"غابة الذكريات" مع خيري الذهبي: نزهةٌ محتشدةٌ بالحبارى والحنين
محمد جميل خضر
تغطيات
الفيلم من سيناريو وإخراج فارس الذهبي
شارك هذا المقال
حجم الخط
من إنتاجه، عرض "تلفزيون سوريا"، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الروائي السوري خيري الذهبي (1946 ـ 2022)، فيلمًا وثائقيًا حمل عنوان "غابة الذكريات... نزهة مع خيري الذهبي"، سيناريو وإخراج فارس الذهبي.
منذ مشهده الأول، كشف الفيلم المشع بوجدانيةٍ لا تخطئها عين إنسان عن مغايرةٍ فارقةٍ في المعنى والمبنى. وقاد مخرجه متنكّبًا خطوات والده عند أعتاب غابة فرنسية، وسائرًا على سيْرها الوئيد، وِجْهات التفاصيل، وتراتبيةَ موضوعات الفيلم بطريقة غير تقليدية ولا مدرسية.
فارس سبق المشاهد المصوّرة في حديقة سان جيرمان بِمتواليات مشهدية متباينة الأزمان لمدينةِ قلبِ خيري: دمشق، مترافقة مشهديات دمشق الأرشيفية مع صوت أحمد حسن يقرأ جزءًا من حوار أجراه مع خيري مركز حرمون للدراسات المعاصرة:
"ولدتُ في مدينة دمشق مُصادفة، وربما كان يمكن لأسرتي أن تكون من حيفا، أو أنطاكيا، أو حلب، أو بيروت، لكنني ولدتُ في دمشق. ومُصادفة كذلك ولدتُ في السنة التي وُلِدَت فيها سورية كبلدٍ مستقلٍّ جديد، ناصع، تحت مسمى "الجمهورية السورية"، لذلك فإنّ سيرتي الشخصية تتقاطع مع سيرة الجمهورية الجديدة، بكل خيباتها وفرحها القليل، واضطرابها وسكونها. كان كلّ جديد على حياتي الشخصية جديدًا على بلدي، التلفزيون والراديو والانقلابات والرواية والتكنولوجيا، كنا أنا والجمهورية السورية نكبر معًا، ونتعلم معًا، نرتكب الأغلاط ونتصالح ونتخاصم. فأنا، مثلها، لم أعش مراهقة طائشة، بل كانت طفولتي ومراهقتي وشبابي متّزنة ومستقرة تخلّلها كثير من العمل والأمل، وإنما بدأت مرحلة الاضطراب متأخرة، كما حال البلد بعد الوحدة والانفصال الذي أثّر فينا معًا عميقًا، حتى خوفنا المشترك من الانقلابات وانتظار المجهول القادم منها، وصولًا إلى سكونية الانقلاب الأخير الذي استمر حتى يومنا هذا، وبعثر حياتنا أنا والجمهورية خصوصًا في العشرية الأخيرة.
وبما أنني والجمهورية توأمان، ففي داخلي دومًا حافز أساسي يدفعني إلى الكتابة والإحاطة بها، كمن يكتب مذكرات شخصية عن شخص عرفه عن قرب، بِعثراته وتلعثمهِ وعقوقِ أولاده وصلاح الآخرين منهم، عن أحلامها وأحلامي، عن جمالها وتأمّلي بها، لذلك فأنا أشعر بأني عشت لأكتب عنها".
شاشتان ومستويان
طيلة دقائق الفيلم الخمسين، عُرضت مشاهده من خلال شاشتيْن؛ واحدة تمثّل النزهة المتعيّنة خلال تصوير الفيلم وبعد وصول خيري إلى فرنسا مرورًا بمصر، بعد خروجه عام 2013، من دمشق، وبالإمارات والأردن، وأخيرًا فرنسا التي لم يَطُل بها المقام قبل دخوله "سفر الخلود"، والشاشة الثانية/ المستوى الثاني أرشيفيٌّ بمعظمه تتناوبه دمشق وعمّان وإسطنبول وأماكن أُخرى.
