقراض أعدادا كبيرة جدا من الأحياء، قد يكون الجنس البشري من ضمنها.
هذا كله لأن “ذكاءنا” يُملي علينا تسخير الطبيعة لمنفعتنا، ظانين أنّنا فوق الطبيعة وأنها وجدت لتخدمنا، هذا عدا الحروب وقتل الأبرياء وسفك الدماء الروتيني وأبشع أنواع التنكيل التي يقوم بها الإنسان ضد أخيه الإنسان يوميا. أي أنه ليس من البعيد بأننا إذا استمرينا بهذا الطريق سينتهي بنا هذا “الذكاء” بأن ندمر أنفسنا. إذًا ما الذي يضمن لنا بأن الحياة الذكية في الكون، أينما كانت، لم تتبع نفس النهج الذي نتبعه نحن وأدى بها “ذكاؤها” إلى القضاء على نفسها!
لا بد لمثل هذه التساؤلات بأن ترشد أبحاثنا، ليس فقط في ما يتعلق بإيجاد حياة على كواكب أخرى بل، ولربما أهم من ذلك، لفحص إسقاطاتها على كيف نعيش حياتنا ونعامل بيئتنا. فلعلّنا نجد يوما في هذا الفضاء الفسيح، حياة واعية وذكية تتعالى عن إرضاء مصالحها الآنيّة الضيقة، وتعيش حياتها بتوازن مع بيئتها والكائنات الأخرى التي تشاركها الحياة على كوكبها. لعل تلك الحياة الواعية، ليست ذكية ومُحِبة للمعرفة فحسب، بل أيضا حكيمة، قنوعة، صبورة ومتواضعة، تعي بأنها يجب أن لا تستعبد الطبيعة بل تكون شاكرة لها، لأنها تعيش بفضلها، ولا تتجاهل المخلوقات الأخرى، ضاربة بعرض الحائط شروط معيشتها وسلامتها، بل تشاطرها خيرات كوكبها، لربما كانت كائنات فضائية كهذه، إذا وُجِدت، هي من نعته الأقدمون بالآلهة.