القاعدة الشرعيّة
القاعدة لغة: الأصل والأساس، تجمع على قواعد، وهي أسس الشيء وأصوله حسية مادية كقول: قواعد البيت، أو معنوية كقول: قواعد العلم والحساب. وتطلق في الاصطلاح العام على ما يرادف الأصل والقانون والضابط وتعرّف: أنها أمر كلّي منطبق على جميع جزئياته، أو قضية منطبقة على جميع جزئياتها.
وبهذا الاصطلاح تعمّ كلّ كلّي يندرج تحته مجموعة من الجزئيات المتجانسة المتشابهة في حكم ما، تبعاً لأصل وأساس واحد يجمعها، يطلق عليه اسم الكلّي أو القضية الكلّية.
ولكل علم أو فن أو اختصاص قواعده وأصوله، فهناك قواعد نحوية مثل: الفاعل مرفوع والمفعول منصوب. وهناك قواعد فيزيائية وهندسية وطبية وقانونية، والبحث هنا في القواعد الشرعية. وهي المستفادة من علوم الشريعة وأدلتها الأصلية: القرآن والسنة والإجماع، أو الفرعيّة كالاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وما انبثق من ذلك من اجتهادات للفقهاء.
وتتفرع القواعد الشرعية من أصلين رئيسين:
أحدهما: قواعد الأصول، والثاني: قواعد الفروع.
أما قواعد الأصول فتشمل:
آ ـ قواعد أصول الفقه: التي يتوصل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
كقاعدة: «الأمر يفيد الوجوب» فهي قضية كلية ينطبق الحكم على جزئيات كثيرة، منها الأوامر الأربعة في قوله تعالى: ]أَقِيمُوْا الصَّلاةَ وآَتُواْ الزَّكَاةَ[(البقرة43) وقوله: ]واعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافْعَلُواْ الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[(الحج 77) وتفيد وجوب الصلاة والزكاة وعبادة الله وفعل الخير.
وقاعدة: «النهي يفيد التحريم»، قضية كليّة ينطبق الحكم فيها على جزئيات كثيرة، منها النهي الوارد في قوله تعالى: ]لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٌ[(الحجرات11) وفي قوله: ]وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِاْلبَاطِلِ[(البقرة188) ويفيدان تحريم السخرية من الغير وأكل أموال الناس بالباطل.
ب ـ قواعد الحديث: وهي القواعد التي وضعت لرواية الحديث وتدوين السنة، وقبول الأسانيد وترتيبها والحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع وتسمّى (مصطلح الحديث). وهي ضرورية للمجتهد ليميّز الصحيح من السقيم في النصوص مثل:
(كلّ ما كان من أقوال الرسولr أو أفعاله أو تقريراته فهو سنة). و(كل من رأى رسول اللهr غير منافق ولا كافر فهو صحابي) و(الصحابة عدول وإن كانوا مراتب في الفضل) و(إذا أُسند الحديث إلى النبيr فهو مرفوع).
وأما قواعد الفروع: فهي القواعد و الضوابط الفقهية التي تجمع جملة الأحكام المتشابهة، وتضمّ شتات الفروع الفقهيّة. وتتميز من قواعد الأصول:
ـ بأن ظهورها متأخر في الوجود الذهني والواقعي عن الفروع التي تجمعها وتلم شتاتها، لأنّها ناشئة من الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، على حين تسبق القواعد الأصولية في الوجود جزئياتها، وأغلبها ناشئ من الألفاظ والقواعد والنصوص العربية.
ـ وإنّ موضوع القواعد الفقهية أفعال المكلفين من صلاة وصيام وبيع وشراء وأكل وشرب ولباس وسفر وإقامة وضرورة وحاجة أو ترفّه، ولهذا فهي من مهمات الفقيه أو المفتي أو المتعلم. وأما قواعد الأصول فموضوعها الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وما يلحق بهما، فهي مهمات المجتهد يحتاجها عند استنباط الأحكام من مصادرها.
ـ وإن قواعد الفروع أغلبية تكثر فيها الاستثناءات التي ينشأ منها قواعد فرعية أخرى. في حين تتصف قواعد الأصول بالعموم والشمول لجميع فروعها، وتتصف بالاطراد فلا تنخرم كليتها.
