"بنت البستوني" في دريسدن: صدام المفاهيم
سمير رمان
تغطيات
من عرض "بنت البستوني" في أوبرا دريسدن (موقع الأوبرا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في عام 1833، كتب ألكسندر بوشكين قصة "بنت البستوني". تدور فكرتها حول قدر الإنسان الذي لا يمكن التنبؤ به. بطل القصة مهندس عسكري ألماني يعمل في روسيا القيصرية، ويدعى هيرمان. كرّس هيرمان حياته للعمل بجدّ، مدّخرًا كلّ روبلٍ يكسبه، حالمًا بتكوين ثروةٍ تنقله إلى مستوى اجتماعي أعلى. لم يكن هيرمان يلعب الورق، بل كان يكتفي بالمشاهدة من بعيد. ذات يومٍ، أخبره صديقه تومسكي بقصةٍ عن جدّته البارونة العجوز، التي كانت تعيش في باريس وتقامر، حتى خسرت مبالغ طائلة، وأشرفت على الإفلاس. يقول تومسكي إنّ جدّته طلبت قرضًا من الكونت سان جيرمان لتتمكن من متابعة اللعب، أملًا في استرداد ما خسرته. لكنّ الكونت، وبدلًا من إقراضها المال، كشف لها سرَّ الفوز في لعب الورق، واستطاعت البارونة بفضله استرداد جميع الأموال التي خسرتها.
تمكّنت الحكاية من عقل هيرمان، وقرّر خوض التجربة، فبدأ بإغواء ليزا (ليزافيتا إيفانوفنا) خادمة الجدّة، ليتمكّن بمساعدتها من التسلّل إلى حجرة العجوز. حاول هيرمان انتزاع السرّ من العجوز بالتوسّل تارة، وبالتهديد تارةً أُخرى. رفضت البارونة إفشاء السرّ، فأشهر هيرمان مسدسه في وجهها. أصيبت الجدة على الفور بنوبةٍ قلبية أودت بحياتها (تبين في ما بعد أن المسدّس كان مجرد لعبة). أثناء الجنازة، خيّلَ لهيرمان أنّ الفقيدة فتحت عينيها، ورمقته بنظراتها. في المساء، يظهر شبح العجوز لهيرمان، ويخبره بالسرّ، الذي تلخّص في ثلاثٍ من أوراق اللعب، يشكّل مجموعها رقمًا سحريًّا يجلب الحظ (ثلاثة، سبعة، آس). قال شبح البارونة لهيرمان إنّ الربح مقترنٌ بشرطين متلازمين: أولهما أن يراهن على ورقةٍ واحدة فقط في اليوم الواحد، وثانيهما أن يتزوج من ليزا (ليزافيتا إيفانوفنا). ومع أن ذلك أصبح هاجسًا يلاحق هيرمان ليل نهار، فإنّه لم يلتزم بالشرط الثاني.
في هذه الأثناء، يصل إلى مدينة بطرسبرغ المقامر المشهور، المليونير تشيكالينسكي. يبدأ الرهان، فيضع هيرمان كلّ ما ادّخره طيلة حياته (47 ألف روبل) على ورقة الثلاثة، فيحالفه الحظ ويكسب 94 ألف روبل. في اليوم التالي، يضع هيرمان كامل المبلغ على الورقة 7، ومن جديد يتضاعف ربحه. في اليوم الثالث يراهن هيرمان بـ 188 ألف روبل دفعة واحدة على ورقة الآس. اعتقد هيرمان أنّه ربح، ولكنّ تشيكالينسكي يصعقه بالقول إنّ بنت البستوني التي راهن عليها هيرمان قد خسرت. ما حدث أنّ هيرمان كان قد وضع رهانه من دون أن يدرك ذلك على بنت البستوني بدلًا من الآس، وقد تهيّأ له لحظتها أنّ ورقة بنت البستوني تبتسم له وتغمز بعينها التي ذكّرته بالبارونة العجوز. بعد إفلاسه، يوضع هيرمان في مصحة للمختلين عقليًا، وهناك يتوقف نهائيًا عن إبداء أيّة ردود فعل، وظلَّ يتمتم بسرعة فائقة، ومن دون توقف: ثلاثة، سبعة، بنت البستوني!