شاشة الحاضر اقتصرت على خيري وحده يرتدي ما يرتديه الناس عادة عندما يودّون دخول غابة والإبحار في شجرها وطيرها وأسرارها، وأمّا الشاشة الأرشيفية فقد منحت المخرج مساحة مفتوحة لعرض مشاهد من دمشق وعناوين صحف ومجلات تناولت تجربة خيري وسيرته، كما تضمّنت مقابلات حول خيري مع الناقد السوري تيسير خلف، والناشرة التركية (بيرين بيرسا يغلي موت)، وقراءات بصوت روان ترك لفقرات من روايتي "الجنة المفقودة/ من القنوات إلى كفر سوسة"، و"حسيبة"، وفيديوهات لمحاضرات ألقاها خيري في غيرِ مدينة وعاصمة.
شاشة حميمة يتحدث فيها خيري، مثلًا، عن أنواع الطيور التي رآها في وادي الرقّاد قريبًا من نهر اليرموك إبّان خدمته العسكرية مطالع سبعينيات القرن الماضي ضابط ارتباط بين القوات الدولية وحكومة بلده، وصولًا إلى اندلاع حرب أكتوبر/ تشرين في العام 1973، ووقوعه في الأسر، وعن عجائب ذلك الوادي الذي أتاحت وعورته لكثير من الضواري، مثل الضباع والفهود، والطيور، مثل الحجل والحبارى وعصافير الدوري معشوقة قلبه وغيرها، البقاء فيه آمنة مطمئنة.
في الشاشة الحميمة يروي خيري لابنه فارس الطريقة الطريفة والعجيبة التي كان الصيادون يصطادون عبرها الحجل: يصنعون بركة ماء صغيرة، ثم يخلطون الماء بمشروب العرق، وينتظرون الطير الحزين ليأتي ويشرب من بركتهم المثقلة بالكحول، طبعًا لا يتأخر الطير عن ماء يروي عطشه، وقبل طلوع الصباح يكون الحجل قد ورد الوِرد وشرب وترنّح وألقى الصيادون القبض عليه دون أي معاناة، وباعوه بعرقِهِ وثمالتِه.
في الشاشة الحميمة يجلس خيري فوق مقعد عند أبواب غابة الذكريات.. ثم يعرض عليه ابنه التمشّي وولوج أعماق الغابة.. يقوم ويتمشّى.. ثم يجلس.. ثم يعود ويتمشّى.. يتفحّص ثمرة هنا.. يتعرّف على نوع نبات هناك.. يمد يده لابنه بما حصل عليه من نوى وحبّات ومعارف.
في المستوى الثاني، والشاشة الثانية، انهماك على مدار دقائق الفيلم بما أنجزه خيري ليس على صعيد الإبداع الروائي فقط، ولكن أيضًا، على صعيد الحفر المعرفي لصالح الانتصار للإنسان، وإنصاف العدل والحق، والتحديق في معنى الكرامة، ومقامات الشرف، وآفاق الحرية. فيها رؤيته الخاصة به حول خصوصية دمشق، وتراجيدية مصائرها، وفرادة معناها. في تلك الشاشة، يقول تيسير خلف: "كان مهجوسًا بتاريخ مدينته.. حاول أن يستنطق تاريخ دمشق بوعي مختلف عن الوعي الآخر الذي كان يرى في دمشق مدينة آثمة منغلقة تكره الآخرين. أنصف مدينته ومدينته أنصفته، فاليوم وبعد مئة عام وآلاف الأعوام لا يمكن أن تُذكر دمشق من دون أن يُذكر خيري الذهبي".
في الشاشة الثانية الأرشيفية عنوان في صحيفة يقول: "عشتُ كالوحيد أحب التسكّع وأهرب إلى البساتين"، وفيها جزء من محاضرة ألقاها خيري عام 2015 في عمّان يشرح فيها حيثيات ثلاثيّته الروائية "التحولات": "حسيبة" و"فيّاض" و"هشام، أو الدوران في مكان". وفيها يقول إن رواية "صبوات ياسين" تعاين شيزوفرينيا المثقف السوري الذي لا يستطيع أن يكون حرًّا حتى بينه وبين نفسه. في الشاشة الثانية، تقول الناشرة التركية إن نشر روايات خيري ومنجزه الفكري ضرورة تركية، فهو ليس مجرّد مبدع وفقط، بل إنسان حرٌّ، ونبراسٌ يُعلي من شأن الشرف والكرامة الإنسانية، وينحاز للأطفال، وينتصر للمظلومين، ويتمسّك بالروافع العُليا، وما يربطنا به ليس مجرّد إصدارات صالحة للنشر، بل مواقف نبيلة ينبغي تبنّيها، وقيم جمال لا نملك إلا الاحتفاء بها وتمثّل معانيها. وهي في مداخلتها ترى أن أهم وظيفة للأدب هي الحفاظ على كرامة الإنسان، وتؤكد أن خيري واجه أشرس طغيان بقلمه وشجاعته فقط.