وتختلف القواعد الفقهية فيما بينها:
أ ـ من حيث الأصالة أو التبعية إلى:
ـ قواعد هي أساس وأصل لغيرها كقاعدة (الضرر يزال)، فهي أصل وأساس لقاعدة (الضرر لايزال بالضرر) ولقاعدة (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف).
ب ـ من حيث العموم والشمول:
ـ فهناك قواعد كبرى أشبه بالنظريات العامة لاستيعابها أحكاماً لا تحصى، وهي في أصلها متفق عليها، ويدخل الخلاف فيما يدخل تحتها من مسائل؛ كقاعدة (الأمور بمقاصدها) و(اليقين لايزول بالشك).
ـ وهناك قواعد كبرى متفق عليها أيضاً لكنها أقلّ شمولاً من التي قبلها، وقد تندرج تحتها، وهي تضم فروعاً من أبواب فقهية كثيرة، وتسمّى بالنظر لما سبقها قواعد فرعية أو جزئية، كقاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله).
ـ وهناك قواعد عامة مختلف فيما يدخل تحتها من قضايا، ترِد بصيغة الاستفهام كقاعدة (هل العبرة بالحال أو بالمآل) و(النادر هل يلحق بنفسه أم بجنسه).
ـ وهناك قواعد مختصة غالباً بباب واحد من أبواب الفقه، بعضها متفق عليه كقاعدة (كلّ ما جاز بيعه جاز رهنه) و(كل ماء لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور).
ـ وبعضها مختلف فيه كقاعدة (كلّ عضو غسل يرتفع حدثه أو لا يرتفع إلا بالكمال والفراغ) و(كلّ جزء في الصلاة قائم بنفسه، أو صحة أوّلها تتوقف على صحة آخرها) و(الكفار مكلّفون بفروع الشريعة) و(المحرم إذا أخّر أو قدّم النّسك عن الوقت المحدد له لزمه دم).
واصطلح بعضهم على تسمية هذا النوع بالضوابط بدلاً من القواعد، لأنّ القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتّى والضابط يجمعها من باب واحد.
نشأة القواعد ومكانتها في الشريعة
ظهرت القواعد الشرعية بقسميها بعد عصر الصحابة والتابعين، لأنّ الأحكام في زمن الرسول rكانت تؤخذ من قوله أو فعله أو تقريره من غير احتياج إلى تلك القواعد.
ولمّا لحق النبيr بالرفيق الأعلى، قام أصحابه من بعده باستقاء الأحكام من القرآن الكريم[ر]، بما تمتعوا به من علم باللغة ومعرفة كاملة بأسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وبما كانوا عليه من صدق الإيمان وصفاء الخاطر ووحدة الذهن وجودة الفهم وبصيرة بأسرار التشريع ومقاصده، فإن لم يجدوا في القرآن حكماً مباشراً، لجؤوا إلى السنّة النبويّة، فإن لم يجدوا فيها حاجتهم اجتهدوا وألحقوا الشبيه بالشبيه والمثيل بالمثيل، فإن لم يجدوا للمسألة شبيهاً شرعوا لها الحكم المناسب الذي يحقق المصالح التي راعتها الشريعة في تشريع الأحكام، وعلى هذا الهدي سار التابعون.
ولمّا انقضى ذلك الزمن وذهب رجاله من الصحابة والتابعين وتوسعت الدولة ودخل فيها كثير من الأمزجة والثقافات، جدّت أمور لم تكن موجودة من قبل وأدّى اختلاط العرب بغيرهم إلى ضعف السّليقة، الأمر الذي دعا الفقهاء والمجتهدين إلى وضع القواعد والقوانين التي تتخذ أساساً لاستنباط الأحكام من الأدلّة، أو لجمعها ولمّ شتاتها، فعملوا في الإطارين الرئيسين معاً: قواعد الأصول وهي التي تتصل بالأدلّة، وقواعد الفروع وهي التي تتصل بأعمال المكلّفين.
وأوّل من دوّن قواعد الأصول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفى عام 204هـ، ثمّ تتابع العلماء من بعده لترسيخ قواعد العلم وإشادة بنيانه، فوضعوا الضوابط ضمن الأطر الأربعة الآتية:
آ ـ الأحكام الشرعية: كالوجوب والحرمة والكراهة.