تلقف الموسيقار تشايكوفسكي قصّة بوشكين هذه، وحوّلها إلى أوبرا حملت العنوان نفسه، ونالت شهرة عالمية لتصبح واحدة من نفائس كلاسيكيات الموسيقى والمسرح.
منذ فترةٍ وجيزة، شهد مسرح أوبرا زيمبلر في مدينة دريسدن الألمانية العرض الأوّل لأوبرا "بنت البستوني" لتشايكوفسكي، من إخراج الألماني أندرياس دريزين/ Andreas Dresen، وبقيادة المايسترو الروسي تاتارنيكوف. أدّت دور البارونة، وللمرة الأولى في مسيرتها الفنية، السوبرانو الألمانية الشهيرة إيفيلين هيرليتسوس/ Evylen Herlitzius. تحدث تاتارنيكوف للنقاد الموسيقيين عن مدى تعقيد أوبرا تشايكوفسكي، وعن تعدد الطبقات في سلّمها الموسيقي، عادًا أنّها أكثر تعقيدًا من أوبرا "فاغنر" نفسها.
يقول تاتارنيكوف إنّه قاد في سنوات مختلفة فرقًا أوركسترالية في أوروبا تعزف أوبرا "بياض الثلج"، و"بسكوفيتيانكا"، للموسيقار ريمسكي كورساكوف، من إخراج تشيرنيكوف، في باريس، ومن إخراج ديفيد بارنتي في لندن، واليوم يقود الأوركسترا في أوبرا "بنت البستوني" من إخراج أندرياس دريزن في دريسدن. ويضيف: "أنا سعيد للغاية أن تكون (بنت البستوني) أول عملٍ لي في أوبرا زيمبلر في دريسدن. لقد كان حلمًا طال انتظاره، وكانت توقعاتي الشخصية مرتبطة بتاريخ العائلة، حيث قاد جدّي قبل أكثر من 50 عامًا أوركسترا دريسدن لعزف (بنت البستوني)، فأدركت مع الوقت أنّ جدّي كان بمثابة نجم ساطعٍ يرشدني في مسيرتي المهنية".
وأوضح "نعيش اليوم زمننا نحن، نشاهد الأخبار ونقرأ الصحف، ونعرف ما يدور حولنا من أحداثٍ. العرض في دريسدن ليس معاصرًا تمامًا، ولكنّه أيضًا ليس تاريخيًا بدرجة كبيرة، لذا بدا وكأنّه خارج التاريخ بعض الشيء. ولكنّ العرض يحتوي، بالتأكيد، مشاهد عكست بطريقةٍ، أو بأُخرى، صدام المفاهيم ووجهات النظر حول الأحداث التي نشهدها اليوم. لا يستطيع الفنان الحقيقي إلا أن يتخذ موقفًا مما يجري، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز فهم الجمهور خارج سياق الزمن، في بعض لحظات الأوبرا. على الرغم من الأوضاع المتوترة التي نعيشها، فقد تضمنت الأوبرا نفسها غير قليلٍ من اللحظات المرتبطة بالقيم الإنسانية العامّة التي تجد صداها في المعاصرة. عليّ أن أشيد هنا بالمخرج أندرياس دريزن، كفنان رائع، فقد ترك لي الحرية الكاملة لإطلاق كلّ ما لديَّ من طاقات".
