صورة أشعة فوق بنفسجية لمساحة صغيرة من العنقود المجري فيرجو، الذي يتكوّن من أكثر من 1300 مجرة موضبة على شكل تجمّع كثيف وتبعد عنا 65 مليون سنة ضوئية.
مصدر الصورة : ناسا، مختبر الدفع النفاث
في مكانٍ ما في أعمق بقاع هذا الكون وبعيداً عن حدود مجرّتنا الآمنة، يرقد وحش يجذبنا خلال مليارات السنين ببطئ وبلا هوادة إليه، جاذبًا معنا كّل شيءٍ قريباً منّا ومنه.
لكنّ الجاذبية هي القوّة الوحيدة التي تؤثّر على هكذا مسافات هائلة وعبر فترات زمنية كونية، لذا مهما كانت هذه القوّة التي تؤثر بهذا الشكل، فهي عظيمة وصارمة.
يُدعى هذا الوحش (الجاذب الأعظم)، وحتّى الآن فإنّ ماهيّته لا تزال غامضة بالكامل.
اكتشف الجاذب الأعظم في بادئ الأمر في سبعينيات القرن الماضي، عندما صنع علماء الفلك خرائط تفصيليّة لخلفية إشعاع الكون (من الضوء المتبقّي من بدايات الكون)، وقد لاحظوا عندها أن ما نتج كان بشكل طفيف – كلمة طفيف هنا تعني أقلّ من واحد على مائة درجة فهرنهايت – أعلى حرارًة على جهة من مجرتنا مقارنًة بالجهة الأخرى ، مما يعني أنّ المجرة كانت تتحرك في الفضاء بسرعة تعادل 600 كم في الثانية.
ومع أنّ علماء الفلك استطاعوا قياس هذه السرعة الخاطفة، إلّا أنّهم لم يستطيعوا تفسير منشأها.
نطاق التفادي
في البداية، لماذا كلًّ هذا الغموض؟ فعلماء الفلك محترفون في رصدِ الأشياء في الفضاء، لأنّ هذا هو عملهم، لذا لا بدّ أنّك الآن تفكّر بأن أحد ما قد وجّه تيليسكوباً في اتجاه هذه الحركة و استطاع تفسيرها بسهولة، لكن هنالك مشكلة واحدة، فمهما كانت ماهيّة الجاذب الأعظم هذا، إلا أنه موجود في اتجاه كوكبة قنطورس الفلكية، وشريط مجرتنا يحول بيننا وبين رؤيته.
ومجرتنا مليئة بالخردة كالنجوم، والغازات، والأتربة، والمزيد من الغازات – وكل هذه النفايات تحجب معها الضوء القادم من الكون البعيد.
إننا محترفون في رسم خرائط كونيّة على مقاييس كبيرة لبُنية الكون، باستثناء أننا مُجبرون على النظر إليه من خلال مجرتنا، وبسبب وجود هذه اللكمة الدرامية، دعى الفلكيون تلك المنطقة التي يصعب رصدها ب «نطاق التفادي».
وها هو الجاذب الأعظم، يتوارى عميقًا خلف هذا النطاق حيث يصعُب تمييزه، ومن حسن حظنا أنّ هذا الواقع بدأ بالتغيّر، حيث استطاع الفلكيون بفضل أشعّة إكس والراديو النظر عبر أعماق مجرتنا المظلمة وبدأوا بوضع مخططات أوليّة للمنطقة المجهولة من الكون.
إما أن تكون عظيمًا أو لا تكون
حتى نفهم حجم الجاذب الأعظم، يجب أن ننظر إلى الصورة الكاملة. وهنا أعني بالكاملة: أكبر صورة على الإطلاق.
خلف مجرة درب التبّانة هنالك جارتنا الأقرب إلينا مجرة أندروميدا. وهي تبعد عنّا زهاء مليونين ونصف سنة ضوئية، وعندما نتحدث على هذا المستوى من المقاييس يجب ألا ننسى مجرة المثلث، وعدة مجرات أُخرى تشكل معاً مجموعتنا المحلية، رابطًة بينها الجاذبية لتكوّن تجمّعاً يبلغ قطره 10 ملايين سنة ضوئيّة.
وعندما ننظر أبعد من ذلك، نجد عنقود فيرجو، هذا العنقود هو بمثابة قلب المدينة لمنطقتنا المحليّة في الكون: فأكثر من 1300 مجرة تتكوم في هذا التجمع الكثيف في نطاق يبلغ 65 مليون سنة ضوئية. كذلك الأمر فإنّ عنقود فيرجو مقيّد بالجاذبية، الأمر الذي يعني أن مجرات العنقود تميل إلى أن تتحرك قرب بعضها البعض وترتبط معاً بجاذبيتها المشتركة.