ب ـ الأدلة الشرعية الأصلية والتبعية، مثل: الكتاب والسنة والإجماع وغيرها.
جـ ـ طرق استنباط الأحكام من الأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام، مثل العام والخاص والمطلق والمقيد.
د ـ المجتهد: وهو القائم بعملية الاستنباط والشروط المطلوبة فيه، وقد تمّ ذلك في ثلاثة اتجاهات:
الأول: أصول الشافعيّة والمتكلّمين: وكانت عناية الباحثين فيه متجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبي، فكثرت في هذا المنهج الفروض النظرية والمناحي الفلسفية والمنطقية.
الثاني: أصول الحنفيّة وهو الاتجاه المتأثر بالفروع، فتوجه الباحثون إلى قواعد الأصول ليقيسوا بها فروع مذهبهم، ويثبتوا سلامتها بهذه المقاييس.
الثالث: الجمع بين الطريقتين، وهي طريقة المتأخرين التي ظهرت في القرن السابع للهجرة، عُني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثبات دلالتها، ثمّ تطبيقها على الفروع الفقهيّة، فجمع أصحاب هذا المنهج بين الطريقتين السابقتين، حيث كتبوا الأصول مجردة ثم تولوا تطبيقها.
وأمّا القواعد الفقهية فقد مرّت بثلاثة أطوار:
الأول: طور النشوء والتكوين: وذلك ابتداءً من عصر الرسالة إلى عصر الصحابة والتابعين.
فإن كثيراً من أحاديث النبيr تمثّل القواعد الكلية الفقهية. كالأحاديث الآتية: «الخراج بالضمان» و«لا ضرر ولا ضرار» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم». فهي قواعد كلية تجمع فروعاً شتّى، وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: (كل شيء في القرآن: فيه» أو«فهو مخّير، وكل شيء: ورد فيه «فإن لم تجدوا» فهو الأوّل فالأوّل) أي بالترتيب ومن جزئيات الأول: قوله تعالى: ]فَفْديَةُ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[(البقرة196) ومن جزئيات الثاني قوله تعالى: ]فَمَن تَمَتًَّعَ بِاْلعُمْرةِ إلى الحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثة أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةِ إِذَا رَجَعْتُمْ[(البقرة196).
ومما نقل عن التابعين من القواعد قول شريح القاضي (76هـ/695م): (من ضمن مالاً فله ربحه)، وقول خُيْر بن نعيم روى عنه سعد بن الليث (137هـ/754م): (من أقرّ عندنا بشيء ألزمناه إياه).
الثاني: طور النمو والتدوين: وذلك من بداية القرن الرابع الهجري وما بعده، حين صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم، فنشأ ما يسمى بالقواعد والضوابط أو الأشباه والنظائر والفروق.
وأوّل من جمع القواعد في هذا الطور فيما ذكروا أبو طاهر الدباس من فقهاء القرن الرابع الهجري، فجمع سبع عشرة قاعدة، ردّ مذهب أبي حنيفة إليها، وكان ضريراً يردد قواعده هذه ليلاً في مسجده، وأن أبا سعد الهروي الشافعي رحل إليه ونقل عنه بعض هذه القواعد. ثم إن الكرخي عبيد الله بن الحسين (340هـ/951م) أخذ ما جمعه الدباس وزاد عليه، فبلغت مجموعته ستّاً وثلاثين قاعدة، إلى أن جاء أبو زيد الدبوسي (430هـ/1038م) فألّف كتابه «تأسيس النظر» الذي اشتمل على ست وثمانين قاعدة، وهو أول كتاب في القواعد يصل إلينا من هذا الطور، ثم توالت المصنفات في قواعد المذاهب، ومنها عند المالكية كتاب «الفروق» للإمام أحمد بن العلاء القرافي (684هـ/1285م) وكتاب القواعد لمحمد ابن محمد بن أحمد المقَرّي (785هـ/1356م)، ومنها عند الشافعية «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» لعز الدين ابن عبد السلام (660هـ/1261م) وكتاب «المجموع المذهَّب في قواعد المذهب» للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي (761هـ/ 1359م)، ومنها عند الحنابلة: «القواعد النورانية الفقهية» لابن تيمية الحراني (728هـ/1327م) وكتاب «تقرير القواعد وتحرير الفوائد» لابن رجب الحنبلي (795هـ/1392م).