ويقول تاتارنيكوف عن العلاقة بين المخرج وقائد الأوركسترا: "أنا على قناعة تامّة أنّه من الضرورة بمكان أن يلتقي المخرج وقائد الأوركسترا مبكرًا قدر الإمكان، ولو كان أولها عبر السكايب. المهمّ في الأمر القيام بأول اتصالٍ. بالطبع، هنالك حوادث قد تحصل، ولكن عندما يصل قائد الأوركسترا قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط من عرض العمل، فإنّه بالتأكيد لن يجد الوقت الكافي ليقابل أولئك الذين سيعمل معهم، وسيكون من الصعب توقع النجاح عندما يكون كلّ شيءٍ قد أعِدّ في غياب المايسترو. أجل، من المهمّ جدًا لقائد الأوركسترا التواصل مع المخرج، فبدون ذلك سيشعر المايسترو بالغربة في وسطٍ لم يعرفه جيدًا. في لقائنا الأول، تعانقت مع المخرج أندرياس للمرة الأولى، ولكنني شعرت عندها أننا نعرف بعضنا منذ زمنٍ بعيد، إذ كنّا نتواصل عبر الإنترنت بشكلٍ مكثف. لقد كان أندرياس، كغيره من المخرجين، يخشى من أداء الكورال لأسباب عدة، أولها: تتطلب إدارة العمل مع الكورال مهاراتٍ حقيقية، وثانيًا، لأنّ زمن التدريب منظمٌ بصرامة، ويجب أن يكون المرء شديد التركيز كي يحصل على أفضل النتائج. قمت والمخرج معًا بتصحيحاتٍ طفيفة هنا وهناك، ولكن بتفاهم تامّ".
لقد اعتدت أن أستغل كلّ فرصة تتاح لي كي أكتشف شيئًا ما جديدًا في سلّم الأوبرا الموسيقي، وفي الوقت نفسه أنا أعرف أوبرا بنت البستوني جيدًا، يشرح المايسترو، ويضيف "توليت مراتٍ كثيرة قيادة فرقٍ أوركسترالية عزفتها. ولكنّ هذه المرّة كانت الأولى التي يتاح لي فيها رفاهية العمل عليها لشهورٍ طويلة. تؤدي أوركسترا دريسدن هذه الأوبرا للمرة الأولى، ولهذا كان يخيّل لي وأنا أقودها أنني أسمع أصواتًا خفية ترافق اللحن الرئيسي، وتُكوِّن أحيانًا أصواتًا غريبة، وأحيانًا مثيرة للاهتمام. عمومًا، أعترف أنّ أوبرا بنت البستوني كانت على الدوام عملًا صعبًا، فهي مركّزة ومكثفة بدرجةٍ مخيفة، في داخلها كثير من الأحداث. الأوبرا ليست طويلة في حدّ ذاتها، ولكن أحيانًا يكون من الأسهل للمايسترو قيادة أوركسترا تعزف فاغنر لمدة خمس ساعاتٍ من قيادة أوركسترا تعزف أوبرا تشايكوفسكي. أقول هذا من خبرتي الطويلة، لأنني قدت أوركسترا فاغنر، بما في ذلك "أوبرا تريستانا"".
وفي معرض حديثه عن المغنيات، قال تاتارينكوف: "من دون أدنى شكٍّ، كان مغناطيس هذا العرض المغنية الرائعة إيفيلي هيرليتسيوس/ Evelyn Herlitzius، التي صدح صوتها في السابق في دور إلكترا (ابنة أغاممنون) في التراجيديا اليونانية، وبرونشيلد/ Brunichild بطلة الأساطير الإسكندنافية، أو إيزولدا/ Isolde من العصور الوسطى. وفجأةً تؤدي هنا دور بارونة روسية عجوز.. إيفيلي هيرليتسيوس فنانة عظيمة. في حياتي المهنية، لعبت دور الكونتيسة في أوبرا بنت البستوني كلٌّ من إياينا أوبراتسوفا، وإيرينا بوغاتشوفا، ولكن هيرليتسوس أمرٌ آخر! أردت بداية الأمر أن أعيد تشكيلها، تصويب لفظها للكلمات، وفي مرحلةٍ ما نجحت في مسعاي. ولكنني قررت في ما بعد التخلي عن الأمر، ومقاربة الموضوع من زاويةٍ جديدة. لقد فهمت أنّها إن غنّت بلكنةٍ فسيكون ذلك مقنعًا أيضًا، لأنّ أرستقراطيي ذاك العصر كانوا يتحدثون الفرنسية بلكنةٍ أيضًا. وبالفعل، لم يجد المشاهد غرابةً في غناء نجمتنا اليوم بلكنة! في المقام الأول، لأنّ إيفيلين وجدت ذلك ممتعًا. ومهما كان دور الكونتيسة صغيرًا مقارنةً بدور ليزا، فإنّ المغنية قد لاقت استحسان الجمهور الذي حيّاها بعاصفةٍ من التصفيق، بعد أن أدت حياة مصغّرة تجري أحداثها على خشبة المسرح، فيها الأغنية والحلم، وفيها الذكريات والآمال".
