فيلم "صحارى" إيقاع متسارع وطابع حاد في حكاية من العمق الجاف
عبدالرحيم الشافعي
الأربعاء، 30 أغسطس، 2023
رمال الصمود وأحلام الهروب
ما يجعل من فيلم ما عملا سينمائيا ناجحا هو الحبكة والإيقاع، الكثير من الأفلام المشغولة جيدا تسقط ما إن تفقد الإيقاع وتتراخى الحبكة، وهذا ما يعيه المخرجون المعاصرون، إذ يقدم الكثير منهم أعمالا تقوم على التحكم الكبير في الإيقاع للإمساك بالمتلقي.
يأخذنا فيلم “صحارى” في رحلة سردية متشابكة ونحن نتابع مهدي وحميد، اللذين تمتد علاقة الصداقة بينهما لسنوات طويلة، ويعملان في شركة تختص بتحصيل الديون. يجوبان قرى جنوب المغرب الكبير بسيارتهما القديمة، ويتشاركان غرفا مجاورة في فنادق بسيطة. رغم دخلهما المحدود، يتظاهران بأدوار شخصيات ذات قوة لتحقيق أهدافهما المادية.
في أحد الأيام، تتوقف أمامهما دراجة نارية في محطة وقود وسط الصحراء، وعلى حمالتها راكب مكمم اليدين. يظهر هذا الراكب تهديدا وهو “الهارب”، ومن لحظة اللقاء هذه تبدأ رحلة غير متوقعة ومليئة بالتحديات.
بجمالها الشاسع وجفافها المميز، تترك صحراء المغرب أثرا نفسيا عميقا على أي مغامر يتخذها وجهة له. أمام قوة الطبيعة المتواصلة، يبدو اهتمام الإنسان بأمور تافهة من حياته اليومية وكأنه تفاصيل عابرة. هذا الاستدراج الذي يفرضه المكان يثير تواضعا فوريا في وجه كل من يدخله، هذا ما ينجح في رصده المخرج المغربي فوزي بنسعيد في فيلمه “صحارى”.
يأخذنا مهدي، الذي يجسد دوره الممثل فهد بنشمسي، وحميد، الذي يقوم بأدائه عبدالهادي طالب، الشخصيتان الرئيسيتان في فيلم “صحارى”، إلى جاذبية الصحراء المغربية بكل جدية. ينتقل هذان الرجلان عبر هذه الأرض القاسية بسيارتهما بالغة القدم، مرتديين ثيابا بسيطة، يجوبان القرى بحثا عن فرصة لإقناع الأهالي بسداد الديون التي قد يكونوا عاجزين عن تسديدها بالفعل.
ما وراء الرمال
◙ الصمت يخلق جوا من التوتر المتوقع
هذه المهمة البسيطة وعديمة الجدوى تقودهما بسرعة نحو مجموعة من الأفعال الهمجية والساذجة، وفي الواقع، يمثل النصف الأول من الفيلم، الذي تم تقديمه لأول مرة في قسم “كاميرا الأقليات” بمهرجان كان السينمائي، سلسلة مسلية من المشاهد الكوميدية التي تسلط الضوء على مغامراتهما بطريقة رائعة.
تصوير المخرج فلوريان بيروتي، الذي أخرج أيضا فيلم “L’Autre Laurens”، والذي تم عرضه أيضا في قسم “كاميرا الأقليات”، يعكس بدقة جمال وصرامة الديكورات بتفاصيلها المدهشة. وهذا الجانب المذهل يمثل أحد الدلائل على أن البداية الممتعة لن تستمر بنفس الوتيرة وهذا ما نجده في “صحارى”.
◙ الفيلم يتطلب من الجمهور الذي اعتاد على وتيرة أكثر مرحا وتعاطفا أن يبدي صبرا لمتابعته واستيعاب رسالته الجديدة
هناك علامة أخرى تدل على عدم استمرار الفيلم في تبني نمط المراقبة من خلال تقريب الكاميرا من الشخصيات بشكل منتظم، لتسليط الضوء على عبثية جهود الشخصيّتين المحوريتين فيه، مع التحول إلى رصد تكوينات أقرب.
يظهر وجها مهدي وحميد بوضوح أكبر في هذه اللحظات، ليصبحا فردين لديهما مشاكل حقيقية بدلا من مجرد تجسيدات مبالغ فيها يمكن السخرية منها. وإذا كان مهدي هو الأكثر تفاؤلا بينهما، فذلك يعود إلى سبب بسيط: ليس لديه شيء آخر يفقده، إذ انفصلت عنه زوجته وربما لن تعود أبدا، لذا عليه ضمان رعاية ابنته بمفرده.