الطور الثالث: طور الرسوخ والتنسيق: بعد أن ظلت القواعد في الطور الثاني متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمنت بعض الفنون الفقهية الأخرى مثل الفروق والألغاز، وتطرقت إلى بيان بعض القواعد الأصولية، فهذّبت ونقّحت واعتنى بصياغتها مركزة موجزة، وتمثل ذلك في وضع مجلة «الأحكام العدلية» على أيدي لجنة من كبار العلماء في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وصدرتها بمجموعة من القواعد الكلية، فشاع أمرها وارتفعت مكانتها بكثرة الرجوع إليها وإعداد شروح كثيرة لها وأصبح لها صدى كبير في المجالات الفقهية والقانونية كافة.
وقام الشيخ أحمد بن عبد الله القاري الحنفي (1359هـ/1940م) بإخراج قواعد المجلة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لكن المنيّة عاجلته قبل أن يصوغها في شكلها النهائي، فأقدم على إخراجها وتحقيقها مع الضبط والتحرير عبد الوهاب أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد علي.
والعمل جارٍ اليوم لإخراج موسوعة عامة للقواعد الفقهية بعناية مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ويتمثّل دور القواعد الشرعية في أمور أربعة:
الأول: تنظيم عملية الاستنباط والاجتهاد ضمن نظرة الإسلام الكلية للكون والإنسان والحياة في الدنيا والآخرة.
والثاني: إثبات قدرة الشريعة على الاستجابة لكل جديد في وقائع الحياة بكل جوانبها المادية والمعنوية والملائمة لكل تطور.
الثالث: وضعت الضوابط المحكمة التي يسرت لكل من المجتهد والفقيه مهمتهما، وجنّبتهما مزالق الفساد الناشئة من الأهواء والانحرافات والأخطاء الفردية.
الرابع: قدّمت للبشريّة في مجال التشريع ونقل الأخبار أنموذجاً فريداً مبتكراً، لحفظ النصوص وصيانتها، واستيعابها وفهم مدلولها وتنزيلها على الوقائع وتطبيقها.
محمد هشام برهاني
القاعدة لغة: الأصل والأساس، تجمع على قواعد، وهي أسس الشيء وأصوله حسية مادية كقول: قواعد البيت، أو معنوية كقول: قواعد العلم والحساب. وتطلق في الاصطلاح العام على ما يرادف الأصل والقانون والضابط وتعرّف: أنها أمر كلّي منطبق على جميع جزئياته، أو قضية منطبقة على جميع جزئياتها.
وبهذا الاصطلاح تعمّ كلّ كلّي يندرج تحته مجموعة من الجزئيات المتجانسة المتشابهة في حكم ما، تبعاً لأصل وأساس واحد يجمعها، يطلق عليه اسم الكلّي أو القضية الكلّية.
ولكل علم أو فن أو اختصاص قواعده وأصوله، فهناك قواعد نحوية مثل: الفاعل مرفوع والمفعول منصوب. وهناك قواعد فيزيائية وهندسية وطبية وقانونية، والبحث هنا في القواعد الشرعية. وهي المستفادة من علوم الشريعة وأدلتها الأصلية: القرآن والسنة والإجماع، أو الفرعيّة كالاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وما انبثق من ذلك من اجتهادات للفقهاء.
وتتفرع القواعد الشرعية من أصلين رئيسين:
أحدهما: قواعد الأصول، والثاني: قواعد الفروع.
أما قواعد الأصول فتشمل:
آ ـ قواعد أصول الفقه: التي يتوصل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
كقاعدة: «الأمر يفيد الوجوب» فهي قضية كلية ينطبق الحكم على جزئيات كثيرة، منها الأوامر الأربعة في قوله تعالى: ]أَقِيمُوْا الصَّلاةَ وآَتُواْ الزَّكَاةَ[(البقرة43) وقوله: ]واعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافْعَلُواْ الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[(الحج 77) وتفيد وجوب الصلاة والزكاة وعبادة الله وفعل الخير.
وقاعدة: «النهي يفيد التحريم»، قضية كليّة ينطبق الحكم فيها على جزئيات كثيرة، منها النهي الوارد في قوله تعالى: ]لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٌ[(الحجرات11) وفي قوله: ]وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِاْلبَاطِلِ[(البقرة188) ويفيدان تحريم السخرية من الغير وأكل أموال الناس بالباطل.