من بين مؤدي الأدوار في هذه الأوبرا، لدينا السوبرانو الليتوانية فيدا ميكنيفيتشوتيه (ليزا/ ليزافيتا إيفانوفنا)، والسويدي الباريتون جون لوندغرين (تومسكي)، والروسي سيرغي بوليكوف (هيرمان). لقد كان الأمر في حاجةٍ إلى كثير من الدبلوماسية لخلق مناخٍ من التفاهم بين هذا التنوع الديموغرافي. من جانبي، يقول المايسترو: بذلت كلّ ما في وسعي لكي نؤدي أوبرا عظيمة، ولكن القائمين على المسرح فعلوا أيضًا كلّ شيءٍ ممكن. لقد وجدت نفسي في بيئةٍ تسودها الطيبة والرغبة في إبهار الجمهور من جميع الأطراف. عندما تعرفت على ليزا، بدأت حديثي بالإنكليزية، ولكنّها فاجأتني بطلبها: "هل من الممكن التحدث بالروسية". تبين أنّها فتاة مرحة جذابة في الحديث، وتفاعلت بأريحيةٍ تامّة مع جميع ملاحظاتي المايستروية. عمومًا، كنت راضيًا تمامًا عن أداء الجميع من دون استثناء، فقد رأيت بأمّ عيني كيف تصاعد حبّ الكورال والأوركسترا لأوبرا تشايكوفسكي، ليتشاطر الجميع في نهاية المطاف النجاح.
سمير رمان
تغطيات
من عرض "بنت البستوني" في أوبرا دريسدن (موقع الأوبرا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
في عام 1833، كتب ألكسندر بوشكين قصة "بنت البستوني". تدور فكرتها حول قدر الإنسان الذي لا يمكن التنبؤ به. بطل القصة مهندس عسكري ألماني يعمل في روسيا القيصرية، ويدعى هيرمان. كرّس هيرمان حياته للعمل بجدّ، مدّخرًا كلّ روبلٍ يكسبه، حالمًا بتكوين ثروةٍ تنقله إلى مستوى اجتماعي أعلى. لم يكن هيرمان يلعب الورق، بل كان يكتفي بالمشاهدة من بعيد. ذات يومٍ، أخبره صديقه تومسكي بقصةٍ عن جدّته البارونة العجوز، التي كانت تعيش في باريس وتقامر، حتى خسرت مبالغ طائلة، وأشرفت على الإفلاس. يقول تومسكي إنّ جدّته طلبت قرضًا من الكونت سان جيرمان لتتمكن من متابعة اللعب، أملًا في استرداد ما خسرته. لكنّ الكونت، وبدلًا من إقراضها المال، كشف لها سرَّ الفوز في لعب الورق، واستطاعت البارونة بفضله استرداد جميع الأموال التي خسرتها.
تمكّنت الحكاية من عقل هيرمان، وقرّر خوض التجربة، فبدأ بإغواء ليزا (ليزافيتا إيفانوفنا) خادمة الجدّة، ليتمكّن بمساعدتها من التسلّل إلى حجرة العجوز. حاول هيرمان انتزاع السرّ من العجوز بالتوسّل تارة، وبالتهديد تارةً أُخرى. رفضت البارونة إفشاء السرّ، فأشهر هيرمان مسدسه في وجهها. أصيبت الجدة على الفور بنوبةٍ قلبية أودت بحياتها (تبين في ما بعد أن المسدّس كان مجرد لعبة). أثناء الجنازة، خيّلَ لهيرمان أنّ الفقيدة فتحت عينيها، ورمقته بنظراتها. في المساء، يظهر شبح العجوز لهيرمان، ويخبره بالسرّ، الذي تلخّص في ثلاثٍ من أوراق اللعب، يشكّل مجموعها رقمًا سحريًّا يجلب الحظ (ثلاثة، سبعة، آس). قال شبح البارونة لهيرمان إنّ الربح مقترنٌ بشرطين متلازمين: أولهما أن يراهن على ورقةٍ واحدة فقط في اليوم الواحد، وثانيهما أن يتزوج من ليزا (ليزافيتا إيفانوفنا). ومع أن ذلك أصبح هاجسًا يلاحق هيرمان ليل نهار، فإنّه لم يلتزم بالشرط الثاني.