فيها غلاف قصة أطفال من كتابته ورسوم ممتاز البحرة عنوانها "سطوح جبّاتا والحمائم". ثم تلتقي الشاشتان لتسرد حكاية شجرة التين العقيم.
في الشاشة الثانية صور للحرب والبوادي والحسكة والبحيرات والأنهار والجولان والفلاحين والمنسيين، وجَملة وخضرة دمشق ونضرتها وجامعها الأموي ومدنيّتها ونساؤها وصورة لسميرة زوجة الراحل وصور للتحولات والتناسخات، ومحاضرة عن لوقيانوس وجدران حَجر وأرض ديار، ومداخلة لخيري من حوار تلفزيوني يتحدث فيها (تلك المداخلة) عن صراع الحمقى في كل حضارة. ومداخلة أخرى يقول فيها إنه ضيّع فردة حذائه مع انطلاق خطبة لجمال عبد الناصر، ويكشف أن أمه لم تغضب بسبب ضياع تلك الفردة، لأنها كانت تعشق عبد الناصر وتؤمن به، كانت ترى فيه الأمل، "وكنّا نرى فيه الأمل، ولعلّه كان كذلك لولا تعيينه عبد الحكيم عامر".
غابة الذكريات
في دقائق الفيلم الأولى، وقبل الإبحار في متنهِ وهوامشِه، يطلع صوت الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة بأغنية "الذكريات"، متصاحبة مقاطع الأغنية الشجيّة النوستالْجية بصور على الشاشة الحميمة لنزهة خيري في حديقة فرنسية، وعلى الشاشة الثانية بمشهديات وأرشيف من طفولته وفتوته وشبابه وزواجه وخدمته العسكرية وبستانه الدمشقي ونشاطاته وغليونه وعناوين الصحف حوله وحول منجزه وحصاد عمره، قبل أن تنتهي الأغنية، ويصبح لدينا شاشة واحدة تحط فيها الطائرة التي حملت الأسرى السوريين المحررين بعد حرب تشرين.
مشكورًا، أهدى خليفة قصيدته المشحونة بالمعاني لِصانعي الفيلم: "الذكريات تجيء لا تؤذي.. ويأتي راضيًا في الذكريات.. متألقًا في زيّه الحربيّ لم يتعب ولم يذهب
ويلعب ضد كل لاعبين على المكان.. ما غادر الميدان.. لا في السِّلْم مفتقدٌ.. ولا في الحرب مفتقدٌ".
تعميق اليوميّ
في إطارٍ مشهديٍّ قديم يضعنا مخرج الفيلم، ولكنه، وفي الوقت نفسه، يتّقد بحيوية الرؤية الحداثويّة، وما بعد الحداثويّة، لِمفهوم الفيلم الوثائقي، غير المُنتزع من سياقه الإنسانيّ، ولا الغافل عن قيمة غزال شارد في براري الوَجَل.
ومنذ الدقيقة الأولى، يكشف فارس عن دراية لمّاحةٍ بما يمكن أن يحوّل يوميات والده، ونزهته في حديقة بعيدة عن أرض الديار، إلى طرحٍ عميق حول مصائر البشر، وتقلّبات حياتهم، وأنْواء غربتهم، وآلام واقعهم، وأشْجان بوْحهم. وهو لا ينسى أن يسأل والده: أيهما يحب أكثر: العصافير، أم الأدب؟ يبتسم خيري ويجيب إجابة ذكية يُبقي للعصافير فيها مكانتها الأثيرة في قلبه، كيف لا وهو قد تعلم عشقها من أمّه التي كانت في بيت القنوات تفتح لتلك العصافير النافذة كي تزور بيتهم.
