يتكون المعلق الرياضي العربي من شاعر، خطيب، خبير سياسي... ومواطن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يتكون المعلق الرياضي العربي من شاعر، خطيب، خبير سياسي... ومواطن

    المعلق الرياضي في العالم العربي: شاعر، خطيب، خبير سياسي... ومواطن
    طالب شحادة
    الأربعاء 30 مارس 2022 م
    "أمضي عبر العالم حاملاً قبعتي، وأتوسل في الاستادات: لعبةً جميلةً حباً بالرب. وعندما أرى كرة قدم جيدةً، أحمد هذه المعجزة دون أن يهمني قدر فجلةٍ من هو النادي أو البلد الذي قدّم ذلك اللعب الجيّد". إدواردو غاليانو- كرة القدم في الظل والشمس
    الدقيقة الثانية من الوقت الإضافي من شوط المباراة الثاني. التعادل يتسيّد المباراة. الأنفس كامنة في الحناجر. إنها من اللحظات التي من الممكن أن يتحول المكان فيها إلى ساحة جريمة. يأتي النادل:
    -ماذا تطلبون شباب؟
    -لا لا ليس الآن، هذا الفريق اللعين، سيقومون فجأة بمرتدّة من لا شيء، لعبٌ مقرف يا رجل. ممم طيب لا بأس، عندك تنكة بوم بوم، أو لا لا أعطني قنينة عصير ليمون أو..
    -هششش هجمة خطيرة، يا الله



    يرفع الشباب مؤخراتهم عن الكراسي نصف رفعةٍ، وأيديهم تلتف بشدةٍ على أذرعه تكاد تحطمها، أشداقهم نصف مفتوحة وعيونهم جاحظة كأنهم يشهدون شريط حياتهم قبل الموت، فجأة ترتفع نبرة المعلق طرداً مع تسارع اقتراب المهاجمين من منطقة الجزاء: "ممتازة من سيرجي، في وسط الملعب مرّ، مرتدة سريعة لبرشلونة خطيرة، خمسة مقابل ثلاثة للبرصا عاليسار، فرصة للويزيتو سوارييز، وهذا غوميز، غوميز يلعبها، والتمريرة وكوورة ... أووووو(لمدة ست ثوان)ووه يا إلهيييي (لمدة سبع ثوان) يييي يا إلهيييي، ميسي لديكممم، لا خوف عليكممم ...".


    يقفز مشجعو البرشا (نادي برشلونة) عن مقاعدهم ويعلو الهتاف على صوت المعلق، يتدافعون، تنقلب الطاولة المجاورة، وصاحب القهوة بابتسامة خفيّة كابتسامة الأم وهي تشاهد ابنها وقد ملأ الدنيا طحيناً، يتمنّى بعين تلمع لو يقول: "فداكم فدى البلوغرانا يا شباب".

    لن تجد مباراةً لا يطيب البدء بها، إلا بوجود شخصٍ غيابه مساوٍ لخطورة غياب لاعب "رأس الحربة" في فريقك أو"صانع الألعاب"، مباراة يختلط فيها تحليل اللعب والتكنيكات ببعض الأبيات من معلقات العرب الجاهلية، بقليل من السجع والجناس والزجل، بشيء من نقل الواقع المعيشي والواقع السياسي والمشاعر الوجدانية، هي المباراة بالتعليق الرياضي للمعلقين العرب على مباريات كرة القدم. مرحباً بك في استديو "بي إن سبورت" للمعلقين.

    يعرّف الناقد الرياضي والعاملون في مجال الصحافة الرياضية مهنة التعليق بأنها تفرع من الصحافة الرياضية عامةً، وهي الصحافة التي تتناول الموضوعات الرياضية في المجتمع والعالم، وتتوجّه بشكل خاصّ إلى فئة محددة من المعنيين بالألعاب الرياضية، وهي مواكبة للصحافة قبل التخصص في وجودها، وتهتم بالرياضة بما هي نشاط اجتماعي يمارَسُ في الحياة اليومية، بل هو قد أصبح أسلوب حياة في حد ذاته. يقوم التعليق الرياضي كمهنة وفنّ، على مواكبة المباريات صوتياً أثناء بثّ المباراة، ويختلف باختلاف الوسيط الذي تنقل المباريات عبره، فالتعليق عبر الإذاعة غير التعليق عبر قنوات البث المتلفزة.