في هذه الأثناء، يصل إلى مدينة بطرسبرغ المقامر المشهور، المليونير تشيكالينسكي. يبدأ الرهان، فيضع هيرمان كلّ ما ادّخره طيلة حياته (47 ألف روبل) على ورقة الثلاثة، فيحالفه الحظ ويكسب 94 ألف روبل. في اليوم التالي، يضع هيرمان كامل المبلغ على الورقة 7، ومن جديد يتضاعف ربحه. في اليوم الثالث يراهن هيرمان بـ 188 ألف روبل دفعة واحدة على ورقة الآس. اعتقد هيرمان أنّه ربح، ولكنّ تشيكالينسكي يصعقه بالقول إنّ بنت البستوني التي راهن عليها هيرمان قد خسرت. ما حدث أنّ هيرمان كان قد وضع رهانه من دون أن يدرك ذلك على بنت البستوني بدلًا من الآس، وقد تهيّأ له لحظتها أنّ ورقة بنت البستوني تبتسم له وتغمز بعينها التي ذكّرته بالبارونة العجوز. بعد إفلاسه، يوضع هيرمان في مصحة للمختلين عقليًا، وهناك يتوقف نهائيًا عن إبداء أيّة ردود فعل، وظلَّ يتمتم بسرعة فائقة، ومن دون توقف: ثلاثة، سبعة، بنت البستوني!
تلقف الموسيقار تشايكوفسكي قصّة بوشكين هذه، وحوّلها إلى أوبرا حملت العنوان نفسه، ونالت شهرة عالمية لتصبح واحدة من نفائس كلاسيكيات الموسيقى والمسرح.
منذ فترةٍ وجيزة، شهد مسرح أوبرا زيمبلر في مدينة دريسدن الألمانية العرض الأوّل لأوبرا "بنت البستوني" لتشايكوفسكي، من إخراج الألماني أندرياس دريزين/ Andreas Dresen، وبقيادة المايسترو الروسي تاتارنيكوف. أدّت دور البارونة، وللمرة الأولى في مسيرتها الفنية، السوبرانو الألمانية الشهيرة إيفيلين هيرليتسوس/ Evylen Herlitzius. تحدث تاتارنيكوف للنقاد الموسيقيين عن مدى تعقيد أوبرا تشايكوفسكي، وعن تعدد الطبقات في سلّمها الموسيقي، عادًا أنّها أكثر تعقيدًا من أوبرا "فاغنر" نفسها.
"يقول المايسترو ميخائيل تاتارنيكوف: كانت توقعاتي الشخصية مرتبطة بتاريخ العائلة، حيث قاد جدّي قبل أكثر من 50 عامًا أوركسترا دريسدن لعزف (بنت البستوني)، فأدركت مع الوقت أنّ جدّي كان بمثابة نجم ساطعٍ يرشدني في مسيرتي المهنية" |
يقول تاتارنيكوف إنّه قاد في سنوات مختلفة فرقًا أوركسترالية في أوروبا تعزف أوبرا "بياض الثلج"، و"بسكوفيتيانكا"، للموسيقار ريمسكي كورساكوف، من إخراج تشيرنيكوف، في باريس، ومن إخراج ديفيد بارنتي في لندن، واليوم يقود الأوركسترا في أوبرا "بنت البستوني" من إخراج أندرياس دريزن في دريسدن. ويضيف: "أنا سعيد للغاية أن تكون (بنت البستوني) أول عملٍ لي في أوبرا زيمبلر في دريسدن. لقد كان حلمًا طال انتظاره، وكانت توقعاتي الشخصية مرتبطة بتاريخ العائلة، حيث قاد جدّي قبل أكثر من 50 عامًا أوركسترا دريسدن لعزف (بنت البستوني)، فأدركت مع الوقت أنّ جدّي كان بمثابة نجم ساطعٍ يرشدني في مسيرتي المهنية".