إخراجيًّا، فإن تقسيم فارس المشهدية لشاشتيْن واحدة على يمين المشهدية، والثانية عن يسارها، أتاح له، بامتياز لافت، استثمار ثنائية الماضي/ الذاكرة/ المنجز بمختلف صيرورة ذلك وسيرورته، مقابل المتعيّن القائم (ثنائية الماضي/ الحاضر)، وقد وصل خيري إلى مرحلة ما بعد المنجز، وما بعد السيرة، وما بعد قلق الوجود، وصراعاتِه، ودوافع إثباته. إنسان في السبعين من عمر عشق العصافير، ينعم بالرضا، يرفل بأثواب الطمأنينة، يهوى الطبيعة، يتمشّى في واحدة من تجليات تلك الطبيعة، يعاين شجر غابة/ حديقة، يستنشق عبير كائناتها. إنها ثنائية نزهتيْن؛ واحدة في غابة وأخرى في الذكريات.
الوصية الوثيقة
تتجلّى وصية خيري في المشهد الأخير بوصفها وثيقةً لا تموت لشعبٍ لا يموت؛ ومع الدموع على الشاشتيْن، يتناوب الإعلامي ياسر الأطرش من "تلفزيون سوريا"، مع الفنان السوري مكسيم خليل، تلاوة الوصية التي تشلع الروح:
"قلبي الآن يتحول من جوزةٍ خضراءَ يانعةٍ إلى خشبٍ صلبٍ بنّيِ اللون.. فإن حصلَ هذا.. فاحرصوا على غسلِ جسمي بماءِ الفيجةِ البارد، وضعوا في عينيّ المغمضتين برعمَي جوري يانعين أبيضين، وفي كفيّ المضمومتين، في اليمنى حبةَ حصرمٍ شامي، وفي اليسرى حبةَ سكَّر.. قضيت عمري أسير في حواريها، وشوارعِها من دون أن أدركَ أنها كانت تسير في عروقي ودمي.. سكنتني ولم أسكنها، أدهشتني ولم أدهِشها.. افرشوا فوق جسمي ورقًا من شجر الغوطة، وأسفلَه سجادًا دمشقيًا مصنوعًا بأنوال القنوات.
وإن أردتم أطلقوا في جنازتي عصافيرَ أقفاصِكم.. الحساسين والكناري وعصافيرَ الجنة، أطلقوها جميعًا، من شرفاتكم، وأخبروا رعيانَ الحمائم، أن يفلتوا قطعانَهم في يوميَ الأخيرِ فوق الأرض، في سماءِ الشريفة، دعوهم يحومون ويحلّقون، ليملؤوا ساحاتِ المدينةِ وشوارعَها وحدائقَها التي لا تطيق الأقفاص، ولتنثر كلُ سيدة بعضًا من القمح على رخامِ نافذتِها حصةً عن كل جمالِ طيورِ عشتار ..
في الشام لا تبكوا ولا تحزنوا... بل ابتسموا وأنتم تتلون الرحماتِ وتقرؤون النعوات... فلربما أكونُ مع الحمائم الحرةِ في سماء باب توما، أو في جسدِ حسونٍ يقفُ على غصنِ شجرةِ زيتونٍ في العمارة، أو مشروع دمّر...
افتحوا مياهَ النوافير، ورشوا ياسمينَكم بماءٍ بارد، رشوا المياهَ أمامَ بيوتاتِكم وفي الأزقةِ والحاراتِ العتيقة.. وأنصتوا لرفيفِ اليمامِ في ساحاتِ الأموي في هنيهاتِ صمتِ الأذانِ المهيب.
فإن رأيتم عصفورًا صغيرًا فوق فسيفساءِ الجنةِ في واجهةِ المعبدِ الأموي، فابتسموا واسْقوني كأسَ ماءٍ بارد، أو أطعموني حبةَ تينٍ انْبلجت.. فهذا يكفيني بعدَ أن عشتُ عمري في حبِ بلادي وحبِكم. السوري: خيري الذهبي".