ب ـ قواعد الحديث: وهي القواعد التي وضعت لرواية الحديث وتدوين السنة، وقبول الأسانيد وترتيبها والحكم عليها بالصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع وتسمّى (مصطلح الحديث). وهي ضرورية للمجتهد ليميّز الصحيح من السقيم في النصوص مثل:
(كلّ ما كان من أقوال الرسولr أو أفعاله أو تقريراته فهو سنة). و(كل من رأى رسول اللهr غير منافق ولا كافر فهو صحابي) و(الصحابة عدول وإن كانوا مراتب في الفضل) و(إذا أُسند الحديث إلى النبيr فهو مرفوع).
وأما قواعد الفروع: فهي القواعد و الضوابط الفقهية التي تجمع جملة الأحكام المتشابهة، وتضمّ شتات الفروع الفقهيّة. وتتميز من قواعد الأصول:
ـ بأن ظهورها متأخر في الوجود الذهني والواقعي عن الفروع التي تجمعها وتلم شتاتها، لأنّها ناشئة من الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، على حين تسبق القواعد الأصولية في الوجود جزئياتها، وأغلبها ناشئ من الألفاظ والقواعد والنصوص العربية.
ـ وإنّ موضوع القواعد الفقهية أفعال المكلفين من صلاة وصيام وبيع وشراء وأكل وشرب ولباس وسفر وإقامة وضرورة وحاجة أو ترفّه، ولهذا فهي من مهمات الفقيه أو المفتي أو المتعلم. وأما قواعد الأصول فموضوعها الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وما يلحق بهما، فهي مهمات المجتهد يحتاجها عند استنباط الأحكام من مصادرها.
ـ وإن قواعد الفروع أغلبية تكثر فيها الاستثناءات التي ينشأ منها قواعد فرعية أخرى. في حين تتصف قواعد الأصول بالعموم والشمول لجميع فروعها، وتتصف بالاطراد فلا تنخرم كليتها.
وتختلف القواعد الفقهية فيما بينها:
أ ـ من حيث الأصالة أو التبعية إلى:
ـ قواعد هي أساس وأصل لغيرها كقاعدة (الضرر يزال)، فهي أصل وأساس لقاعدة (الضرر لايزال بالضرر) ولقاعدة (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف).
ب ـ من حيث العموم والشمول:
ـ فهناك قواعد كبرى أشبه بالنظريات العامة لاستيعابها أحكاماً لا تحصى، وهي في أصلها متفق عليها، ويدخل الخلاف فيما يدخل تحتها من مسائل؛ كقاعدة (الأمور بمقاصدها) و(اليقين لايزول بالشك).
ـ وهناك قواعد كبرى متفق عليها أيضاً لكنها أقلّ شمولاً من التي قبلها، وقد تندرج تحتها، وهي تضم فروعاً من أبواب فقهية كثيرة، وتسمّى بالنظر لما سبقها قواعد فرعية أو جزئية، كقاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله).
ـ وهناك قواعد عامة مختلف فيما يدخل تحتها من قضايا، ترِد بصيغة الاستفهام كقاعدة (هل العبرة بالحال أو بالمآل) و(النادر هل يلحق بنفسه أم بجنسه).
ـ وهناك قواعد مختصة غالباً بباب واحد من أبواب الفقه، بعضها متفق عليه كقاعدة (كلّ ما جاز بيعه جاز رهنه) و(كل ماء لم يتغير أحد أوصافه فهو طهور).
ـ وبعضها مختلف فيه كقاعدة (كلّ عضو غسل يرتفع حدثه أو لا يرتفع إلا بالكمال والفراغ) و(كلّ جزء في الصلاة قائم بنفسه، أو صحة أوّلها تتوقف على صحة آخرها) و(الكفار مكلّفون بفروع الشريعة) و(المحرم إذا أخّر أو قدّم النّسك عن الوقت المحدد له لزمه دم).
واصطلح بعضهم على تسمية هذا النوع بالضوابط بدلاً من القواعد، لأنّ القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتّى والضابط يجمعها من باب واحد.