وأوضح "نعيش اليوم زمننا نحن، نشاهد الأخبار ونقرأ الصحف، ونعرف ما يدور حولنا من أحداثٍ. العرض في دريسدن ليس معاصرًا تمامًا، ولكنّه أيضًا ليس تاريخيًا بدرجة كبيرة، لذا بدا وكأنّه خارج التاريخ بعض الشيء. ولكنّ العرض يحتوي، بالتأكيد، مشاهد عكست بطريقةٍ، أو بأُخرى، صدام المفاهيم ووجهات النظر حول الأحداث التي نشهدها اليوم. لا يستطيع الفنان الحقيقي إلا أن يتخذ موقفًا مما يجري، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز فهم الجمهور خارج سياق الزمن، في بعض لحظات الأوبرا. على الرغم من الأوضاع المتوترة التي نعيشها، فقد تضمنت الأوبرا نفسها غير قليلٍ من اللحظات المرتبطة بالقيم الإنسانية العامّة التي تجد صداها في المعاصرة. عليّ أن أشيد هنا بالمخرج أندرياس دريزن، كفنان رائع، فقد ترك لي الحرية الكاملة لإطلاق كلّ ما لديَّ من طاقات".
ويقول تاتارنيكوف عن العلاقة بين المخرج وقائد الأوركسترا: "أنا على قناعة تامّة أنّه من الضرورة بمكان أن يلتقي المخرج وقائد الأوركسترا مبكرًا قدر الإمكان، ولو كان أولها عبر السكايب. المهمّ في الأمر القيام بأول اتصالٍ. بالطبع، هنالك حوادث قد تحصل، ولكن عندما يصل قائد الأوركسترا قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط من عرض العمل، فإنّه بالتأكيد لن يجد الوقت الكافي ليقابل أولئك الذين سيعمل معهم، وسيكون من الصعب توقع النجاح عندما يكون كلّ شيءٍ قد أعِدّ في غياب المايسترو. أجل، من المهمّ جدًا لقائد الأوركسترا التواصل مع المخرج، فبدون ذلك سيشعر المايسترو بالغربة في وسطٍ لم يعرفه جيدًا. في لقائنا الأول، تعانقت مع المخرج أندرياس للمرة الأولى، ولكنني شعرت عندها أننا نعرف بعضنا منذ زمنٍ بعيد، إذ كنّا نتواصل عبر الإنترنت بشكلٍ مكثف. لقد كان أندرياس، كغيره من المخرجين، يخشى من أداء الكورال لأسباب عدة، أولها: تتطلب إدارة العمل مع الكورال مهاراتٍ حقيقية، وثانيًا، لأنّ زمن التدريب منظمٌ بصرامة، ويجب أن يكون المرء شديد التركيز كي يحصل على أفضل النتائج. قمت والمخرج معًا بتصحيحاتٍ طفيفة هنا وهناك، ولكن بتفاهم تامّ".
لقد اعتدت أن أستغل كلّ فرصة تتاح لي كي أكتشف شيئًا ما جديدًا في سلّم الأوبرا الموسيقي، وفي الوقت نفسه أنا أعرف أوبرا بنت البستوني جيدًا، يشرح المايسترو، ويضيف "توليت مراتٍ كثيرة قيادة فرقٍ أوركسترالية عزفتها. ولكنّ هذه المرّة كانت الأولى التي يتاح لي فيها رفاهية العمل عليها لشهورٍ طويلة. تؤدي أوركسترا دريسدن هذه الأوبرا للمرة الأولى، ولهذا كان يخيّل لي وأنا أقودها أنني أسمع أصواتًا خفية ترافق اللحن الرئيسي، وتُكوِّن أحيانًا أصواتًا غريبة، وأحيانًا مثيرة للاهتمام. عمومًا، أعترف أنّ أوبرا بنت البستوني كانت على الدوام عملًا صعبًا، فهي مركّزة ومكثفة بدرجةٍ مخيفة، في داخلها كثير من الأحداث. الأوبرا ليست طويلة في حدّ ذاتها، ولكن أحيانًا يكون من الأسهل للمايسترو قيادة أوركسترا تعزف فاغنر لمدة خمس ساعاتٍ من قيادة أوركسترا تعزف أوبرا تشايكوفسكي. أقول هذا من خبرتي الطويلة، لأنني قدت أوركسترا فاغنر، بما في ذلك "أوبرا تريستانا"".