    يقوم دور المعلق إجمالاً على قسمين أساسيين: المشاركة في تلقّي المباراة وبث الحماس إبعاداً للملل من جهة، وتقديم بعض السياقات المتعلقة باللعبة الجارية، من تقديم أو تمرير لبعض المعلومات المناسبة دون الدخول في التحليل المفرط، فيتداخل مع دور المعلق الرياضي الذي في الاستديو التحليلي الموصوف لها.
    يقسم التعليق الرياضي الحيّ إلى مدارس متعددة، فمنه التعليق الإنكليزي الذي يتسمّ بالهدوء والرزانة والحيادية ولا يخرج عن إطار المباراة، كأنه أحدُ طقوس احتساءِ الشاي الإنكليزية، و في المقلب الآخر التعليق اللاتيني، وهو كما اللاتينيين أنفسهم وطرق لعبهم، حارّ الطبعِ، أقرب للشعبية من التعليق الإنكليزي الموحي بالنخبوية. وبالطبع يُفترض أن يمتلك المعلق ميزات، منها الصوت المناسب والثقافة الكروية الرياضية.
    هل هناك مدرسة للتعليق العربي ؟


    ينال التعليق على مباريات كرة القدم عند الجمهور العربي الاهتمام الأوسع لأسباب قد يتبين بعضها في هذا المقال، يوقّع هذا الجمهور كلام بعض المعلقين على ستورياتهم في مواقع التواصل، ويستعملونها في إثارة غيظ المنافس الخاسر. فهل يمكننا التحدث عن مدرسة عربية في التعليق الرياضي؟ وما الذي يميّزها إذن؟
    المعلق عربي فرد مثلنا، تحضر في رأسه وهو يتابع المبارة هموم المنطقة ويفيض لسانه بمشاكلها

    قبل أن ينخرط المعلق الرياضي في مهنته، نشير إلى أنه بداية، فرد ككل الأفراد، تضيق به الهموم السياسية والمعيشية. قريب من المآزق وعلى دراية بها. ويجول في لاوعيه تاريخه الطويل بإرهاصاته وأحداثه. فأول ما يظهره لك المعلق العربي، مأزقه اللغوي المنقسم بين العامية والفصحى. ففي أحداث انفعالية كالمباريات الكبرى، تتداخل العامية والفصحى في كلامه، بل إنك لتجد محاولات في الشعر الحديث أثناء التعليق، كما في مقدمات التونسي عصام الشوّالي لمباريات الكلاسيكو في الدوري الإسباني مثلاً.

    وبعيداً عن الانحيازات في التشجيع التي قد تظهر في نبرة المعلق على أول هجوم يقوم به فريق ما، فتستشعر في كلامه تصبب العرق وانتفاخ عروق الرقبة واللعاب المتطاير، فإن المعلق العربي غير بعيد عن تمرير التعليقات السياسية التي تكشف لك انتماءاته ومواقفه من المسائل الكبرى، أو موقفه من قضايا تشغل الرأي العام في وقتها. وكي نكون واضحين بشكل أكثر، سنحاول تقسيم التعليق وفق الأنماط السائدة، التي قد تتضّح في شخص واحد، فمن أول ميزات المدرسة العربية، تمحورها حول معلّق مشهور قبل أن تكون مجموعة من المبادئ في وقتنا هذا.

    المعلق الحربي/العسكري


    ينسى هذا المعلق نفسه في غمرة المباراة، ويذهب خياله بعيداً، فينتقل من مباراة كرةٍ إلى مباراةِ مصارعةِ أسود في المدرجات الرومانية، يرجع بنفسه إلى ميدان الحروب والفتوحات، كالمعلق العُماني خليل البلوشي مثلاً، في تعليقه على بأس أحد اللاعبين في الملعب وشدّته وافتخاره بنفسه، مقتبساً شعر عنترة العبسي:

    "أنا العبد الذي خُبِّرتَ عنه / وقد عاينتني فدع السماعا/ وسيفي كان في الهيجا طبيباً / يداوي رأس من يشكو الصداعا" ولا نعرف في الحقيقة ماذا ستكون ردّة فعلِ اللاعب لو سمع هذا التعليق.

    البلوشي الذي طغى عليه معجمه العسكري، فقامت عليه القيامة بسبب تعليقه على هدف للمنتخب القطري في مرمى الإمارات في كأس آسيا 2019 قائلاً: "بالشمع الأحمر، الهيدوس [اسم اللاعب] داس عليهم دوس"، لقد أوقع الجناس بالبلوشي العزيز في مأزق أمام صحفيي الإمارات، حين جعله ضائعاً بين التعليق على مباراة كرة وبين حرب داحس والغبراء بسهولة تامة. وقد تكلم الإمام الجرجاني عن الأفضلية البيانية للجناس الآتي طباعاً دون تكلف وفضّله على البديع المتكلَف. نجح البلوشي في امتحان البلاغة ورسب في بعض امتحانات التعليق الرياضي، وسحبت منه على إثرها في 2019 جائزة "زاهد قدسي" التي سبق وأعطيت له في 2015.
    المعلق العربي يلقي الشعر الموزون، يسجع ويطابق ويجانس، وأحياناً يشعل بكلمة أزمة سياسيّة لا فكاك منها بسهولة
    المعلق الأدبي/ الوجداني


    يثبت الأدب بفروعه دائماً أنه المنهل الأساسي لثقافة الفرد العربي، وبين الأدب وكرة القدم روابط عديدة لا يسهل التقاطها إلا على ذهنٍ حسّاس وشاعري، ولربما خير من يمثّل هذا الاتجاه هو إدواردو غاليانو في كتابه "كرة القدم في الظل والشمس". لكن غاليانو ليس معلقاً رياضياً، كما أن الشوالي ليس إدواردو غاليانو.