نشأة القواعد ومكانتها في الشريعة
ظهرت القواعد الشرعية بقسميها بعد عصر الصحابة والتابعين، لأنّ الأحكام في زمن الرسول rكانت تؤخذ من قوله أو فعله أو تقريره من غير احتياج إلى تلك القواعد.
ولمّا لحق النبيr بالرفيق الأعلى، قام أصحابه من بعده باستقاء الأحكام من القرآن الكريم[ر]، بما تمتعوا به من علم باللغة ومعرفة كاملة بأسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وبما كانوا عليه من صدق الإيمان وصفاء الخاطر ووحدة الذهن وجودة الفهم وبصيرة بأسرار التشريع ومقاصده، فإن لم يجدوا في القرآن حكماً مباشراً، لجؤوا إلى السنّة النبويّة، فإن لم يجدوا فيها حاجتهم اجتهدوا وألحقوا الشبيه بالشبيه والمثيل بالمثيل، فإن لم يجدوا للمسألة شبيهاً شرعوا لها الحكم المناسب الذي يحقق المصالح التي راعتها الشريعة في تشريع الأحكام، وعلى هذا الهدي سار التابعون.
ولمّا انقضى ذلك الزمن وذهب رجاله من الصحابة والتابعين وتوسعت الدولة ودخل فيها كثير من الأمزجة والثقافات، جدّت أمور لم تكن موجودة من قبل وأدّى اختلاط العرب بغيرهم إلى ضعف السّليقة، الأمر الذي دعا الفقهاء والمجتهدين إلى وضع القواعد والقوانين التي تتخذ أساساً لاستنباط الأحكام من الأدلّة، أو لجمعها ولمّ شتاتها، فعملوا في الإطارين الرئيسين معاً: قواعد الأصول وهي التي تتصل بالأدلّة، وقواعد الفروع وهي التي تتصل بأعمال المكلّفين.
وأوّل من دوّن قواعد الأصول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفى عام 204هـ، ثمّ تتابع العلماء من بعده لترسيخ قواعد العلم وإشادة بنيانه، فوضعوا الضوابط ضمن الأطر الأربعة الآتية:
آ ـ الأحكام الشرعية: كالوجوب والحرمة والكراهة.
ب ـ الأدلة الشرعية الأصلية والتبعية، مثل: الكتاب والسنة والإجماع وغيرها.
جـ ـ طرق استنباط الأحكام من الأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام، مثل العام والخاص والمطلق والمقيد.
د ـ المجتهد: وهو القائم بعملية الاستنباط والشروط المطلوبة فيه، وقد تمّ ذلك في ثلاثة اتجاهات:
الأول: أصول الشافعيّة والمتكلّمين: وكانت عناية الباحثين فيه متجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبي، فكثرت في هذا المنهج الفروض النظرية والمناحي الفلسفية والمنطقية.
الثاني: أصول الحنفيّة وهو الاتجاه المتأثر بالفروع، فتوجه الباحثون إلى قواعد الأصول ليقيسوا بها فروع مذهبهم، ويثبتوا سلامتها بهذه المقاييس.
الثالث: الجمع بين الطريقتين، وهي طريقة المتأخرين التي ظهرت في القرن السابع للهجرة، عُني أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثبات دلالتها، ثمّ تطبيقها على الفروع الفقهيّة، فجمع أصحاب هذا المنهج بين الطريقتين السابقتين، حيث كتبوا الأصول مجردة ثم تولوا تطبيقها.
وأمّا القواعد الفقهية فقد مرّت بثلاثة أطوار:
الأول: طور النشوء والتكوين: وذلك ابتداءً من عصر الرسالة إلى عصر الصحابة والتابعين.
فإن كثيراً من أحاديث النبيr تمثّل القواعد الكلية الفقهية. كالأحاديث الآتية: «الخراج بالضمان» و«لا ضرر ولا ضرار» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم». فهي قواعد كلية تجمع فروعاً شتّى، وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: (كل شيء في القرآن: فيه» أو«فهو مخّير، وكل شيء: ورد فيه «فإن لم تجدوا» فهو الأوّل فالأوّل) أي بالترتيب ومن جزئيات الأول: قوله تعالى: ]فَفْديَةُ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[(البقرة196) ومن جزئيات الثاني قوله تعالى: ]فَمَن تَمَتًَّعَ بِاْلعُمْرةِ إلى الحَجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثة أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةِ إِذَا رَجَعْتُمْ[(البقرة196).