محمد جميل خضر
تغطيات
الفيلم من سيناريو وإخراج فارس الذهبي
شارك هذا المقال
حجم الخط
من إنتاجه، عرض "تلفزيون سوريا"، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الروائي السوري خيري الذهبي (1946 ـ 2022)، فيلمًا وثائقيًا حمل عنوان "غابة الذكريات... نزهة مع خيري الذهبي"، سيناريو وإخراج فارس الذهبي.
منذ مشهده الأول، كشف الفيلم المشع بوجدانيةٍ لا تخطئها عين إنسان عن مغايرةٍ فارقةٍ في المعنى والمبنى. وقاد مخرجه متنكّبًا خطوات والده عند أعتاب غابة فرنسية، وسائرًا على سيْرها الوئيد، وِجْهات التفاصيل، وتراتبيةَ موضوعات الفيلم بطريقة غير تقليدية ولا مدرسية.
فارس سبق المشاهد المصوّرة في حديقة سان جيرمان بِمتواليات مشهدية متباينة الأزمان لمدينةِ قلبِ خيري: دمشق، مترافقة مشهديات دمشق الأرشيفية مع صوت أحمد حسن يقرأ جزءًا من حوار أجراه مع خيري مركز حرمون للدراسات المعاصرة:
"ولدتُ في مدينة دمشق مُصادفة، وربما كان يمكن لأسرتي أن تكون من حيفا، أو أنطاكيا، أو حلب، أو بيروت، لكنني ولدتُ في دمشق. ومُصادفة كذلك ولدتُ في السنة التي وُلِدَت فيها سورية كبلدٍ مستقلٍّ جديد، ناصع، تحت مسمى "الجمهورية السورية"، لذلك فإنّ سيرتي الشخصية تتقاطع مع سيرة الجمهورية الجديدة، بكل خيباتها وفرحها القليل، واضطرابها وسكونها. كان كلّ جديد على حياتي الشخصية جديدًا على بلدي، التلفزيون والراديو والانقلابات والرواية والتكنولوجيا، كنا أنا والجمهورية السورية نكبر معًا، ونتعلم معًا، نرتكب الأغلاط ونتصالح ونتخاصم. فأنا، مثلها، لم أعش مراهقة طائشة، بل كانت طفولتي ومراهقتي وشبابي متّزنة ومستقرة تخلّلها كثير من العمل والأمل، وإنما بدأت مرحلة الاضطراب متأخرة، كما حال البلد بعد الوحدة والانفصال الذي أثّر فينا معًا عميقًا، حتى خوفنا المشترك من الانقلابات وانتظار المجهول القادم منها، وصولًا إلى سكونية الانقلاب الأخير الذي استمر حتى يومنا هذا، وبعثر حياتنا أنا والجمهورية خصوصًا في العشرية الأخيرة.
وبما أنني والجمهورية توأمان، ففي داخلي دومًا حافز أساسي يدفعني إلى الكتابة والإحاطة بها، كمن يكتب مذكرات شخصية عن شخص عرفه عن قرب، بِعثراته وتلعثمهِ وعقوقِ أولاده وصلاح الآخرين منهم، عن أحلامها وأحلامي، عن جمالها وتأمّلي بها، لذلك فأنا أشعر بأني عشت لأكتب عنها".
شاشتان ومستويان
طيلة دقائق الفيلم الخمسين، عُرضت مشاهده من خلال شاشتيْن؛ واحدة تمثّل النزهة المتعيّنة خلال تصوير الفيلم وبعد وصول خيري إلى فرنسا مرورًا بمصر، بعد خروجه عام 2013، من دمشق، وبالإمارات والأردن، وأخيرًا فرنسا التي لم يَطُل بها المقام قبل دخوله "سفر الخلود"، والشاشة الثانية/ المستوى الثاني أرشيفيٌّ بمعظمه تتناوبه دمشق وعمّان وإسطنبول وأماكن أُخرى.
شاشة الحاضر اقتصرت على خيري وحده يرتدي ما يرتديه الناس عادة عندما يودّون دخول غابة والإبحار في شجرها وطيرها وأسرارها، وأمّا الشاشة الأرشيفية فقد منحت المخرج مساحة مفتوحة لعرض مشاهد من دمشق وعناوين صحف ومجلات تناولت تجربة خيري وسيرته، كما تضمّنت مقابلات حول خيري مع الناقد السوري تيسير خلف، والناشرة التركية (بيرين بيرسا يغلي موت)، وقراءات بصوت روان ترك لفقرات من روايتي "الجنة المفقودة/ من القنوات إلى كفر سوسة"، و"حسيبة"، وفيديوهات لمحاضرات ألقاها خيري في غيرِ مدينة وعاصمة.