وفي معرض حديثه عن المغنيات، قال تاتارينكوف: "من دون أدنى شكٍّ، كان مغناطيس هذا العرض المغنية الرائعة إيفيلي هيرليتسيوس/ Evelyn Herlitzius، التي صدح صوتها في السابق في دور إلكترا (ابنة أغاممنون) في التراجيديا اليونانية، وبرونشيلد/ Brunichild بطلة الأساطير الإسكندنافية، أو إيزولدا/ Isolde من العصور الوسطى. وفجأةً تؤدي هنا دور بارونة روسية عجوز.. إيفيلي هيرليتسيوس فنانة عظيمة. في حياتي المهنية، لعبت دور الكونتيسة في أوبرا بنت البستوني كلٌّ من إياينا أوبراتسوفا، وإيرينا بوغاتشوفا، ولكن هيرليتسوس أمرٌ آخر! أردت بداية الأمر أن أعيد تشكيلها، تصويب لفظها للكلمات، وفي مرحلةٍ ما نجحت في مسعاي. ولكنني قررت في ما بعد التخلي عن الأمر، ومقاربة الموضوع من زاويةٍ جديدة. لقد فهمت أنّها إن غنّت بلكنةٍ فسيكون ذلك مقنعًا أيضًا، لأنّ أرستقراطيي ذاك العصر كانوا يتحدثون الفرنسية بلكنةٍ أيضًا. وبالفعل، لم يجد المشاهد غرابةً في غناء نجمتنا اليوم بلكنة! في المقام الأول، لأنّ إيفيلين وجدت ذلك ممتعًا. ومهما كان دور الكونتيسة صغيرًا مقارنةً بدور ليزا، فإنّ المغنية قد لاقت استحسان الجمهور الذي حيّاها بعاصفةٍ من التصفيق، بعد أن أدت حياة مصغّرة تجري أحداثها على خشبة المسرح، فيها الأغنية والحلم، وفيها الذكريات والآمال".
من بين مؤدي الأدوار في هذه الأوبرا، لدينا السوبرانو الليتوانية فيدا ميكنيفيتشوتيه (ليزا/ ليزافيتا إيفانوفنا)، والسويدي الباريتون جون لوندغرين (تومسكي)، والروسي سيرغي بوليكوف (هيرمان). لقد كان الأمر في حاجةٍ إلى كثير من الدبلوماسية لخلق مناخٍ من التفاهم بين هذا التنوع الديموغرافي. من جانبي، يقول المايسترو: بذلت كلّ ما في وسعي لكي نؤدي أوبرا عظيمة، ولكن القائمين على المسرح فعلوا أيضًا كلّ شيءٍ ممكن. لقد وجدت نفسي في بيئةٍ تسودها الطيبة والرغبة في إبهار الجمهور من جميع الأطراف. عندما تعرفت على ليزا، بدأت حديثي بالإنكليزية، ولكنّها فاجأتني بطلبها: "هل من الممكن التحدث بالروسية". تبين أنّها فتاة مرحة جذابة في الحديث، وتفاعلت بأريحيةٍ تامّة مع جميع ملاحظاتي المايستروية. عمومًا، كنت راضيًا تمامًا عن أداء الجميع من دون استثناء، فقد رأيت بأمّ عيني كيف تصاعد حبّ الكورال والأوركسترا لأوبرا تشايكوفسكي، ليتشاطر الجميع في نهاية المطاف النجاح.