ومما نقل عن التابعين من القواعد قول شريح القاضي (76هـ/695م): (من ضمن مالاً فله ربحه)، وقول خُيْر بن نعيم روى عنه سعد بن الليث (137هـ/754م): (من أقرّ عندنا بشيء ألزمناه إياه).
الثاني: طور النمو والتدوين: وذلك من بداية القرن الرابع الهجري وما بعده، حين صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم، فنشأ ما يسمى بالقواعد والضوابط أو الأشباه والنظائر والفروق.
وأوّل من جمع القواعد في هذا الطور فيما ذكروا أبو طاهر الدباس من فقهاء القرن الرابع الهجري، فجمع سبع عشرة قاعدة، ردّ مذهب أبي حنيفة إليها، وكان ضريراً يردد قواعده هذه ليلاً في مسجده، وأن أبا سعد الهروي الشافعي رحل إليه ونقل عنه بعض هذه القواعد. ثم إن الكرخي عبيد الله بن الحسين (340هـ/951م) أخذ ما جمعه الدباس وزاد عليه، فبلغت مجموعته ستّاً وثلاثين قاعدة، إلى أن جاء أبو زيد الدبوسي (430هـ/1038م) فألّف كتابه «تأسيس النظر» الذي اشتمل على ست وثمانين قاعدة، وهو أول كتاب في القواعد يصل إلينا من هذا الطور، ثم توالت المصنفات في قواعد المذاهب، ومنها عند المالكية كتاب «الفروق» للإمام أحمد بن العلاء القرافي (684هـ/1285م) وكتاب القواعد لمحمد ابن محمد بن أحمد المقَرّي (785هـ/1356م)، ومنها عند الشافعية «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» لعز الدين ابن عبد السلام (660هـ/1261م) وكتاب «المجموع المذهَّب في قواعد المذهب» للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي (761هـ/ 1359م)، ومنها عند الحنابلة: «القواعد النورانية الفقهية» لابن تيمية الحراني (728هـ/1327م) وكتاب «تقرير القواعد وتحرير الفوائد» لابن رجب الحنبلي (795هـ/1392م).
الطور الثالث: طور الرسوخ والتنسيق: بعد أن ظلت القواعد في الطور الثاني متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمنت بعض الفنون الفقهية الأخرى مثل الفروق والألغاز، وتطرقت إلى بيان بعض القواعد الأصولية، فهذّبت ونقّحت واعتنى بصياغتها مركزة موجزة، وتمثل ذلك في وضع مجلة «الأحكام العدلية» على أيدي لجنة من كبار العلماء في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وصدرتها بمجموعة من القواعد الكلية، فشاع أمرها وارتفعت مكانتها بكثرة الرجوع إليها وإعداد شروح كثيرة لها وأصبح لها صدى كبير في المجالات الفقهية والقانونية كافة.
وقام الشيخ أحمد بن عبد الله القاري الحنفي (1359هـ/1940م) بإخراج قواعد المجلة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لكن المنيّة عاجلته قبل أن يصوغها في شكلها النهائي، فأقدم على إخراجها وتحقيقها مع الضبط والتحرير عبد الوهاب أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد علي.
والعمل جارٍ اليوم لإخراج موسوعة عامة للقواعد الفقهية بعناية مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ويتمثّل دور القواعد الشرعية في أمور أربعة:
الأول: تنظيم عملية الاستنباط والاجتهاد ضمن نظرة الإسلام الكلية للكون والإنسان والحياة في الدنيا والآخرة.
والثاني: إثبات قدرة الشريعة على الاستجابة لكل جديد في وقائع الحياة بكل جوانبها المادية والمعنوية والملائمة لكل تطور.
الثالث: وضعت الضوابط المحكمة التي يسرت لكل من المجتهد والفقيه مهمتهما، وجنّبتهما مزالق الفساد الناشئة من الأهواء والانحرافات والأخطاء الفردية.
الرابع: قدّمت للبشريّة في مجال التشريع ونقل الأخبار أنموذجاً فريداً مبتكراً، لحفظ النصوص وصيانتها، واستيعابها وفهم مدلولها وتنزيلها على الوقائع وتطبيقها.
محمد هشام برهاني