شاشة حميمة يتحدث فيها خيري، مثلًا، عن أنواع الطيور التي رآها في وادي الرقّاد قريبًا من نهر اليرموك إبّان خدمته العسكرية مطالع سبعينيات القرن الماضي ضابط ارتباط بين القوات الدولية وحكومة بلده، وصولًا إلى اندلاع حرب أكتوبر/ تشرين في العام 1973، ووقوعه في الأسر، وعن عجائب ذلك الوادي الذي أتاحت وعورته لكثير من الضواري، مثل الضباع والفهود، والطيور، مثل الحجل والحبارى وعصافير الدوري معشوقة قلبه وغيرها، البقاء فيه آمنة مطمئنة.
في الشاشة الحميمة يروي خيري لابنه فارس الطريقة الطريفة والعجيبة التي كان الصيادون يصطادون عبرها الحجل: يصنعون بركة ماء صغيرة، ثم يخلطون الماء بمشروب العرق، وينتظرون الطير الحزين ليأتي ويشرب من بركتهم المثقلة بالكحول، طبعًا لا يتأخر الطير عن ماء يروي عطشه، وقبل طلوع الصباح يكون الحجل قد ورد الوِرد وشرب وترنّح وألقى الصيادون القبض عليه دون أي معاناة، وباعوه بعرقِهِ وثمالتِه.
"في الشاشة الحميمة يروي خيري لابنه فارس الطريقة الطريفة والعجيبة التي كان الصيادون يصطادون عبرها الحجل" |
في الشاشة الحميمة يجلس خيري فوق مقعد عند أبواب غابة الذكريات.. ثم يعرض عليه ابنه التمشّي وولوج أعماق الغابة.. يقوم ويتمشّى.. ثم يجلس.. ثم يعود ويتمشّى.. يتفحّص ثمرة هنا.. يتعرّف على نوع نبات هناك.. يمد يده لابنه بما حصل عليه من نوى وحبّات ومعارف.
في المستوى الثاني، والشاشة الثانية، انهماك على مدار دقائق الفيلم بما أنجزه خيري ليس على صعيد الإبداع الروائي فقط، ولكن أيضًا، على صعيد الحفر المعرفي لصالح الانتصار للإنسان، وإنصاف العدل والحق، والتحديق في معنى الكرامة، ومقامات الشرف، وآفاق الحرية. فيها رؤيته الخاصة به حول خصوصية دمشق، وتراجيدية مصائرها، وفرادة معناها. في تلك الشاشة، يقول تيسير خلف: "كان مهجوسًا بتاريخ مدينته.. حاول أن يستنطق تاريخ دمشق بوعي مختلف عن الوعي الآخر الذي كان يرى في دمشق مدينة آثمة منغلقة تكره الآخرين. أنصف مدينته ومدينته أنصفته، فاليوم وبعد مئة عام وآلاف الأعوام لا يمكن أن تُذكر دمشق من دون أن يُذكر خيري الذهبي".
في الشاشة الثانية الأرشيفية عنوان في صحيفة يقول: "عشتُ كالوحيد أحب التسكّع وأهرب إلى البساتين"، وفيها جزء من محاضرة ألقاها خيري عام 2015 في عمّان يشرح فيها حيثيات ثلاثيّته الروائية "التحولات": "حسيبة" و"فيّاض" و"هشام، أو الدوران في مكان". وفيها يقول إن رواية "صبوات ياسين" تعاين شيزوفرينيا المثقف السوري الذي لا يستطيع أن يكون حرًّا حتى بينه وبين نفسه. في الشاشة الثانية، تقول الناشرة التركية إن نشر روايات خيري ومنجزه الفكري ضرورة تركية، فهو ليس مجرّد مبدع وفقط، بل إنسان حرٌّ، ونبراسٌ يُعلي من شأن الشرف والكرامة الإنسانية، وينحاز للأطفال، وينتصر للمظلومين، ويتمسّك بالروافع العُليا، وما يربطنا به ليس مجرّد إصدارات صالحة للنشر، بل مواقف نبيلة ينبغي تبنّيها، وقيم جمال لا نملك إلا الاحتفاء بها وتمثّل معانيها. وهي في مداخلتها ترى أن أهم وظيفة للأدب هي الحفاظ على كرامة الإنسان، وتؤكد أن خيري واجه أشرس طغيان بقلمه وشجاعته فقط.