النصف الأول من الفيلم يجمع بين الفكاهة والسرور، دون أن يصبح مظلما، وتعتبر الوضعية الاقتصادية الهشة للبلاد خلفية للنكات والمواقف. يظهر التغيير المفاجئ في النصف الثاني كخطوة غامضة، حيث تعاد نفس الأفكار ولكن بلمسة أكثر جدية وتركيزا تقريبا. يتطلب الأمر من الجمهور الذي اعتاد على وتيرة أكثر مرحا وتعاطفا أن يبدي صبرا إذا ما أراد متابعة الفيلم واستيعاب رسالته الجديدة.
يظهر التغيير المفاجئ في الوتيرة مع دخول شخصية مركزية ثالثة وغامضة، والتي لا يكشف عن اسمها في البداية (ربيع بنجهيل). يتفق الثنائي مهدي وحميد على نقل هذا الغريب المكمم إلى السلطات، بهدف مساعدة الرجل العجوز في اعتقاله وبالتالي الحصول على المكافأة الموعودة. يبقى أسلوب الفيلم هنا دون تغيير كبير، ولكن المعاني والانطباعات التي تستحضر تتغير بشكل كبير.
في اللحظات الكوميدية السابقة، كان غياب الحوار يسلط الضوء على العناصر البدنية للكوميديا. أما هنا، فيخلق نفس الصمت جوا من التوتر المتوقع، إذ تتحول المشاهد إلى أوجه أقل طرافة. بالتالي، في هذا النصف الثاني من الفيلم، تظل الكاميرا بعيدة عن الأحداث تماما، كما كانت في مشاهد رحلتهما في البداية، ولكن هذا البعد البصري يعكس الآن شعورا متناقضا بالعجز أمام تصاعد العنف على الشاشة.
عوالم الصمت والقرارات
◙ الفيلم يجمع بين المزاح والجدية
من خلال المشاهد الصامتة المتجاورة، نتعلم ببساطة أن الرجل المكمم قد تم انفصاله بالقوة عن زوجته على يد شخص معين قام بخطبتها. تم إجبارها بعد ذلك على الزواج من هذا الشخص. وعندما ينجح الغريب الغامض في الفرار من الحراسة، يترك الفيلم مهدي وحميد تقريبا بمفردهما ليتبع رحلته الخاصة، وهو ما يضيف تعقيدا إلى القصة.
قصته تحمل أجواء الحكايات الشعبية، وهو يتناغم تماما مع جمال اللقطات المرئية. ولكن التغيير المفاجئ في اللهجة يجعل هذا النصف الثاني من الفيلم، الذي يأتي بعد النصف الأول الدينامي والمشوق، يتطلب تمهلا في تلقيه وفهما أكثر عمقا.
◙ النصف الأول من الفيلم يمثل سلسلة مسلية من المشاهد الكوميدية بينما يظهر التغيير المفاجئ في النصف الثاني
على العموم، فهذه القصة التي ترتبط أيضا بموضوع الديون والمال تم تقديمها بشكل رائع، ولكنها لم تضف الكثير من العناصر الجديدة. إذ تبرز مصير الغريب وتبدوا أكثر رومانسية، وتقدم سلوكه الذي يتسم بالكرامة، بينما تقدم شخصيات المزارعين وهي تحاول الحصول على تعاطف مهدي وحميد في البداية. وعلى الرغم من ذلك، ينتهي العمل بمصير محزن يشبه إلى حد كبير مصائر الأشخاص الفقراء الذين يضطرون إلى التخلي عن ممتلكاتهم الثمينة.
فيلم “صحارى” يتميز بطابعه الحاد وإيقاعه المتسارع. يعكس الإخراج ثقافة المخرج المسرحية والمليئة بالحيوية. إذ يقوم المخرج بابتكار مشاهد مرحة وحوارات لذيذة في الكثير من الأحيان، حيث يتم تصميم كل جزء من الفيلم لجلب الضحك لدى المشاهدين.
وفي الوقت نفسه، يثير الفيلم تساؤلات عميقة حول وضع المغرب على وجه الخصوص، حيث يظهر تأثير الوضع الاقتصادي الصعب على سكان الريف الذين يجبرون على الديون والاستسلام للظروف القاسية التي تفرضها منظومات الديون والائتمان.
يمتاز الفقر بأنه يمس غالبية الشعب في البلاد، ويعيش جزء منهم في منازل بدون أسقف، مما يبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المغاربة. على الرغم من أن المغرب يعتبر جزءا من الدول الناشئة ويمتلك إمكانيات كبيرة، إلا أنه لا يزال يعاني من الفقر والتهميش في بعض المناطق.
ويجمع الفيلم بين المزاح والجدية بطريقة مميزة، حيث يقدم مزيجا من المشاهد الكوميدية واللحظات الحساسة. ويعرض بشكل فريد وخصب تحديات المجتمع والوضع الاقتصادي، مما يجعل المشاهدين الغربيين يفكرون في وضعهم الاقتصادي الخاص.
عبدالرحيم الشافعي
كاتب وصحافي مغربي