بالنظر أبعد من ذلك سنجد أنّ الأمور أصبحت أكثر غموضاً. عند دراسة المفاهيم التي تعرّف البنية فوق المجرّية، يوجد هناك مجموعات كبيرة تسمى ب العناقيد الفائقة، ولم يدرج هذا المفهوم إلا مؤخراً. وبناءاً على دراسة العناقيد استطعنا رسم خرائط لهذه البُنى أو تسميتها بأسماء مكتشفيها مثلًا: العنقود الفائق فيرجو، العنقود الفائق هيدرا قنطورس، العنقود الفائق شابلي، إلخ .
هذا التعريف كان على ما يرام إلا أن احتجنا إلى عمل أكثر احترافية، لنعرف بالضبط ماهية الجاذب الأعظم.
اسبح مع التيار
إننا نعيش في كون هرمي الشكل، وقد تغير هذا الكون خلال 13 بليون سنة ونيّف، تراكمت خلالها المادة المشتتة في تجمعات أصغر، والتي بدورها اندمجت مع مجموعات أكبر، والتي أيضاً بدورها انضمت إلى مجموعات أكبر منها. وقد وصل هذا النمط إلى نهاية في أيّة حال عندما بدأت الطاقة المظلمة بالهيمنة قبل خمسة مليارات سنة، لكننا لن نتشعب هنا.
لقد شكّل كوننا حتى هذه اللحظة العديد من المجرّات والعناقيد.
ولا تزال مجموعتنا المحلية تتكاثف، فمجرة درب التبانة وأندروميدا في طريقهما إلى التّصادم بعد حوالي 5 مليارات سنة.
كذلك الأمر بالنسبة لمجموعات وعناقيد أخرى، فهي جميعاً تُبحر بفعل الجاذبية إلى قلب عنقود فيرجو، الذي يقبع في منتصف ما يُدعى أيضًا بالعنقود الهائل فيرجو.
وكل ما هو قريبٌ منا بما في ذلك مجرة درب التبانة وأندروميدا وعنقود فيرجو وما يحيط به يتّجه باتّجاه الجاذب الأعظم. لقد بدأت مجموعة من الدراسات المعقدة في نطاق التفادي ودراسات أُخرى لفهم ماهيّة العناقيد الفائقة بكشف الغموض الذي يخيّم على الجاذب الأعظم.
قادتنا دراسات لسرعة المجرات في نطاقنا المحلي في الكون إلى فهٍم أفضل للعناقيد الفائقة عوضاً عن تسميتها ب «مجموعة كبيرة من المجرات»، وهو حيز كبير في الفضاء تسير فيه جميع المجرات حول مركٍز مشترك. وهذا التعريف أعاد صياغة فهمنا للكون. كما تبيّن أن العنقود الفائق فيرجو ليس جسماً معزولاً، لكنه ليس إلا ذراع هائلة الحجم لبنية أكبر تسمى : «العنقود الفائق لانِكيا-the Lanikea supercluster».
الجاذب غير الأعظم
بالنظر إلى البُنى فوق المجرّية بعيون ترى تدفّق المادّة، تسهُل رؤية ماذا يحصل في الجاذب الأعظم. نحنُ نعيش في كونٍ هرميّ، مع بُنى صغيرة تُكّون بُنى أكبر منها مثل قطع الليجو المجرّية التي تكّون أشكالًا أكبر منها. أمّا مجرّة درب التبانة وأندروميدا فهما تتجهان باتجاه مركز مشترك ومحلي كلّما تكاثفتا أكثر. وكلُّ ما كان هنا في عنقود فيرجو الهائل يسقط باتجاه هذا المركز ألا وهو عنقود فيرجو، وهنا يجب أن نتذكّر أنّ هنالك فرق بين عنقود فيرجو الهائل وعنقود فيرجو، فالثاني هو جزء من الأول.
جميع الأشياء في العنقود الفائق لانِكيا تسقط باتجاه المركز، ويحتلّ مركز لانِكيا عنقود آخر يُسمى بعنقود نورما، وهو عبارة عن تراكم جميع الغازات والمجرات التي سبقتنا إلى هناك.
نستنتج هنا أن الجاذب الأعظم ليس شيئاً ما بل مكان ما: وهو النقطة المحورية لموقعنا في الكون، كما أنّه النتيجة النهائية لمجموعة عمليات استمرت على مدى 13 مليون عام، وهو النتيجة الطبيعية لمسيرة المادة في كوننا. كيف بدأت هذه العملية؟ حسناً، هذا، أيضاً، مقال اخر.
في النهاية، لن يبقى الجاذب الأعظم عظيماً لوقٍت طويل. في الحقيقة، لن نصل إليه أبداً، لأنه قبل وصولنا إليه، ستمزّق الطاقة المظلمة عنقود نورما بعيداً عنا. ستبقى العناقيد كما هي، لكن العناقيد الفائقة لن تمتلك هذا الاسم لوقت طويل. لذا خذ نفساً عميقًا في هذا الشأن، لأنّه لا يوجد ما يُقلق فيما يخصّ الجاذب الأعظم.