فيها غلاف قصة أطفال من كتابته ورسوم ممتاز البحرة عنوانها "سطوح جبّاتا والحمائم". ثم تلتقي الشاشتان لتسرد حكاية شجرة التين العقيم.
في الشاشة الثانية صور للحرب والبوادي والحسكة والبحيرات والأنهار والجولان والفلاحين والمنسيين، وجَملة وخضرة دمشق ونضرتها وجامعها الأموي ومدنيّتها ونساؤها وصورة لسميرة زوجة الراحل وصور للتحولات والتناسخات، ومحاضرة عن لوقيانوس وجدران حَجر وأرض ديار، ومداخلة لخيري من حوار تلفزيوني يتحدث فيها (تلك المداخلة) عن صراع الحمقى في كل حضارة. ومداخلة أخرى يقول فيها إنه ضيّع فردة حذائه مع انطلاق خطبة لجمال عبد الناصر، ويكشف أن أمه لم تغضب بسبب ضياع تلك الفردة، لأنها كانت تعشق عبد الناصر وتؤمن به، كانت ترى فيه الأمل، "وكنّا نرى فيه الأمل، ولعلّه كان كذلك لولا تعيينه عبد الحكيم عامر".
غابة الذكريات
في دقائق الفيلم الأولى، وقبل الإبحار في متنهِ وهوامشِه، يطلع صوت الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة بأغنية "الذكريات"، متصاحبة مقاطع الأغنية الشجيّة النوستالْجية بصور على الشاشة الحميمة لنزهة خيري في حديقة فرنسية، وعلى الشاشة الثانية بمشهديات وأرشيف من طفولته وفتوته وشبابه وزواجه وخدمته العسكرية وبستانه الدمشقي ونشاطاته وغليونه وعناوين الصحف حوله وحول منجزه وحصاد عمره، قبل أن تنتهي الأغنية، ويصبح لدينا شاشة واحدة تحط فيها الطائرة التي حملت الأسرى السوريين المحررين بعد حرب تشرين.
"تقول الناشرة التركية إن نشر روايات خيري الذهبي ومنجزه الفكري ضرورة تركية، فهو ليس مجرّد مبدع وفقط، بل إنسان حرٌّ، ونبراسٌ يُعلي من شأن الشرف والكرامة الإنسانية" |
مشكورًا، أهدى خليفة قصيدته المشحونة بالمعاني لِصانعي الفيلم: "الذكريات تجيء لا تؤذي.. ويأتي راضيًا في الذكريات.. متألقًا في زيّه الحربيّ لم يتعب ولم يذهب
ويلعب ضد كل لاعبين على المكان.. ما غادر الميدان.. لا في السِّلْم مفتقدٌ.. ولا في الحرب مفتقدٌ".
تعميق اليوميّ
في إطارٍ مشهديٍّ قديم يضعنا مخرج الفيلم، ولكنه، وفي الوقت نفسه، يتّقد بحيوية الرؤية الحداثويّة، وما بعد الحداثويّة، لِمفهوم الفيلم الوثائقي، غير المُنتزع من سياقه الإنسانيّ، ولا الغافل عن قيمة غزال شارد في براري الوَجَل.
ومنذ الدقيقة الأولى، يكشف فارس عن دراية لمّاحةٍ بما يمكن أن يحوّل يوميات والده، ونزهته في حديقة بعيدة عن أرض الديار، إلى طرحٍ عميق حول مصائر البشر، وتقلّبات حياتهم، وأنْواء غربتهم، وآلام واقعهم، وأشْجان بوْحهم. وهو لا ينسى أن يسأل والده: أيهما يحب أكثر: العصافير، أم الأدب؟ يبتسم خيري ويجيب إجابة ذكية يُبقي للعصافير فيها مكانتها الأثيرة في قلبه، كيف لا وهو قد تعلم عشقها من أمّه التي كانت في بيت القنوات تفتح لتلك العصافير النافذة كي تزور بيتهم.