    من المعروف عن المعلق التونسي حبّه الشديد للثقافة التاريخية بشكل عام، ويطيب للشوالي أن يطرق باب الارتجال الأدبي بالسجع عادة. يعد تسجيل الهدف عند الشوالي القافيةَ الأخيرة من سطر شعري طويلٍ متقطع، إذ هو أقرب للشعر الحر من الشعر العمودي بطبيعة الحال، سطر مفتوح بتفاعيله، طولاً ونبراً يختلف من لاعب لآخر، ويتنقل بين المديح والانفعال. يحسب الشوالي طول جملته اعتماداً على حجم المساحة المتبقية للمهاجم من منطقة الجزاء، كأنه لاعب خط وسط يبحث عن مساحات، لكنه لا يدع لك بالمقابل المجال الكبير للترقّب بصمت، المشهور عنه بأنه "صمت ما قبل العاصفة" يعني. فإذا كان البلوشي ينقل لك الشعر كما هو، فإن الشوالي يلقي عليك نسخته الخاصة من الشعر العربي، فيأخذ من المتنبي أبياته المشهورة من قصيدته الميميّة: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي..." ويجعلها "أنا الذي نظر العاشق لقدمي/ وأطربت مراوغاتي من به عقد/ ووصلت أهدافي لمن يعشق الطرب/ أنا ميسي كبيرهم على صِغَرِي"، ونظن أن سيف الدولة لو سمع عن هذه الفعلة لَأَمَرَ بسجن الشوالي فوراً.

    يتربع على عرش المعلقين (الأدبيين) اسم لا نستطيع نسيانه، ونقصد سليمان العنزي، الذي يعدّ عمر بن أبي ربيعة المعلقين، يتغزّل بالمشجعات واللاعبات على حد سواء، ويدافع عن نفسه بأنه معلق ساخر. ونتحفظ عن ذكر تعليقاته، نظراً إلى أن المقال لا يحتمل.
    لا يتردد المعلق العربي بتأليف الشعر ونَحلِه وقَرظِه، وكأن لغة الأدب قادرة على محاكاة حماس اللعب
    المعلق السياسي


    تتقاطع الأحداث عامةً وتتأثر بالمجريات السياسة في البلدان، ولنا في الحرب الدائرة خير مثال على ذلك، بفرض عقوبات على روسيا من بينها العقوبات الرياضية. هذا الاحتكاك بين المجالين ليس بجديد. فانتصار مارادونا على الإنكليز ما زال موثقاً بهدف لمسة اليد وأبعاده معروفة. ولغاليانو في هذا المجال أمثلة عديدة، فعلى حد تعبيره "كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام".

    يبرزُ المعلق كمحلل سياسي في تعليقه أو خارجه، إن لم يكن كاتباً في الشؤون السياسية أصلاً كالمعلق حفيظ الدراجي، فله مؤلفات عديدة خارج عالم الكرة، وتعليقاته المثيرة للجدل على مواقع التواصل دائرة دائماً. ولعل من أقرب الأمثلة على التعليق السياسي الداخل ضمن التعليق الرياضي، ما قاله الشوالي مؤخراً في تعليق حول الحرب الأوكرانية الروسية، منتقداً ازدواجيّة المعايير في التعامل مع القضايا بقوله: "غالطوك فقالوا السياسة والرياضة منفصلان، لا هما وجهان لعملة واحدة. مع التحفظ على الأخطاء اللغوية بطبيعة الحال"،وقياساً على كلام غاليانو، فإن فن السياسة والرياضة هما فعلاً وجهان لعملة واحدة.

    كي لا نطيل، تبين هذه المطالعة أن المدرسة العربية في التعليق إن وجدت، فلها إيجابياتها كما سلبياتها، وهي لاتينية أكثر من اللاتينية نفسها أحياناً، وهي أقرب إليها من الإنكليزية، وحين يأتي الأمر للمعلومات العامة فهي تغرق المستمع بها، والتي يكون لها دخل وأحياناً لا دخل لها كلياً بالمباراة. وهي تحاول الاختلاف والتفرد، إذ كلُّ معلق يحاول التميّز وفق أسلوب معيّن، فتجد منهم من يعتمد اعتماداً كبيراً على المحسنات البديعية والمبالغة في الانفعال، ومنهم من يبدي آراءه التكتيكية والاستراتيجية في اللعب كأنه واحدٌ من الطاقم الفني، بالإضافة إلى أن معظمهم يعتمد على النقل الحَرفي للمشاهد لفظياً، حتى قيل إنه لو أجبرنا المعلق على السكوت قليلاً لقضى نحبه.

    في النهاية، يعدُّ المعلق مشاهداً ومشجعاً قبل كل شيء، هو أحد المسحورين بهذه المستديرة، يضخ دمه بالتوازي مع المرتدات أو التسديدات المجانبة للعارضة أو المستقرة في هدفها، قد يكون لسانَ حال أحدنا، أو لسان خيبة الآخر، وله بالتأكيد حساب في الديون التي على المشجعين دفعُها بسبب كسرهم لبعض الطاولات والأكواب.

يعمل...
X