إخراجيًّا، فإن تقسيم فارس المشهدية لشاشتيْن واحدة على يمين المشهدية، والثانية عن يسارها، أتاح له، بامتياز لافت، استثمار ثنائية الماضي/ الذاكرة/ المنجز بمختلف صيرورة ذلك وسيرورته، مقابل المتعيّن القائم (ثنائية الماضي/ الحاضر)، وقد وصل خيري إلى مرحلة ما بعد المنجز، وما بعد السيرة، وما بعد قلق الوجود، وصراعاتِه، ودوافع إثباته. إنسان في السبعين من عمر عشق العصافير، ينعم بالرضا، يرفل بأثواب الطمأنينة، يهوى الطبيعة، يتمشّى في واحدة من تجليات تلك الطبيعة، يعاين شجر غابة/ حديقة، يستنشق عبير كائناتها. إنها ثنائية نزهتيْن؛ واحدة في غابة وأخرى في الذكريات.
الوصية الوثيقة
تتجلّى وصية خيري في المشهد الأخير بوصفها وثيقةً لا تموت لشعبٍ لا يموت؛ ومع الدموع على الشاشتيْن، يتناوب الإعلامي ياسر الأطرش من "تلفزيون سوريا"، مع الفنان السوري مكسيم خليل، تلاوة الوصية التي تشلع الروح:
"قلبي الآن يتحول من جوزةٍ خضراءَ يانعةٍ إلى خشبٍ صلبٍ بنّيِ اللون.. فإن حصلَ هذا.. فاحرصوا على غسلِ جسمي بماءِ الفيجةِ البارد، وضعوا في عينيّ المغمضتين برعمَي جوري يانعين أبيضين، وفي كفيّ المضمومتين، في اليمنى حبةَ حصرمٍ شامي، وفي اليسرى حبةَ سكَّر.. قضيت عمري أسير في حواريها، وشوارعِها من دون أن أدركَ أنها كانت تسير في عروقي ودمي.. سكنتني ولم أسكنها، أدهشتني ولم أدهِشها.. افرشوا فوق جسمي ورقًا من شجر الغوطة، وأسفلَه سجادًا دمشقيًا مصنوعًا بأنوال القنوات.
وإن أردتم أطلقوا في جنازتي عصافيرَ أقفاصِكم.. الحساسين والكناري وعصافيرَ الجنة، أطلقوها جميعًا، من شرفاتكم، وأخبروا رعيانَ الحمائم، أن يفلتوا قطعانَهم في يوميَ الأخيرِ فوق الأرض، في سماءِ الشريفة، دعوهم يحومون ويحلّقون، ليملؤوا ساحاتِ المدينةِ وشوارعَها وحدائقَها التي لا تطيق الأقفاص، ولتنثر كلُ سيدة بعضًا من القمح على رخامِ نافذتِها حصةً عن كل جمالِ طيورِ عشتار ..
في الشام لا تبكوا ولا تحزنوا... بل ابتسموا وأنتم تتلون الرحماتِ وتقرؤون النعوات... فلربما أكونُ مع الحمائم الحرةِ في سماء باب توما، أو في جسدِ حسونٍ يقفُ على غصنِ شجرةِ زيتونٍ في العمارة، أو مشروع دمّر...
افتحوا مياهَ النوافير، ورشوا ياسمينَكم بماءٍ بارد، رشوا المياهَ أمامَ بيوتاتِكم وفي الأزقةِ والحاراتِ العتيقة.. وأنصتوا لرفيفِ اليمامِ في ساحاتِ الأموي في هنيهاتِ صمتِ الأذانِ المهيب.
فإن رأيتم عصفورًا صغيرًا فوق فسيفساءِ الجنةِ في واجهةِ المعبدِ الأموي، فابتسموا واسْقوني كأسَ ماءٍ بارد، أو أطعموني حبةَ تينٍ انْبلجت.. فهذا يكفيني بعدَ أن عشتُ عمري في حبِ بلادي وحبِكم. السوري: خيري الذهبي".